| |
-
زمن للسجن...أزمنة للحرية/ علي الدميني .
بسم الله الرحمن الرحيم
كن
أيها السجن كيف شئت فقد / وطنت للموت نفس معترف
لو
كان سكناي فيك منقصة/ لم يكن الدر ساكن الصدف
المتنبي
غرفة,
ربما لا تجد لك موطئ فيها !, تحتوي على أربع جدران ونافذة صغيرة لا تطل على
شيء, وبطانية تنبعث منها رائحة الموت , الكامن في الغرفة الصغيرة المجاورة,
تسمى مجازاً حمام, وجميع ما سبق يسمى زنزانة, كانت مسرحاً لـ ذكريات
ديستوفسكي,ومن أعماق أوسكار وايلد, وسدود وقيود العقاد, ورائحة صنع الله
إبراهيم,وكراديب الحمد, وسنة مصطفى أمين, وفي زنزانة علي جريشة,وأيام من حياة
زينب الغزالي, وبوابة أحمد رائف,ورحلة نجيب الكيلاني,وولد السعدني,وسجينة مليكة
أوفقير,وحدائق أمها فاطمة, و ينضم إلى هذه الكوكبة الكبيرة زمن علي الدميني
أخيراً, وليس أخراً, فلازال هناك أدب للسجون ما دامت هناك سجون.
لا يشك عاقل في
أن السجن محطة انتظار على طريق الموت, والموت هنا ربما يعني البداية والحياة من
جديد, كما يقول العقاد عند قبر سعد زغلول بعد خروجه من السجن:
إلى الذاهب الباقي
ذهاب مجدد / وعند ثرى سعد مثاب ومسجد وكنت جنين السجن تسعة أشهر /
فهاأنذا في ساحة الخلد أولد ولطالما كانت هذه
الحياة الجديدة إعلان مولد إبداع وتفتق موهبة كامنة, وممن تفتقت موهبتهم في
السجن الزعيم اليمني محمد أحمد نعمان, وكان ساخراً مشهوراً وروّاية للشاعر
الزبيري, الذي قال عن السجن: خرجنا من السجن شم الأنوف
كما تخرج
الأسد من غابها ونأبى
الحياة إذا دنست بعسف
الطغاة وإرهابها. وكان
على رأس وفد يمني إلى القائد المصري جمال عبد الناصر ,إبان الحرب الأهلية
اليمنية (بين الملكية والجمهورية), وكان عبد الناصر لا يثق في النعمان, ويقول
عنه عقله مع مصر وقلبه مع الملك فيصل, فما إن وطئت قدمه المطار حتى أودع عبد
الناصر الوفد بأكمله في السجن الحربي,ومن القصص الطريفة التي يحكيها النعمان,
أنه كان يطلب من الحارس الذهاب إلى الحمام فلا يأذن له وهو المريض بالسكر, فقال
قولته الشهيرة: (كنا نطالب بحرية القول,فأصبحنا نطالب بحرية البول), وأيضاً من
طرائف النعمان أنه قال في ندوة شعرية ببلودان السورية: هناك نوعان من الشعر في
اليمن ...شعر في مدح الإمام وشعر في رجاء العفو منه. (والإمام هو حاكم اليمن ),
والشاهد أن النعمان أبدع شعراً بعد خروجه من السجن(للأسف لم أجد قصيدته على
الشبكة), لذا أدعو كل من يظن بأن لديه موهبة كامنة باقتراف جرم يستحق السجن
أكثر من تسع أشهر, ويجب أن يكون الجرم سياسياً لتتأكدوا من حصولكم على كافة
الأدوات اللازمة لإظهار الموهبة الكامنة .
زمن للسجن وأزمنة
للحرية, كتاب رائع في محتواه, فريد من نوعه؛ فلا أذكر أني قرأت توثيقاً لمسيرة
الحركة الدستورية السعودية ووصفٍ للسجون السعودية قبل هذا الكتاب, إن استثنينا
كراديب تركي الحمد, لأنها رواية وتخضع للأدوات
السردية. ينقسم
الكتاب إلى ثلاثة أقسام, أولاها سرديات, يحكي قصة نضاله من خلف القضبان , وهو
طبعة جديدة من كتاب (نعم في الزنزانة لحن), وثانيها مقالات ووثائق مسيرة
الإصلاح, وثالثها ما قاله الشاعر من شعر أثناء سجنه, والكتاب معروض في منبر
الحوار والإبداع, وسأنقله إلى هنا, بكل من ما أمتلكه من همة ونشاط ومواهب كامنة
أخرى .
يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى
الظلاما ليس بعد الليل إلا فجرَ مجدٍ يتسامى إيه يا أرضَ
الفخارِ يا مقّر المخلصينا قد هبطناكِ شبابًا لا يهابون
المنونا وتعاهدنا جميعًا يومَ اقسمنا اليمينا لن نخون
العهدَ يومًا واتخذنا الصدقَ دينًا ايّها الحُراس
عفوًا واسمعوا منّا الكلاما متعونا بهواءٍ منعه كانَ حرا
مًا لستُ والله نسّيًا ما تقاسيه بلادي فاشهد يا نجم أنّي
ذو وفاءٍ وودادِ يا رنينَ القيدِ زدني نعمةً تُشجي
فؤادي إن في صوتك معنىً للأسى والاضطهادِ لم أكن يومًا
اثيمًا لم أخن يومًا نظاما انما حب بلادي في فؤادي قد
اقاما
عُدّل الرد بواسطة عمر بك :
21-04-2008 في 01:31 PM
صاحبي.. ما الذي غيركْ ما الذي خدر الحلم في صحو عينيك من لف
حول حدائق روحك هذا الشَرَكْ
الثبيتي
-
البداية !
إهداء
إلى الدكتور أبو بلال عبد الله الحامد والدكتور
متروك الفالح صديقي القضية، وزميلي الموقف
وإلى كوكبة عشاق الوطن
الذين مضوا على الطريق الصعب نحو فضاءات الحرية
الفهرس
القسم الأول : ســــــرديات ...............................................
9
القسم الثاني : مقالات و وثائق:
1 - الكويت...و تداعيات
الضفاف الأخرى...................................... 101 2 - المطالب
الوطنية للإصلاح السياسي (1) حراك يدوّن خطواته............ 117 3 -
المطالب الوطنية للإصلاح السياسي (2) سيرة طويلة... وباب واحد...... 139 4
- الإدعاء العام لائحة دعوى عامة.............................................
145 5 - المجتمع المدني ودوره في الحدّ من العنف والإرهاب مرافعة
أولى............ 151 6 - تفنيد التهم الواردة في( لائحة دعوى عامة )مرافعة
ثانية ................ 169
القسم الثالث : قصائد من السجن 1 -
للأيام الخضراء........................................... .................
189 2 - محاولة............................................
........................ 190 3 - سوف
تصعد.............................................. ..................
191 4 - جاري السلفي............................................
.................. 192 5 - يا سادن
السجن............................................. ............... 194
6 - نهر الغياب............................................
..................... 196 7 - كلمات للقيد.. وأغنية
للحرية............................................ ... 198 8 - بروق
الأسير الفلسطيني......................................... ...........
204
-
نعم, في الزنزانة لحن !
