ولد
بسيطاً وعاش بسيطاً ومات بسيطاً..
في
أحد الأيام اتصل بي رجل من علية القوم، وقال لي: إني
أبحث منذ فترة عن صديق لي بل من أعز الأصدقاء.. لأنه
كان رفيق دربي في الدراسة، وثالث رجل معنا في الغرفة
في البعثة في مصر، وأردف قائلاً: هل يشق عليك البحث
عن ذلك الرجل الصديق الأديب الشاعر (عبدالرحمن
المنصور)، وتأتيني برقم هاتفه لأهاتفه وأسأله عن
صحته، وأذكره بالماضي أيام الدراسة في مصر؟ قلت له:
وأين يسكن أو يعيش؟ قال بين ظهرانيكم في ربوعكم في
الأحساء، فقلت له: أبداً الأمر بسيط جداً..
ظننت
في أول الأمر أن المنصور هم أسرة المنصور الأحسائية،
فقلت من السهل علي إحضار رقم الهاتف لأن لي صديقاً
من عائلة (المنصور) فيأتيني برقم هاتف الرجل.. ولكن
الأمر غير ذلك (فالمنصور) الذي أبحث عنه ليس (منصور
الأحساء)، وإنما هو رجل قادم من الزلفي أنهكته
الحياة فحل ضيفاً على أهلها، وبعد فترة تزوج فيها،
ثم استوطن بها، ويعيش في مدينة المبرز، ومتزوج من
أسرة كريمة لها مكانتها ووجاهتها الاجتماعية.
عندما
علمت بهذه التفاصيل من بعض من أثق بعلمهم في معرفة
الأنساب اتصلت على صديق لي من الأسرة المتزوج منها
الشاعر (المنصور)، فطلبت منه أن يأتيني برقم هاتفه..
ودقائق ورقم الهاتف بين يدي، اتصلت به على هاتف
منزله فأخبرني أهله أن له مكتباً للاستقدام يقتات
منه وأسرته، وودت في تلك اللحظة أن أتصل به لكن
الوقت أحرجني فأرجأت الاتصال به إلى الغد.
في
اليوم التالي هاتفته على رقم المكتب فرد علي ابنه
طلبت منه أن يتيح لي مهاتفة والده، فقال: الوالد لا
يستطيع المهاتفة، ولكنه يرحب بك في المكتب وبالأخص
بعد صلاة المغرب استسلمت لهذا الأمر، طلبت من الابن
وصفاً دقيقاً لمكتبه، فوصف لي الابن مقر المكتب،
ودعاني للحضور.. صليت المغرب ثم توجهت إلى مكتب ذلك
الأديب.. هالني ما رأيت من منظر الرجل، منهك القوى..
يداه ترتعشان.. محدودب الظهر.. فعل الزمان به شر ما
فعل.. أتت على وجهه عوادي الدهر.. أخاديد جور الأيام
في كلا الخدين. حاجباه يكادان يسقطان على عينيه..
دقيق الجسم.. صوته متهجد لا تكاد تسمعه أو تفهمه إلا
من قريب.. كأنه يحمل هموم الدنيا كلها فوق رأسه.
أمسك
بيدي وأدخلني في غرفة أخرى أظنها للضيوف.. تحدثت معه
دقائق معدودة فسألت عن حاله وحال أهله، ثم قلت له:
إن فلاناً يسأل عنك، ويود الاتصال بك، فما جوابك!!
قال: على الرحب والسعة، استأذنته في الانصراف، فلم
يأذن لي، بل دعاني لمنزله لتناول الشاي والقهوة
والعشاء.. لكني اعتذرت لظروف منعتني من ذلك، ثم خرجت
بعد الاتفاق معه بأن أعاوده في اليوم الذي يليه،
خرجت من عنده واتصلت بصديقه الحميم، وأمليت عليه
أرقام هواتفه.