القسم الأول سرديات
سرديات لا تعتذر عما فعلت أقول
في سرِّي. أقول لآخري الشخصيّ : هاهي ذكرياتك كلّها مرئية محمود
درويش
لا تنحصر استفادتي من السجن في امتلاكي الوقت، الزائد عن الحاجة،
للاختلاء بالذات، وإنما لتأمل ما يستحق التسجيل أو النسيان على السواء. و قد
وجدتني أمام ذكريات متشعّبة، تحتاج إلى كثير من إعادة الترتيب، وهو ما يصعب
عليّ، و لذا وجدت أن تحويلها إلى شكل من أشكال السرد سيحرّرني منها، ويفتح
الباب أمامي لكتابتها. من أين أبدأ ؟ من اللحظات الأولى للحادثة، أم من
نهايتها التي لم تكتمل بعد! وبعد محاولات كثيرة للعثور على لحظة التدوين،
وجدت أن اختيار هذا اليوم، سيمكّنني من مراوحة التنقل بين أزمنة وأمكنة عديدة،
ولذا اخترته للبدء. في مساء هذا اليوم،أكون قد أكملت مدة 26 يوما في سجن
المباحث (الكائن في سجن الدمام القديم) وهي مدة كافية لمثلي لتجاوز مرحلة
التحقيق والتكيّف مع مناخ المعتقل الانفرادي. واليوم هو السبت
12/4/2004م،بداية الأسبوع،وعودة الطلاب والموظفين إلى أعمالهم، وما يبعث في
النفس آمال تحريك قضية اعتقالي من جديد، وكنت أتقلب على فراشي في غرفة السجن
الثانية، التي تم تحويلي إليها منذ أسبوع،بعد أن اتضح للمحققين ـ حينها ـ عدم
قبولي بكتابة تعهد يلزمني بالتوقف عن ممارسة أي نشاط يتعلق بالمطالبة بالإصلاح
السياسي والدستوري في المملكة. داعبني قلق متشعب طرد احتمالات النوم بعد أن
أيقضني الحارس لصلاة الصبح،وحين رأيت ألا فائدة من الالتفاف بالبطانية،نهضت في
السابعة لتناول الفطور الملقى أمام الباب،وأردفته بتناول أدوية
(السكر)،والفيتامين وكوب الشاي،ووضعت الجرائد أمامي لبدء يوم جديد. - البس
ثيابك، قالها الحارس مستعجلا،ولم أسأله إلى أين ؟ أخذني ومرافقه عبر ممرات
لم أتعرف عليها من قبل حتى دخلنا بهواً معبأً بالحياة : استوديو تصوير، مستودع
ملئ بالمعلبات،والكراتين، وكانت مكاتب عديدة تفتح على هذا الفناء المستدير
والأنيق في نفس الوقت. لم أتمكن من التمتع بهذا الفضاء حتى أدخلني الحارس
إلى غرفة التصوير. وضعوا(العقال) على الرأس،ونزعوه،ثم أزاحوا (الغترة)،
أداروني يمينا وشمالاً،مرة بالنظارة،وأخرى بدونها ،ورحت أتساءل عن نهاية هذه
الحفلة من التصوير التي لم أجدها حتى في الاستوديوهات المتخصصة ،حين كنت أحرص
على الحصول على صورة ملائمة أرسلها للصحف لتنشر مع قصائدي أو
كتاباتي! وبعدما أعشت عيناي فلاشات الكاميرا،أخرجني الحارس ومضى بي إلى قسم
البصمات،فأبلغتهم أنهم قد أخذوا بصماتي خلال اعتقالي الأول في نهاية عام
82م،لكنهم قالوا إن تلك البصمات تخص قضية أخرى. تولى أحدهم تقليب الأصابع
العشر في الحبر الأسود وتثبيتها على كروت صغيرة،بلغت عشراً،لكن بعضها لم يكن
واضحاً ،فأعدناها حتى امتلأت اليدان والثوب بسواد الحبر. أحسست بالضيق،
والمرارة، وقلت لهم بأنني لست إرهابياً، وإنما أنا واحد من دعاة الإصلاح
السياسي، الذين اختطوا الطريق السلمي لمطالبة القيادة بإصلاح أوضاعنا قبل أن
تغرق السفينة ومن عليها. قال أحدهم : هذه أوامر ولابد من تنفيذها. فقلت
له، أتمنى لو أنكم وفرتم جهودكم هذه لمن يستحقها،أما أنا فلم أحمل السلاح،ولا
أعرف كيف أستخدمه، ولم أطلق في حياتي إلا رصاصة واحدة نحو الفضاء في حفل زواج
في قريتنا،أما الطلقة الثانية فقد علقت في قصبة المسدس الصغير،وسببت لي حرجا
أمام والدي وأمام المحتفلين بتلك المناسبة،ومنذ ذلك اليوم، الذي كان عمري فيه
لم يتجاوز الثانية عشرة ،(غسلت يدي) من السلاح! ابتسم الحارس،وكدت أقول
له،إنني انتميت إلى حزب سياسي،ولكن ذلك الحزب لم يكن يتوسل في نضاله بالحرب
الشعبية، وإنما يراهن على حركة الجماهير، ولو أنه تبنى (الكفاح المسلح) سبيلا
للتغيير لكنت أول من يخرج منه، بل وكنت أول من يقف ضده. أبقيت كلماتي في
صدري وكان الحارس يعيدني إلى غرفتي قائلاً : لا تغضب فهذه الإجراءات علامات على
الإفراج عنك ! ـ بدون تعهد!... ، أجاب،لا أدري. ـ هذه ليست علامات
أفراج وإنما نقل من هذا السجن إلى آخر،وقبل أن أكمل الجملة،أطل ضابط التحقيق من
آخر الممر وقال بصوت عال : عجل في تجميع أغراضك لأننا سنذهب إلى الرياض. يا
للأغراض..! كتب قديمة منها الجزء الرابع من (الأغاني) وجزء من العقد الفريد،و
المفضليات،والنقد المنهجي عند العرب، وكنت قد حددتها لزوجتي لكي يسمح بدخولها
للسجن، ولكن الأهم، هو حزمة من الصحف احتفظت بها منذ سمح لي بالجرائد في اليوم
الثالث للاعتقال،وقد بدأتُ بوضع أرشيف وخلاصات مقتضبة، دونتها في كراس صغير
لأهم تلك المواضيع. تعلمت توطين نفسي ـ منذ انتقالي من الغرفة الأولى إلى
هذه ـ ، على السجن الطويل، وتقبل الأمر الواقع، ومحاولة الاستفادة من الوقت في
الرياضة بالمشي في الغرفة أو بالقراءة وحفظ بعض المقاطع الشعرية. وقد
أعجبتني مقالة احتفائية بشعر (نزار قباني) نشرت في صحيفة الجزيرة،وأوردت بعض
مقتطفات من قصائده لم أكن قد قرأتها من قبل. وفي زمن العزلة والتأمل ازددت
إعجاباً بشاعرية هذا العملاق الذي أتقن امتلاك أسرار أناقة الكلام، والتعامل مع
اللغة كامرأة غمست قامتها في عبق التاريخ وخرجت منه إلى صخب الحاضر،وهي تركض
على رمل الشواطئ، عارية القدمين،وصدرها متشح بجمر الحنين وبهجة الحياة،وحفظت
بعض تلك الأبيات ومنها : (فرشت فوق ثراك الطاهر الهدُبا فيا (دمشق) لماذا
نبدأ العتبا؟ حبيبتي أنتِ... ميلي مثل أغنية على ذراعي ولا تستوضحي
السببا شآم أين هما عينا معاويةٍ وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فلا
خيول بني حمدان راقصة زهواً،ولا المتنبي مالئٌ حلبا) قمت أبحث في ما
اخترته ـ خلال ستة وعشرين يوما من جرائد ـ للأرشفة، فاكتشفت أن العجلة، ومطالبة
المحقق بالإسراع، حرمتني من اصطحاب بعض ما وددت الاحتفاظ به،ولا سيما ما يتعلق
بأخبار قضية اعتقالنا، ولم يكن هناك من الوقت ما يكفي للاختيار،فانتزعت بعضها
ووضعته في كيس ملابسي وأدويتي، ومضيت خلفه إلى السيارة الواقفة أمام باب
العنبر. ركبت في صندوق السيارة ،وبقيت محدقاً في الباب الذي خرجت منه.
أتذكره جيداً،لأنه أول باب رمادي أقابله حين عبرت إلى داخل سور السجن،
بصحبة النقيب سعيد الزهراني واثنين من زملائه في الساعة الثانية عشرة ظهراً من
يوم الثلاثاء 16/3/2004م. وحين رأيت السجن الكبير من الخارج دارت عجلة التذكار.
إنه سجن الدمام المركزي الذي بني معزولاً، على رأس تلة تطل على سهوب صحراوية
تؤدي من جهة الشمال إلى أطراف الدمام القديمة،وقد عرفت أن الكثيرين من
المعتقلين والمطالبين بالإصلاح قد قضوا فيه سنوات طويلة من أعمارهم،مثل الشيخ
الأديب عبد الكريم الجهيمان الذي أمضى فيه مدة قاربت أربع سنوات ،وقد شاركه
جزءاً منها الأديب الوطني عابد خزندار، وعدد من المعتقلين السياسيين من قيادات
الحركة العمالية الذين أمضوا جزءاً من مدة سجنهم في سجن العبيد بالأحساء،
واستكملوا المدة المتبقية هنا. ومنهم المرحوم سيد علي العوامي، الذي أمضى في
السجنين، وفي سجن جدة مدة تفوق عشر سنوات متواصلة،وكذلك يوسف الشيخ يعقوب،و عبد
الرحمن البهيجان، والمناضل البحريني خليفة الخلفان، وصالح الزيد، حيث مكثوا في
السجنين،مدداً تتراوح بين الثلاث والعشر سنوات، أما المناضل العمالي محمد ربيع
فقد توفي في سجن العبيد بالأحساء عام 53م، حيث تركت جثته مسجاة لمدة يومين حتى
عمت الرائحة المكان. ولخليفة الخلفان قصة طريفة تذكر أنه كان أحد المناضلين
في صفوف الحركة الوطنية البحرينية، وقد طرد من البحرين، ومنع من العودة إليها،
فسافر إلى الشام،وبعد مدة عاد إلى (الخبر) لكي يكون قريباً من البحرين، منتظراً
الوقت الملائم لاستقبال تباشير إمكانية العودة إلى الوطن. ولكنه تعرف في الخبر
على بعض أعضاء الحركة العمالية ومشاركيهم في نشاطهم السياسي، واندمج في العمل
معهم،وتم اعتقاله لمدة عشرة أعوام متصلة ،إلا أن تراجيديا قوانين (دلمون)
آنذاك، منعته من العودة إلى بلاده. ومذ رأيت هذا الباب الرمادي، قبل دخولي
على مدير قسم المباحث، (في مقر السجن القديم) تأكدت بأن الأمر ليس عادياً، وأن
احتمال بقائي عندهم أمر مرجح، وعليً أن أكون مستعداً لذلك. وفي الحقيقة فإن
طريقة اعتقالي من مكتبي في البنك، قد وضعتني منذ البداية أمام احتمالات السجن،
لأنها تمت بأسلوب محترف لا يستخدم عادة مع مثقف، يخاطب القيادة مع المئات من
المواطنين، بكل تقدير واحترام، بل أن ذلك الأسلوب، لا يتسق مع مجريات اللقاء
الذي تم بيني وبين سمو الأمير محمد بن نايف في مكتبه بوزارة الداخلية بالرياض،
قبل أسبوع من يوم الاعتقال. كان لهذا الصباح طعم مر تلمسته في الطريق إلى
العمل،وفي زحام السيارات داخل الدمام ،وكنت قد عدت إلى مكتبي من زيارة عمل في
حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً. وحينما جلست وبدأت أتصفح بعض الأوراق
الملقاة على طاولتي،دخل عليّ شخص لا أعرفه، فسلم وجلس على الكرسي بجوار المكتب،
وقبل أن أبادله التحية،أخرج بطاقته وقال : أنا النقيب سعيد الزهراني،من
المباحث،وأطلب منك مرافقتنا إلى الإدارة لحديث قصير. أجبته بالموافقة وقلت
له : لماذا تضيعون وقتكم في استدعائي،ولو أنكم اتصلتم بي هاتفياً لحضرت إلى
مقركم بدون تردد. كانت المكاتب القريبة مني خالية من الزملاء،وكنت أشعر
بالرغبة في التبوّل، وأبلغته بأنني سأذهب إلى الحمام. وافق على ذلك ولكنه تبعني
إلى هناك،وحين خرجت من الحمام هاتفت الصديق نجيب الخنيزي،وسألته : هل اتصلت
بمكتب الأمير محمد،فأجابني بأن لا أحد يرد على الهاتف الذي أعطاه له سمو الأمير
حينما قابله في مكتبه قبل أسبوع. وهنا تدخل النقيب وطلب مني إقفال الجوال، فقلت
لنجيب إنني لا أستطيع الكلام لأنني ذاهب في زيارة مهمة. فهم نجيب أنني ذاهب
لإدارة المباحث،ولكنه لم يستمتع بهذا الفهم، حيث اعتقلته مباحث القطيف وهو
يرتشف الشاي والشيشة (الجراك)، في المقهى بعد عشر دقائق من مكالمتي. هبطنا
الدرج، ولم أصادف أحداً من زملائي لأبلغه بأنني ذاهب إلى المباحث، وهنا تساءلت:
كيف استطاع المقدم تهيئة المكان والزمان للقبض عليّ، في غياب زملائي عن
مكاتبهم؟ وتذكرت أن أعوانهم موجودون في كل مكان،وكنت أسمع عن أن زميلاً في
نفس المبني يعمل معهم، وقد كنت أستبعد ذلك،أما الآن فقد أيقنت أنه هو الذي
ساعدهم على إنجاح المهمة الصامتة،لأنني رأيته بعد خروجي من الحمام وهو يقف في
آخر الممر! حسناً،هذه وظيفة،وعلى الموظف أن يؤديها على أكمل وجه،بيد أنني
أتساءل عن سر نجاحهم في إلقاء القبض على أحد عشر مثقفاً من المهتمين بالشأن
العام في نفس اليوم والساعة، وعن عدم نجاحهم مع الإرهابيين ؟ في الطريق إلى
سجن المباحث،طمأن المقدم رؤساءه على نجاح المهمة،وأثنى على تعاملي معهم (مصائب
قوم عند قوم فوائد)، وتذكرت روايتي (الغيمة الرصاصية) حين زار (مسعود الهمداني)
(سهل الجبلي) كاتب النص في نفس المكتب الذي كنت أجلس عليه اليوم، وطلب منه
قرضاً،وصحبه إلى خارج المبني،ثم اقتاده خلفه صوب غرب الدمام، ومنها إلى وادي
العيون، حيث أمضى فيه وفي مغاراته أكثر من عشر سنوات. يا للرواية
المنحوسة! اتجهنا إلى غرب الدمام أيضاً، وعبرنا تقاطع شارع ابن خلدون،ومضينا
في شارع الأمير نايف الذي تقع على جهته الشرقية كليات البنات،وكانت لوحة صغيرة
في آخره، تطل علينا بسخرية وقد كُتب على سهمها المدبّب (إلى السجن) ! دلفنا
إلى مكتب المدير، فاستقبلني بحفاوة، وكان رجلاً بشوش الوجه، ويتمتع بصفات
التهذيب والتفهم والإصغاء، غير أنني لم أتعرف على اسمه. وحين سألت عن ذلك في
الأيام التالية، قيل لي إنه (أبو محمد)، ولم أحرص كثيراً على الاسم لأنني أخشى
أن يسكن الذاكرة كما سكنها في سجني الأول عام 82م (أبو ناصر) و (أبو منصور)،
والذين عرفت فيما بعد أن أسم الأول هو (أحمد ناهر) والثاني هو (سراح
الرويلي)،ولعلهما قد تقاعدا الآن، غير أنهما مازالا يشغلان حيزهما الرمزي
العنيف في ذاكرتي. رحب بي (أبو محمد)، وتحدث عن انشغالهم بمكافحة الإرهابيين
وعدم تفرغهم للحديث معنا حول الخطابات والبيانات التي رفعناها للقيادة، وضرورة
التوقف عنها نظراً لما تمر به البلاد من أزمة أمنية. وقلت له إننا لم نقم
بأكثر من واجبنا في التعبير عن آرائنا حيال الأزمات التي نعيشها، وقد أوضحت
رأيي لسمو الأمير محمد نائب وزير الداخلية للشئون الأمنية، ولكنني استغرب منكم
اعتقالي بهذه الطريقة، ووضع اسمي على قائمة الممنوعين من السفر، وكأن لا توجد
بينكم وبين المسئولين اتصالات واضحة. - وكيف عرفت بأنك على قائمة الممنوعين،