في
الغد استقبلني وشكرني على هذا المعروف، والبهجة
والسرور تعلو محياه لكنها لم تستطع أن تخفي عوادي
الزمان، سألته ما سر انشراح صدرك؟ رد قائلاً: أتعرف
لماذا؟ قلت: نعم لماذا؟ قال: لأنه بقي في الحياة
أشخاص مازالوا يذكرونني بخير، ويسألون عني بعد أن
نسيني أقاربي وأباعدي، بل جل أصدقائي إلا ما ندر -
وكأني به يلمح إلى مهاتفة صديقه العزيز له- وفي لحظة
انشغاله ببعض الأوراق أسر لي ابنه حديثاً فقال: إن
والدي نادراً ما كان يضحك أو يبتسم!! حتماً استغربت
ذلك!! لأني لا أعلم سر اليأس والبؤس والهم الذي جعله
عابس الوجه.. المهم سلمت عليه سلاماً حاراً حاولت
فيه مداعبته، لكنه كان حازماً فالبسمة والضحكة لا
تجد لها مكاناً على شفتيه، وكالعادة أمسك بيدي
وأدخلني غرفة الضيوف، وكان بجعبتي كتاباي اللذان
ألفتهما لأهديه إياهما، ففاجأني هو الآخر -أيضاً-
بنسختين من كتاب (من رواد الشعر السعودي الحديث
عبدالرحمن المنصور المولود بالزلفي عام 1920م) تأليف
الأستاذ محمد بن عبدالله السيف، نسخة لي ونسخة
لصديقه، فالكتاب يتحدث عن شخصه.
بعد
ذلك طلبت منه أن يحدثني عن ثلاث محطات في حياته..
الأولى: حياة الطفولة، والثانية: الحياة العلمية،
والثالثة: الحياة العملية.. واعذرني أخي القارئ فأنا
من المغرمين بهذا اللون من الأدب وهو قراءة أو سماع
السير الذاتية وبالأخص من أصحابها.
في
البداية تحدث عن طفولته في مدينته ومسقط رأسه
(الزلفي) حيث الأرياف، واللهو واللعب في الحقول وبين
الوديان مع أخوته وأبناء عمومته وأترابه.. كان يسرد
علي ذلك، وغصة البكاء في حلقه، والدمع يكاد يطفر من
عينيه.. يصمت قليلاً ويتبعها بتنهيدة حارقة من جوفه،
ثم يتابع الحديث عن حياته وحياة والديه وعملهما في
الحقل وجني الثمار والحبوب، وتحدث عن الجهد الذي
يبذلانه من أجل حفنة من الدريهمات لا تسمن ولا تغني
من جوع يسرقهما التاجر من يديهمها ورغم أنفيهما..
ولأن تلك الدراهم تصرف مرة أخرى على الحقل لزراعة
القمح والذرة والأرز وغيرها من المحاصيل.
بعد
فترة صمت خيم علينا السكون استغربت، وأنا وجل، ثم
استل الكتاب من يدي وفتح على إحدى قصائده وطلب مني
أن أقرأ قصيدته الرمزية عن حياته وحياة والديه.. في
البدء اعتذرت إليه، وقلت: أود أن أسمعها منك، أخذ
الكتاب من يدي، وبدأ يقرأ القصيدة الرمزية التفعيلية
ثم شيئاً فشيئاً فشيئاً حتى انفجر باكياً .. اضطرب
قلبي على حاله، وعز علي أن أرى رجلاً في هذه السن
يبكي فبكيت معه، وأسفت لذلك، وقلت له: أرجو ألا أكون
قد نكأت جرحاً في قلبك كان مندملاً.. مسح الدمع من
عينيه وخديه، ثم هدأت نفسه، وبدأ يفسر لي أبيات
القصيدة الرمزية بل الغارقة في الرمز حتى عرفت
مغزاها وما ترمز إليه، فقلت ما سر هذا البكاء؟ قال:
هكذا أنا، ثم قال: من كثرة البكاء جف مدمعي، فذكرت
قول الشاعر الأحنف ابن قيس:
نزف
البكاء دموع عيني فاستعر
عينا
يعينك دمعها مدرار
من
ذا يعيرك عينه تبكي بها
أرأيت
عينا للبكاء تعار
وبعد
فترة من الارتياح عرج بنا للحديث عن المرحلة الثانية
وهي: مرحلة تعليمه الأولى في مدينته ومسقط رأسه
الزلفي، فدرس في الكتاتيب، وتعلم القراءة والكتابة،
ونتفاً من العلوم والمعارف الأولية، ثم انتقل إلى
الرياض باحثاً عن العلم والمعرفة بنفس وثابة متطلعة
إلى المجد، ومنها إلى مكة حيث الحضارة والعلم، فدرس
على علماء الحرم المكي دروساً في العلوم الشرعية
والعربية حتى أجادها، وأحسنها، وأبدع فيها، ومنها
ابتعث إلى مصر للدراسة بها في الخمسينيات والستينيات
الهجرية، على حساب الدولة، وفي كلية اللغة العربية
بجامعة الأزهر الشريف، وبعد أن تخرج أخذ دبلوماً في
التربية وعلم النفس ليعود إلى الوطن معلماً.