قالها مبتسماً. - أجبته : سأحدثك عن هذا الأمر بالتفصيل : اتصل بي شخص لا
أعرفه وقال لي أنه من طرف الأخ نجيب الخنيزي ويود أن يقابلني، فحددت معه موعداً
في مكتبي الساعة الواحدة بعد ظهر اليوم التالي. وقد أحسست أنه من طرف
المباحث، لأنني تلقيت مكالمة مشابهة، في الأسبوع الماضي في حوالي التاسعة
مساءً، من شخص إدّعى أنه من طرف الدكتور متروك الفالح،و عبر لي عن رغبته في
مقابلتي، فاعتذرت منه بكل أسف، وأبلغته أنني ذاهب للرياض، وسأرى الدكتور متروك
هناك على كل حال. وحين قابلت الدكتور متروك في الرياض، نفى أن يكون قد طلب من
أي شخص مقابلتي، ولذا ذهبنا بالرأي إلى أنه من المباحث. وقد استغربت
استخدام المباحث لهذا الأسلوب، لأنني اعتدت منهم أن يتصلوا بي مباشرة، ويطلبوا
حضوري إليهم في موعد محدد، كنت حريصاً باستمرار على الوفاء به في الوقت
المطلوب! وواصلت حديثي : المهم إنني انتظرت صاحبكم الآخر من الواحدة حتى
الثانية،وبعدها تركت مكتبي لإنجاز بعض مهامي العملية،و حين أقلقني هذا الاتصال
المريب، قررت الذهاب للبحرين لاكتشاف إن كان اسمي قد وضع على لائحة الممنوعين
من السفر،وحين بلغت نقطة الجوازات على جسر الملك فهد،طلبوا مني توقيف السيارة
خارج مسار السيارات ومقابلة المسئول. وحينذاك علمت من موظف الجوازات بأنني قد
منعت من السفر لمدة خمسة أعوام، وطلبوا مني توقيع تعهد بعدم محاولة السفر من أي
منفذ بري أو جوي، ولكنني رفضت التوقيع بحجة، ماذا سأفعل إن حدثت كارثة اضطرتني
إلى ذلك،وأن عليكم أن تقوموا بواجبكم في تنفيذ أوامر منعي من السفر. ولذا سحبوا
جوازي وطلبوا مني مراجعة الأمارة في صباح اليوم التالي، الإثنين. لم أكن
أملك الوقت الكافي لمراجعة الأمارة صباح ذلك اليوم،وتكفل النقيب الزهراني بمهام
اعتقالي وإحضاري إليكم، اليوم، كأي إرهابي خطير. وإنني لاستغرب منكم تنفيذ هذه
الإجراءات بعد أن خرجت من مكتب سمو الأمير محمد بن نايف معززاً مكرماً قبل
أسبوع! علًق على كلامي : لا عليك من المنع من السفر،فهذه إجراءات روتينية
احترازية،وقاطعته : حتماً أنت لم تطلع على حديثي مع سمو الأمير محمد بن نايف،
وإلا لما قمت باعتقالي. قال بشيء من الغضب : ربما لم أطلع على التفاصيل،ولكن
حدثني عما جرى في اللقاء. قلت له كمن يحمل سراً ضخماً: لن أحدثك قبل أن آكل
شيئاً،حيث أنني أخذت دوائي ولابد من الأكل. ابتسم،وأمر لي بغداء، لم يختلف
عن غداء مباحث الثقبة، التي اعتقلتني في عام 1982، حيث لم يكن سوى (ساندويتش)
وكوب شاي. تجاذبنا أطراف الحديث، وأشرت إلى أن حرية التعبير مكفولة
للمواطنين في كل دول العالم،وما عبرنا عنه في خطاباتنا للقيادة لم يكن إلا صدى
لمعاناة المواطنين،وعليكم أن تشكرونا على ذلك، لا أن تستدعونا بهذه الطريقة إلى
المباحث. حاول تهدئتي لكي أكمل الساندويتش، وذكر أنه كان في دورة في
بريطانيا، وأنهم كانوا يركزون على ضرورة معرفة الحكومة لآراء الناس في
الصحف،والمنابر، وحتى من خلال المظاهرات. وبعد أن فرغت من غدائي،تهيأت
للحديث عن تفاصيل لقائي مع الأمير محمد بن نايف. استعد للاستماع،فبدأت
: كنت في الرياض، أحضر ندوة في المعهد المصرفي عن التمويل الإسلامي
ومشكلاته، وفي يوم الأربعاء، 26 /2/2004م، جاءتني مكالمة من مكتب سمو الأمير
محمد بن نايف،وحدد لي مدير مكتبه لقاء مع سموه، في الثانية بعد ظهر نفس
اليوم.. قطعت الندوة وذهبت في الموعد المحدد إلى وزارة الداخلية، وحين دخلت
مكتب الأمير كان واقفاً لاستقبالي بالعناق والتحايا الودودة، ودعاني للجلوس في
صالون المكتب. كان اللقاء حميماً وتحدث الأمير معي كصديق يثق فيه، وكنت أسمع
عن تواضعه وحنكته، لكنني لم أتوقع أن أجده على تلك السماحة، والود. وبعد
السؤال عن الأحوال والأهل والإخوان، انطلق سموه في الحديث، وألخص لك هنا المعنى
العام،لا النص الحرفي،حيث قال لي سموه: إن ثقتي وثقة القيادة فيكم كبيرة،
وأنت وأبوك وأجدادك معروفون بولائكم،وليس لدينا شك في ذلك، والقيادة ماضية في
طريق الإصلاح،ولعلكم لاحظتم مستوى حرية الصحافة في الأعوام الأخيرة،والخطوات
التي بدأت مثل ملتقى الحوار الوطني،والانتخابات البلدية، وما سيتبعها من خطوات
في الطريق. كما أود أن أطمئنكم إلى أن أخوانكم رجال الأمن قادرون على مواجهة
الأعمال الإرهابية، التي تتعرض لها بلادنا، وأنهم قد قضوا على جزء كبير
منها،ولكننا ندرك أن المعالجة الأمنية ليست كافية لوحدها، بل لا بد من التعاون
من الجميع في ذلك،من البيت،إلى المدرسة،إلى الصحيفة، إلى الكتًاب والمثقفين. كل
له دوره وعليه مسئولية ذلك الدور. توقف سموه قليلاً وتطلع إليّ،وقال : إن
القيادة تتفهم ما تضمنته خطاباتكم، وهي تعمل وباستمرار على معالجة كافة
الأمور،ولكن القيادة تطلب منكم التوقف عن هذه الخطابات والبيانات، نظراً للظروف
التي تمر بها بلادنا والتحديات التي تواجهها. صمت قليلاً ثم قال: نحن نعرف
تاريخك السياسي القديم، وقد تجاوزناه، ولعلنا قد قسونا عليكم أيضاً لكن ذلك أمر
قد طواه الزمن. وعقبت على كلامه بالقول : إنني أشكر لسموك ما غمرتني به من
حسن الاستقبال، وأنني لا أكّن أية مشاعر عدائية تجاه رجال المباحث، الذين كانوا
يؤدون أدوارهم كموظفين، ولم يكونوا يستخدمون وسائل التعذيب إلا حين تكون
القرائن أمامهم، وقد ذكرت ذلك في روايتي (الغيمة الرصاصية)، كما أنني أتفق مع
ما تفضلتم به بشأن معالجة الإرهاب،ولكن خطابات المطالب التي رفعناها للقيادة هي
تعبير سلمي وحضاري عن الرأي، كما أن دورنا فيها لم يتعد صياغة ما يعبر عنه
المواطنون،وما يتداوله الكتًاب في الصحافة. وإن طلبكم منا بالتوقف عن تقديم تلك
الخطابات ومعالجة قضايا الإصلاح،سوف يرسل رسالتين لهما تأثير سلبي لا يخدم
المصلحة العليا لبلادنا. فالرسالة الأولى ستعمل على إغلاق باب الأمل أمام
المواطنين، الذين تفاءلوا خيراً حينما رأوا أن الحوار العلني حول مطالبهم قد تم
إيصاله إلى القيادة. أما إقفال الباب أمام هذه المطالب الإصلاحية،فإنه سيدفع
الناس إلى الإحباط واليأس،وسيجعلهم يقفون كالمتفرجين على معركة أجهزة الدولة
الأمنية مع الإرهابيين، بل أنه سيدفع بعضهم إلى الصمت أو التشفي،والذهاب إلى
موقع اليائس الذي سيرى أن لا فائدة من هذه الخطابات، وأن الدولة لن تمضي في
طريق الإصلاح. ولن أقول لك إنني وغيري من المهتمين بالشأن العام سنذهب إلى
مساندة الإرهاب ، لأننا ندين الإرهاب من حيث المبدأ كتعبير عن المطالبة
بالإصلاح، كما أننا نحب الحياة، ولكننا سنصاب باليأس، ويغدو الأفق أمامنا
مسدوداً. أما الرسالة السلبية الثانية، فإنها ستتجه للخارج، وسيجد فيها
الكثيرون شهادة حية على أن المملكة لا تريد الإصلاح ولا تمضي على طريقه، مهما
اتخذت من مبادرات، لأن حرية التعبير هي المؤشر الحقيقي الأول، على جدية أي نظام
يسعى إلى الإصلاح. كنت أوجز خلاصة هذا الجزء من لقائي مع الأمير محمد،وكان
مدير المباحث في سجن الدمام (أبو محمد) يصغي إليّ بانتباه شديد، حتى دخل شخص
متجهم الوجه، أصبح فيما بعد ضابط التحقيق معي في الدمام، وانحنى على المدير،
وأسرّ له ببعض الكلام،فأشار له(أبو محمد) بالانتظار في المكتب المجاور، وتطلّع
إليّ،كمن يتساءل،وماذا بعد؟ عاودت الحديث قائلا: لقد عقب الأمير محمد على
كلامي السابق بإبداء موافقته على الآثار السلبية التي ستترتب على إيقافنا عن
متابعة المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل، ولكن سموه أكد على ضرورة الالتزام
بما تراه القيادة، وكرّر تساؤله : وضحت الرسالة. فأجبته : نعم لقد وضحت،فأنتم
تريدوننا أن نتوقف عن كتابة الخطابات المطلبية للقيادة،ولكن هذا الطلب سيفقدكم
ثقة المثقفين والمهتمين بالشأن العام الذين يشكلون سياجاً أمنياً ثقافياً
لبلادنا، حيث يعملون على تصليب الوحدة الوطنية،وإدانة الإرهاب،ورفض التدخلات
الأجنبية، ويعملون على تشكيل وتقوية رأي عام يلتف حول القيادة على ضوء مضيها في
طريق الإصلاح. كما أوضحت لسموه بأنني أنطلق من قناعة صادقة وعميقة حين أؤكد
على مبدأ الوحدة الوطنية، والالتفاف حول القيادة، ولا أصدر في ذلك من حس ثقافي
وحسب،ولكن من قناعة اقتصادية واجتماعية. فالوحدة الوطنية، التي أرسى دعائمها
المغفور له الملك عبد العزيز، صنعت للمواطنين كيان دولة قوية،وتحت خيمتها تم
انجاز مكتسبات اقتصادية واجتماعية لا يمكن التفريط فيها. وأنه حين يتم التعبير
عن (الملكية الدستورية) التي تضمنها خطاب (الدستور أولا)،فإن ذلك يصبح تتويجاً
لحديثنا عن الوحدة الوطنية والالتفاف حول القيادة، وهو ما يعزز شرعية هذه
القيادة التاريخية ويؤكد حقها في قيادة الأمة، ويرسخ الاستمرارية والاستقرار
والمشاركة الشعبية،ويقطع على القوى المتطرفة والإرهابية حبال الوهم بإقامة دولة
(طالبان)،أو على أي قوة عسكرية تنازع العائلة المالكة حقها في زعامة
البلاد. وكان سموه يستمع إليّ بتركيز، غير أنه لم يعلق على كلامي،وانتقل إلى
القول : إن القيادة كانت وما تزال سائرة على خط التطوير والإصلاح،وإن ما صدر
ويصدر من تنظيمات وقوانين خير تعبير عن هذا النهج،ولعلنا لم ننجح في الإعلان
عنها بالشكل الكافي. وهناك الكثير من الإصلاحات قيد الدرس، وسأبذل جهدي للسعي
في عقد لقاءات شهرية بين أحد أعضاء القيادة والمثقفين، لإطلاعهم على خطوات
الإصلاح والاستماع إلى آرائهم في ذلك، وسأعمل على أشراك كافة الشرائح
الاجتماعية من كل المناطق في هذه اللقاءات. فقلت له: هذا مخرج جيد، ولكنني
أرى أنه ينبغي كفالة حق التعبير الفردي لكافة الأفراد ومن مختلف الأطياف
الثقافية والدينية، بما فيهم المتطرفين. قاطعني، ليس لمن يحمل السلاح مجال
في الحوار، فقلت له لا أقصد من نسميهم (بالإرهابيين) ولكنني أقصد أصحاب الفكر
والرأي المتشدد الذين يعبرون عن آرائهم بطريقة سلمية. تململ في قعدته، وكأنه
يريد إنهاء المقابلة، فقلت له: لقد كبّلتني يا سمو الأمير بلطف مقابلتك وبهذا
الطلب، ولكنني أرجو أن تبلغ هذه الرسالة عدداً أكبر من المهتمين بالشأن العام،
لأنني وحيداً، لا أستطيع إيصالها للآخرين. نظر إلي ّ الأمير، للمرة الأخيرة
وقال: أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت. ونهض وهو يكمل حديثه... بأنه لا يريد
تعطيلي عن عملي، وودعني على باب مكتبه بالعناق الحار. وها أنتم يا (أبو
محمد) تجهضون كل مشاعر التقدير التي حملتها لسموه طيلة الأسبوعين الماضيين،
بمنعي من السفر، واعتقالي من مكتبي! نهض (أبو محمد) من كرسيه. وقال : على كل
حال نريد منك إيضاح هذه الأمور للمحقق،وأنا واثق بأن الأمور ستمضي على
خير. ودعته،ودلفت إلى المكتب المجاور،حيث ينتظرني ضابط التحقيق. أصبحت
الآن في عهدة (المحقق)،ولم أسأله عن اسمه،غير أنني أتذكر دائما ملامحه الجهمة
التي تنم عما يخبئه من عنف، لكنني لم أكترث، فليس لدي ما أخافه،وأوراقي معروفة
لديه، بل إنني مصرّ على تعريفه بها،وذهبنا لمكتب آخر يمر الطريق إليه من أمام
باب الزنازين الرمادية الكالحة،وانظمّ إلينا محقق آخر. تحدثنا طويلاً عن
الخطابات المطلبية، والأسباب التي دعتنا لكتابتها وعن أوضاع البلاد وتفاقم
الإرهاب والمشاكل الحياتية التي يعانيها المواطنون،وعن غياب دولة المؤسسات
والقانون وحرية التعبير. وبعد ذلك، فتح دفتر التحقيق أمامي وطلب مني تعبئة
كل البنود المطبوعة في صفحته الأولى. اقتربت من طاولته،وامتشقت قلمي،وعبأت
الفراغات بدون عناء، فقد اعتدت عليها في سجني الأول. وكتب سؤاله الأول، بعد
أن قرأ أوراقا حاول إخفاءها تحت الطاولة. قلت وأنا أهمّ بالإجابة على السؤال :
(أتينا إلى البدء)، وسردت إجابتي الطويلة حول مجمل مشاركاتي في البيانات
والخطابات المطلبية،وما يتعلق بمطالب الإصلاح السياسي من حوارات على
الانترنت،وإذاعة مونت كارلو. (ولكي أفي الموضوع حقه من التفصيل،فإنني سأورد
ما كنت قد كتبته قبل الاعتقال عن سيرة تلك البيانات في القسم الثاني، من هذا
الكتاب ضمن المقالة المعنونة بـ (المطالب الوطنية للإصلاح (1) حراك يدوّن
خطواته) كان المحقق يكتب سؤاله ثم يخرج بسرعة ولا يعود حتى أبلغ الحارس
الواقف بجواري، بانتهائي من الإجابة. وحينما عاد في إحدى المرات، سألني
غاضباً: لماذا تشتم البدو، وتشتمني في بداية حديثك ؟ حاولت أن أتذكر شيئا من
هذا الكلام فلم أجد في حواري الشفهي ولا كتابتي المدونة، ما يدلّ على ذلك. وقلت
له هذا اختلاق منك،فأنا أعتز بأنني قروي وبدوي في نفس الوقت. وقد عشت في طفولتي