يقول
عن تلك المرحلة: هناك -يعني في مصر- ولدت من جديد
حيث الحرية.. وحيث الكتب والمكتبات، ثم قال: كنت في
بعض الأحيان أشتري الكتب وأقرؤها في حينها، وفي
الأكثر كنت أكتري بعض الكتب فإذا فرغت من قراءتها
أعدتها لصاحبها، ويبادر فيقول: -أيضاً- كنا في
البعثة نتبادل الكتب للقراءة والاطلاع، وكنت أسرعهم
قراءة، بل ربما قرأت الكتابين أو الثلاثة في يوم
واحد، لأن متعتي كانت القراءة، فتكونت لدي حصيلة
علمية فائقة.
ثم
انتقل بي (المنصور) للحديث عن المرحلة الثالثة وهي:
مرحلة العودة إلى الوطن، مرحلة العمل من أجل النهضة
ببلادنا عام 1954م، كان (المنصور) يتوقع أن يلحق
بوزارة المعارف معلماً لأنه تعلم في الأزهر وفي كلية
اللغة العربية وحاصل على دبلوم في التربية وعلم
النفس، لكن الأمور جرت على عكس ما كان يتوقع، فالملك
فيصل -رحمه الله- أمر أن يلحق بوزارة العمل والعمال،
فعين في أول الأمر مفتشاً، وتدرج فيها حتى أصبح
مديراً عاماً بالوزارة، وبدأ في وضع الأنظمة
والقوانين والخطط فنهض بالوزارة نهضة رائدة، حتى أن
ما سنه من أنظمة وقوانين في وزارة العمل مازال يعمل
بها إلى اليوم.
أخذ
المنصور تنهيدة حارة مرة أخرى، وقال لي: في هذه
المرحلة عشت مرارة الحياة، وقساوتها، وضراوتها حيث
جرت لي أحداث كذا وكذا.. لا يحسن ذكرها هنا، وبعد
تلك الأحداث الجسام قدم (عبدالرحمن المنصور)
استقالته من العمل، وكان متوقعاً أن يعود إلى مدينته
(الزلفي) لكنه ولى وجهه شطر هجر، وحل ضيفاً عزيزاً
على الأحساء، وفيها مارس الأعمال الحرة حتى وفاته
رحمه الله.
سألته
على خجل: لماذا نزحت إلى الأحساء؟ قال: لما سمعته من
كثير من الناس، والأعيان عن طيبة أهلها وبساطتهم في
العيش والحياة، وأنهم أهل ود وكرم، وأهل حب وصفاء
وإخلاص وهذه هي الحياة التي كنت أبحث عنها.. فأحببت
الأحساء وأحببت أهلها الكرماء، فبزت الأحساء مدينتي
ومسقط رأسي (الزلفي).