في البادية راعياً لأغنام جدي رحمه الله،وكانت بعض القيم البدوية، مثل الكرم
والشجاعة والاعتداد بالذات، مصدر إثراء لذاكرتي الثقافية حيث حفلت بعض قصائدي،
باستعادة تلك القيم النبيلة. وقد قلت في ذلك كمثال فقط. ((يقف الفارس البدوي
على بابك (الخشبيّْ) ، ويسلّمْ كيف حالك يا أخت كيف حال الجميلة في
زهوة الماء؟ وإذ بالجميلة واجمة لا تكلّمْ. يهمز الفارس البدوي جواده
والجميلة تسمع صوت القلادة إن عاشقها مرغم أن يغادر ليلاً بلاده))
قال لي: لقد قلت ذلك عندما بدأت الكتابة في الدفتر. وهنا تذكرت. لقد
أعادني مرأى دفتر التحقيقات إلى الماضي البعيد،إلى ماضي القمع وبطش المحقق
بالمتهم،وإلى أحلام الأحزاب السرية وتبعات الانتماء إليها. وهنا ضحكت،وأوضحت
له تداعيات الذكرى،وأنني قلت: (أتينا إلى البدء)، ولم أذكر البدو يا
صاحبي. لو أن المحقق كان (أبو منصور) لاقتصّ مني،ولكن الظروف تغيرت،والقضية
اختلفت،فلا حزباً سرياً أخشى الاعتراف على أعضائه، ولا أسماء حركية لا أعرف
شخصيات أصحابها، وإنما أنا شريك في قضية علنية عادلة،يتفق معي على مصداقيتها
الفقير،والطالب،وربة البيت،والتاجر،والمثقف، والكثيرون من مؤيدي الإصلاح
السياسي في كافة مرافق الدولة،بل وفي سدة الحكم أيضاً. ولذا فإنني أحاكم
(المحقق)بها،ولا يحاكمني عليها، ويشاركني في ذلك أكثر من ألف شخص من نساء ورجال
بلادنا، ساهموا في إعداد الخطابات ووقعوا عليها، وتمّ نشر اسمائهم في كل
المنابر الإعلامية! ولكنني،بموافقتي على هذا التحقيق قد ارتكبت خطأين :
أولهما،أنني لم أكن مطلعا على نظام (الإجراءات الجزائية ) الذي أصدرته
وزارة الداخلية ـ نفسها ـ فلم أكن أعرف أن من حقي رفض تحقيق ضابط المباحث معي
بدون حضور المحامي. وثانيهما، يكمن في حصر إعداد الخطابات والبيانات بذاتي
شخصياً، أو مع شخص آخر. وكنت في ذلك وريثاً أميناًً لتجربة العمل السري، التي
تقتضي حصر الاعتراف ـ إن وقع ـ بالشخص نفسه، دون ذكر أسماء الآخرين، حفاظاً على
سرية واستمرارية التنظيم. ولم أكن قد حددت بعد الفرق بين العمل السري والعمل
العلني.فالعمل السري يقتضي منك عدم الإفصاح عن أسماء الرفاق للحفاظ على زخم
نشاطهم وفعاليته في المستقبل،بينما يستدعي العمل العلني الإفصاح عن كل الأسماء
المشاركة، لأن هذا جزء من فاعلية العلانية، ومصدر من مصادر قوتها لأنها تراهن
على فاعلية الحضور الآني، والمستقبلي معاً، ولا تتكىء على أحلام الكمون
المستقبلي. لذا فقد اعتبرني المحقق والإدعاء العام متزعماً لإصدار تلك البيانات
والخطابات. وقد غاب عني،أن طبيعة المرحلة وطبيعة هذا النشاط، تستدعي إشراك كل
المساهمين في الإعداد لأي عمل جماعي، إذ أن من شأن هذه الشراكة، أن تخفف من
تبعات الحكم على الفرد بذريعة تزعّم (النشاط)،كما أنها ـ وذلك هو الأهم ـ تشجع
السلطة على اعتقال كل المساهمين في تفاصيل الفاعلية المطلبية، وهذا المطلوب،لأن
ذلك يخلق حالة عامة وواسعة من تعاطف الجماهير، ويمنح القضية مصداقيتها
ومشروعيتها،و إكسابها الزخم الإعلامي اللازم في الداخل والخارج. استمر
التحقيق الكتابي معي من الثانية ظهراً، وعند السادسة مساءً، طلبت من (المحقق)أن
يبلغ أهلي بوجودي لديهم، ولكنه رفض ذلك، واستمر في التحقيق معي حتى السابعة
مساءً. أما الأسئلة فقد تضمنت الكثير من التهم، التي أوردها فيما بعد محامي
الإدعاء العام السيد (عوض الأحمري)، في أول جلسة علنية للمحاكمة بالرياض،
بتاريخ 9/8/2004م، وقد أصبحت معروفة للقاصي والداني،(وسأورد للقارئ الكريم ما
تضمنته مرافعتي أمام القضاء من دفوعات يجد تفاصيلها في القسم الثاني بعنوان
(مرافعة ثانية).) وقد أضاف المحقق تهمة أخرى مفادها،أنني أخلًيت بالالتزام
الذي قطعته على نفسي في لقائي بالأمير محمد بن نايف،حين حضرت اجتماع المهتمين
بالشأن العام الذي انعقد في فندق (كراون)بالرياض يوم الأربعاء26/2/2004م، أي
نفس يوم اللقاء مع الأمير. وهنا سأمنح نفسي مساحة للحديث عن ذلك اللقاء، مما لم
يجر التفصيل فيه خلال التحقيق. وفي الواقع، فإن فكرة عقد لقاء تشاوري بين
المهتمين بالشأن العام،من مختلف مكونات المجتمع وشرائحه ومناطقه،حول الخطوات
العملية التالية،قد طرحت عقب لقاء الموقعين على وثيقة (رؤية) بسمو ولي العهد في
ذلك الاجتماع المبارك الذي توًجه سموه بالقول (إن رؤيتكم هي مشروعي)، مما طمأن
الجميع بأن باب الأمل في الإصلاح السياسي الشامل بات وشيكا وممكنا
أيضاً. وللحقيقة : أسجل،أن الحراك الاجتماعي المطلبي،الذي ساهمت فيه نخب
ثقافية عديدة ،قد ولد بشكل عفوي،واستمر العمل عليه بنفس الطريقة،إلا أن بعض
المساهمين فيه ‘قد تنبهوا إلى أن البدايات العفوية لأي عمل قد تضع نهاياته
المفتوحة على أبواب الريح،ولذا اقترحوا لقاءً مبكراً لمختلف ألوان الطيف
الثقافي المشارك في التوقيع على وثيقة (رؤية) لوضع تصور مشترك لمسيرة المطالب
الإصلاحية وتعزيز فاعليتها في الوسط الثقافي والاجتماعي. وقد جرت مشاورات
عديدة لعقد اجتماع للمهتمين بالشأن العام، وخاصة من الأغلبية الموقعة على
(وثيقة رؤية) والمعبرين عن التيار الليبرالي، ولكن بعضاً من تيار التنوير
الإسلامي خشوا من تصدر التيار الليبرالي لعملية التنسيق، فساهموا في عرقلة
الاجتماع وتأجيله، وحين رأى الليبراليون أن مسألة الاجتماع ولجنة التنسيق
ستكرّس الانقسام المبكر، وافقوا على مضض، بتأجيل الفكرة، بل ونسيانها
تماماً. وقد انعكست هذه الاختلافات على نشاط المجموعة،وبدأت نذر الافتراق
تذر قرنها بين الفريقين، ونجم عن ذلك عدم مشاركة البعض في التوقيع على خطاب
(دفاعاً عن الوطن)،و (معاً على طريق الإصلاح)، وبالمقابل فقد ذهب في نفس طريق
المقاطعة طيف واسع من الليبراليين من الشرقية والرياض وجدة، ولم يوقعوا على
خطاب (نداء إلى القيادة.. نداء إلى الشعب). (وهناك تفاصيل أخرى مهمة حول هذا
الخطاب مثبتة في سيرة البيانات في مقالة (المطالب الوطنية للإصلاح (1) ـ حراك
يدوّن خطواته)) وبعد أن نجح الدكتور الحامد والدكتور الفالح في جمع عدد
يتجاوز الثلاثين، من التيار الاسلامي المستنير من مختلف المناطق، إضافة إلى طيف
واسع من الليبراليين، من الغربية والرياض للتوقيع على خطاب (نداء إلى القيادة..
نداء إلى الشعب)، أحسا بان هناك توازناً ملائماً في نسب التيارين، فتمت الدعوة
للقاء فندق(كراون). وقد دعيت مع عدد محدود من الليبراليين في الشرقية،
لحضور هذا اللقاء بينما تم استبعاد عددٍ كبيرٍ منهم، في الرياض من المشاركة
فيه. وبعد مداولات ووساطات شخصية، تمت دعوة بعض الليبراليين من الرياض إلى
لقاء فندق (الفهد كراون)،ولكننا فوجئنا عند بدء الاجتماع بمشروع معد للتوقيع
دون استشارتنا،كما قال أحد الداعين، بأننا نعتبركم مجرد ضيوف. وهنا أخذ
الحوار مجرىً مغايراً،تمحور حول ضرورة الاتفاق أولاً على اعتماد المشتركات،
لتكون مرجعية لكافة الأطراف،وتم تحديد موعد آخر بعد شهر،للِقاء،واختيار لجنة
التنسيق! ولكن أجهزة المباحث تدخلت لإنهاء اللقاء في الفندق، ويبدو أنها
حددت ساعة الصفر لإلقاء القبض على دعاة الإصلاح السياسي، منذ تلك
الليلة.
-
نعم, في الزنزانة لحن !
ولعل دورة مخرجات الحرية ومخرجات القمع تعيد إنتاج ذاتها في
بلادنا،بشكلٍ مستمر منذ الخمسينات وحتى اليوم ،فكلما تنفس المثقفون والمهتمون
بالشأن العام شيئاً يسيراً من هواء الحرية، وعبروا عن مطالبهم الإصلاحية بطريق
سلمي،هبت عواصف خنق الأنفاس، و انثال حنين زنازن المباحث لأجسادهم من جديد.
ولسوف نرى أن ظروف الانفراج التي لمسناها، من خلال ارتفاع سقف حرية التعبير
في الصحافة المحلية، وما رافقها من مناخ شجاعة الكلمة عبر الفضائيات والانترنت،
عقب أحداث سبتمبر من عام 2001،قد تبعته حركة التفافية سريعة ومضادة لذلك
التوجه. وسنجد أشباه هذا الارتداد على مناخات الحرية النسبية، في حالات
قديمة ـ ولكنها حية ـ مرت بها أشكال الحراك المطلبي في المملكة منذ الخمسينات
الميلادية. ويشير التاريخ غير المدون، إلى المطالب الإصلاحية للنخب الثقافية في
مختلف مناطق المملكة، التي نادت بضرورة تشريع مناخات حرية التعبير، وحرية العمل
النقابي والسياسي منذ 48م، كما عبّرت الحركة العمالية في الشرقية، من خلال
مطالباتها و إضراباتها ومظاهراتها منذ عام 53، بتحسين أوضاع العمال في أرامكو،
باعتبارها أوسع محضن للحركة العمالية النامية، ثم تطور منظور نخبها الواعية
واتسع مجال رؤيتها، ليشمل المهام الوطنية والقومية، فطالبت، عبر حركتها
السياسية والشعبية، في أعوام 56، 58، 61، 66، 67 بضمان الحريات العامة، وحرية
تشكيل النقابات والأحزاب السياسية، وإلغاء القواعد العسكرية والنفوذ الأمريكي،
والابتعاد عن سياسة المحاور الموجهة ضد مسيرة التحرر الوطني العربي، ونادت
بالتضامن مع كفاح ونضال الشعوب العربية، ووقفت ضد قيام اسرائيل على أرض الشعب
الفلسطيني، وضد العدوان الثلاثي على مصر،ونادت بالوقوف مع الثورة الجزائرية،
ونظمت المظاهرات في كل تلك المناسبات،وكان آخرها مظاهرات عام 67م ضد العدوان
الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن،حين رفعت شعار قطع البترول عن أمريكا والدول
الغربية الداعمة لإسرائيل. وقد عمت تلك المظاهرات المنطقة الشرقية، والرياض،
مما شجع الحكومة على قطع البترول عن الدول الغربية وأمريكا لمدة ثلاثة
أشهر. وحين نتوقف أمام مناسبة التقاء المثقفين من دعاة المجتمع المدني
والإصلاح الدستوري في فندق (الفهد كراون) بالرياض، لمناقشة وسائل تدعيم الحوار
مع القيادة السياسية، وما تلاها من اعتقالات، لبعض ناشطي الحراك الاجتماعي في
المملكة، فإن (سيناريو) هذه الحادثة يذكّرنا بحادثة مشابهة جرت وقائعها في
المنطقة الشرقية في عام 58م. ويتفق الواقفون على تفاصيلها بتلخيصها
كالتالي: تمخض نشاط اللجنة العمالية عن الإسهام في تحقيق الكثير من المطالب
للعمال السعوديين في أرامكو، وشجعهم ذلك على بلورة مطالب وطنية عامة، دعوا
القيادة لتحقيقها من خلال الكتابة في الصحف، وإصدار البيانات، وكونوا تجمعاً
باسم (لجنة الإصلاح الوطني)، وطالبوا بإلغاء وجود القواعد العسكرية الأمريكية،
وبتأميم البترول، وبتطوير التعليم، والخدمات الأساسية للمواطنين، وبتشريع حق
العمل النقابي والسياسي. وقد التقت مجموعة من المثقفين ومن اللجنة
العمالية،والمهتمين بالشأن العام ،من مختلف أرجاء البلاد،بالقطيف في مزرعة
(منصور أخوان) أحد أعضاء لجنة الإصلاح الوطني، وتبادل المجتمعون الرأي في شأن
تطوير العمل الوطني المطلبي، وتحفل الذاكرة بأسماء بعض الذين حضروا ذلك
الاجتماع مثل : عبد العزيز بن معمر، عبد العزيز السنيد، ناصر السعيد، حمد
السعيد، عبد الرحمن البهيجان، صالح الزيد، سيد علي العوامي،يوسف الشيخ يعقوب،
محمد الربيع، علي الغنام،جعفر النصر، عبد الله سلطان، عبد الرحمن المنصور،
وآخرون. وقد تم اعتقالهم،بعد هذا اللقاء، ومكثوا في السجن مدد مختلفة، ويرجع
بعض المشاركين موضوع اعتقالهم إلى وجود ناصر السعيد الذي كان مراقباً من
الأجهزة الأمنية، فهل نستخدم نفس منطق التأويل السابق للقول بأن أسباب اعتقالنا
بعد اجتماع فندق (الفهد كراون) يعود إلى حضور محمد سعيد طيب،الذي يتمتع بشرف
المراقبة الأمنية لسنين طويلة! لا أدري،ولكنني سأقلل من شأن التأويلين
السابقين، لتأكيد سمة المراقبة الأمنية لجميع الناشطين وإن بدرجات متفاوتة، ولا
تعدو الاجتماعات أن تكون مجرد حجة لاقتياد أكبر عدد ممكن منهم إلى
المعتقلات. وكما للانفراج مخرجاته الإيجابية التي تستفيد منها الحكومة في
السماح لمراجل الغليان بالتنفيس الذاتي عن احتباسها، والتعرف على مؤشرات
التوجهات العامة لمطالب المثقفين والجماهير، بغية تحقيق الحد الأدنى منها،
حفاظاً على الولاء وضماناً للسلم الاجتماعي، فإن للقمع مخرجاته ايضاً،لأن تكريس
اليأس ومظاهر الأمن السياسي للبلاد، تعمل على زيادة وتائر النقمة الشعبية،التي
لا بد لها من البحث عن مخارج أكثر حدة وراديكالية، للتعبير عن تطلعات
الشعب. وقد حدث ذلك في أكثر من مرحلة من مراحل التأزم السياسي في بلادنا،
ونذكر هنا أحد أبرز ردود الفعل على مخرجات القمع والاستلاب وحضر النشاط السياسي
السلمي والعلني، والذي أدى إلى اضطرار المهتمين بالشأن العام لإنشاء أحزاب سرية
راديكالية، عقب اعتقالات القيادات العمالية، ولجنة الإصلاح الوطني في
54م. وقد تم تأسيس (جبهة الإصلاح الوطني) على يدي عدد من المثقفين الذين
اعتقلوا على خلفية اجتماع مزرعة القطيف، المشار إليها آنفاً ،وقد افترق عنهم
فيما بعد، علي غنّام، حين أسس (حزب البعث العربي الاشتراكي)، كما خرج من الجبهة
ناصر السعيد وشكل حزباً آخر، باسم (اتحاد شعب الجزيرة العربية)، كما شكّل (جواد