كان
(المنصور) أديباً وشاعراً مجيداً من شعراء الشعر
الحديث أو الشعر الحر (شعر التفعيلية) حيث الغموض
والرمز، حتى أنه قال: أنا أول من أدخل الرمز في
الأدب السعودي، سألته وكيف تم لك ذلك في تلك الظروف
القاسية حيث الفكر الشيوعي والتحرر وازدهار الحركة
التقدمية؟ قال: من خلال قراءتي لشعر رواد الحداثة
آنذاك مثل الشاعرة نازك الملائكة وأدونيس ونزار
قباني وغيرهم، وتأثرت كثيراً ببدر شاكر السياب وأحمد
مطر، ورأيت أن الشعر عند هؤلاء يعيش في حرية، فهو
ينطلق من قيود الوزن والقافية، وقيود أخرى.. هي التي
جرت على تلك الأحداث، بعد هذا كله يقرر (المنصور) عن
الشعر الحر فيقول: إن شعر التفعيلة ليس كله جميل بل
أكثره هراء.
كره
(المنصور) الشعر في فترة من حياته، وبالأخص في
المرحلة العملية، لأنه اتهم بأنه من دعاة الشيوعية،
ومن رواد الحركة التقدمية، وهو بريء منها براءة
الذئب من دم يوسف عليه السلام.
كتب
عن (المنصور) عدد من كبار الأدباء والمثقفين أمثال
الشيخ الأديب عبدالرحمن العبيد في كتابه أدباء من
الخليج، والأديب الشاعر أحمد صالح الصالح (مسافر)
حيث عد المنصور من رواد الشعر السعودي الحر، وكذا
كتب عنه الأديب المؤرخ عبدالله الشيخ علي الجشي،
والأديب حسين بن محمد بافقيه، والأديب يوسف الشيخ
يعقوب، والأديب عبدالله بن أحمد الشباط، والأديب
عبدالعزيز عبدالرحمن السنيد، أما محمد بن عبدالله
السيف فقد ألف عنه كتاباً بعنوان (من رواد الشعر
السعودي الحديث عبدالرحمن المنصور، ط 1، 2003م)
وغيرهم كثير.
وبعد
رحلة قصيرة وسويعات قليلة طلبت منه إجراء حوار صحفي
يدور حول الفكر والثقافة والأدب، تردد كثيراً في أول
الأمر ثم استجاب لإلحاحي عليه، ورحب بالفكرة،
وانتظرني طويلا طويلا، لعلي أفاجئه، ولكن كثرة
أشغالي وتسويفي أنستني إياه حتى فاجأني نبأ وفاته
يوم الثلاثاء 19-2-1429هـ.
رحل
الضيف (المنصور) وبقيت أسئلة الحوار على المنضدة
حائرة!!
أخيراً
أود أن أفصح لكم عن ذلك الرجل الذي طلب مني البحث عن
هاتف صديقه الأديب الشاعر عبدالرحمن المنصور إنه
معالي الوزير الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر
الذي أبى قلمه إلا أن يرثي صديقه الحميم (المنصور)
نثراً ذاكراً بعضاً من مآثره ومحاسنه وذكرياته
الماتعة معه أيام الدراسة في مصر (1).
من
جميل شعره هذه القصيدة بعنوان:
ميلاد
إنسان (2)
أنعيش
والمحراث والفأس الثليم
والأرض
نزرعها ويحصدها الغريم؟!
وكآبة
خرساء..
تقضمنا
على مر القرون
لا
بهجة..
غير
الكآبة والأنين
والأرض
نزرعها ويحصدها الغريم
رباه:
هل نبقى كهذي الساقية
أبداً
تئن
فتضحك
الأقدار منها هازئة
أبداً
تئن
فصباحها
كمسائها
مكلومة
تشكو على مر القرون
والناس
تحسب شجوها الباكي لحون
فرمى
أبي المحراث وانثالت شجون
لا
تجزعي..
فلقد
تباركنا الحياة.. فتفرحين
وتهاملت
منها دموع
وتلاعبت
فيها ظنون
ويشب
في أعماقها.. لهب حنون
رباه
فاجعل بكرنا.. هذا الجنين
عونا..
على دهرٍ.. تهضمنا خئون
وتمر
أعوام..
وحملق
في القطيع
سيئ
صغير
شيء
فظيع
شيء
تضيق به الطريق
ملامحه..
تمرده
رضيع..