الفاسي) في الحجاز(جبهة تحرير الجزيرة) التي اعتقل على خلفيتها الدكتور صالح
أمبه من عام 69 ـ 72م. وكما نرى، فقد ساهمت تلك الإجراءات القمعية في تشكيل
الأحزاب،الناصرية والبعثية، والقومية، أما بقية المنتمين (لجبهة الإصلاح
الوطني)، فقد تبلور طريقهم كحزب للطبقة العمالية، وتبنوا الفكر الاشتراكي، من
خلال تكوين (جبهة التحرر الوطني) في عام 58م. وتأكيداً على دور مخرجات القمع
في دفع المواطنين لتبني الخيارات الراديكالية، فقد غيرت الجبهة مسماها إلى
(الحزب الشيوعي في السعودية) في عام 75م. ورغم ما يبدو في ملامح التسمية من
راديكالية، فإن الحزب الشيوعي، هو الوحيد من بين الأحزاب الوطنية السرية
الأخرى، الذي أقرّ بالظرف الموضوعي، وبحقيقة أن السعودية كيان ودولة مستقلة
معترف بها من دول العالم، بينما كانت كل الأحزاب تنعت مرجعية مكانها بمسمى
(الجزيرة العربية). ويمكن لنا بنفس الدرجة من التحليل، أن نشير إلى مناخ وأد
الحريات العامة، الذي أدّى إلى اعتقال مؤسسي (لجنة حقوق الشرعية)، في عام 93م،
وبعد الإفراج عنهم، سافر الدكتور محمد المسعري،والدكتور سعد الفقيه إلى لندن،
وقاما بتأسيس حركة معارضة راديكالية من الخارج. (إن الحق (يغدو أباً)
للبشر،والحرية(أماً) لهم) كما قال أحد الحكماء، ولذا فإن الحرية ليست مطلباً
ولا شعاراً ثقافياً، ولكنها ضرورة وجود وحياة، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه منذ أربعة عشر قرناً : متى (استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)،
وأن ضمان الحد الأدنى من حريات التعبير السلمي، بالقول والكتابة والتظاهر،
تشكّل صمام أمان لاستقرار الوطن وإصلاح شؤونه وتعزيز سلمه الاجتماعي، وهو ما
تنبني عليه شرعية البيعة، والتعاقد بين القيادة والشعب،وعبره يتم تكريس مشاعر
التمسك بالوحدة الوطنية، والشعور بالأمان النفسي والوظيفي، والالتفاف الطوعي
حول القيادة. وفي الوقت الذي كان فيه المواطنون ينتظرون انفراجاً حقيقياً في
مجال حرية التعبير عن الرأي، ليتنفسوا من خلاله بعض نسائم الحرية، ومشاعر
الأمان الثقافي والاجتماعي،فإن الحكومة تذهب في الاتجاه المعاكس لكل
الاستحقاقات والتوقعات، فتصدر قراراً من مجلس الوزراء بتاريخ13/9/2004، يحرم
إبداء الرأي، ويعتبره عملاً مناهضاً للدولة،حيث يتوعد القرار المواطنين في جزء
منه قائلاً: (تطبيق النصوص النظامية ذات الصلة في حق أي موظف يخل بواجب
الحياد والولاء للوظيفة العامة مهما كانت طبيعتها (مدنية أو عسكرية)، وذلك
بمناهضته لسياسات الدولة أو برامجها من خلال المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر
في إعداد أي بيان أو مذكرة أو خطاب، بشكل جماعي، أو التوقيع على أي من ذلك أو
من خلال المشاركة في أي حوار عبر وسائل الإعلام، أو الاتصال بوسائل الإعلام
الداخلية أو الخارجية، أو المشاركة في أي اجتماعات أو التستر على هذه
المشاركة.....الخ) ولذا فإن اعتقال دعاة الإصلاح السياسي في الربع الأول من
عام 2004م، كان إنذاراً مبكراً للمهتمين بالشأن العام في بلادنا ،وعلى ضوئه
يغدو إخضاعي للتحقيق أمام هذا المحقق الجهم، مسوغاً بقانون سيصدر لا حقاً،
وسيذكرني وجهه بوجوه المحققين القدامى، فالمحققون لهم وجه واحد، ولن أسأله عن
اسمه (الحركي) أو الحقيقي، حيث يكفي ذاكرتي مداواة ما علق بها من جراح لا
تمحى،على أيدي (أبو ناصر)و(أبو منصور)(أحمد ناهر، و سراح الرويلي)، في عام
82م. وكان (أبو ناصر)،قد اعتقلني في غرفة نومي،وأبقاني واقفاً على الجدار
لمدة ساعة وليس علي إلا السروال،حتى فرغ من تفتيش غرفة النوم والكتب،وحين عادت
زوجتي من المدرسة دخلت إلى الغرفة، فطلب منها أن تبقى واقفة على الجدار أيضاً،
ولكن (فوزية) رفضت، ولم تستجب للطلب، فسمح لها بالخروج، وكلف أحد رجاله
بمتابعتها في المطبخ. ولعل (أبو ناصر)قد توهم لي دوراً كبيراً في تنظيم
الحزب الشيوعي،نظراً لسمعتي الثقافية، كشاعر ومسئول عن الملحق الأدبي في جريدة
اليوم (المربد)،ولأنه لم يجدني في البيت حين حانت ساعة الصفر لاعتقال عدد كبير
من المثقفين الذين يشتبه في علاقتهم بالتنظيم. وقد رافقت تلك الساعة
المشئومة، الموافقة للتاسعة من مساء الثلاثاء مباراة منتخب المملكة مع منتخب
الكويت في العاصمة الرياض. ولشدة حرصي على الاستمتاع بهذه المباراة،فقد تركت
منزلي،لأن (فوزية) لا تحب المباريات،وذهبت إلى أرامكو لمشاهدتها مع صديقي
(دبٍّي الحربي). لم استمتع بتلك المباراة رغم فوز منتخبنا، لأن صديقي مغرم
بالحديث في السياسة وعلم الاجتماع، فواصل الكلام معي ومع نفسه حتى انتهت
المباراة. وحين هممت بالعودة إلى البيت اتصلت فوزية، وقالت: طرق الباب عدة مرات
أناس لا أعرفهم، وأظنهم من الربع!. وافقتها على ما ذهبت إليه،لأننا كنا نتوقع
الاعتقال منذ ثلاثة أشهر حين ألقت المباحث القبض على اثنين من رفاقنا، بعد أن
طالت الاعتقالات الكثيرين من أعضاء (حزب العمل الاشتراكي) منذ ستة
أشهر. تواصلت سهرتي (العرمرمية) مع (دبي)، في أحاديث لا أول لها ولا
آخر،وكان صديقي لا يعرف شيئاً عن انتمائي الحزبي،ولذا استمر في حديثه
القوموي،وطلب مني مرافقته لزيارة الكويت، والتعرف على الدكتور أحمد الخطيب،
فوافقته على طلبه، وحددنا موعداً في الأسبوع القادم. وقد رأيت أن استغل الفرصة
للتحدث معه في الطريق، عن الحزب الشيوعي، وعن إمكانية انضمامه إليه. رن جرس
الهاتف في الواحدة فجراً، وكانت فوزية على الخط تبلغني أنهم مازالوا يسألون
عني، فأبلغتها أن تقوم بإحراق الكتب الماركسية الأربعة، وأنني سأنام عند
صديقي. كان رجال المباحث يقتعدون أمكنتهم طوال الليل، في منزل تحت الإنشاء،
يطل على منزلنا، ولعلهم لاحظوا الدخان يتصاعد من حمام المنزل،فزادهم ذلك
إصراراً على القبض عليً. نمت في منزل صديقي قريباً من الفجر،ولم نذهب للعمل
في (مجلة القافلة) (غافلة الزيت بأرامكو) بحسب لهجة (دبي) الكويتي العذبة.(هناك
تفاصيل أخرى عن هذا الصديق، سترد في القسم الثاني من هذا الكتاب،في مقالة
(الكويت و تداعيات الضفاف الأخرى)) وحين صحوت في العاشرة،وكنت ألبس
بنطلوناً، عدت إلى البيت لكي أبدل ملابسي، وإذ هممت بارتداء ثوبي، دخل الغرفة
بعنف، ضابط مباحث المطار ومرافقوه، وأبقوني بالملابس الداخلية حتى وصل (أحمد
ناهر). حملوا كتبي وأوراقي في حقائب كبيرة، وحين طلبوا مفتاح مكتبتي
لإغلاقها بهدف العودة إليها لاحقاً، رفضت (فوزية)، وطالبتهم بحمل ما يشاءون
الآن ،وأنها ليست على استعداد لاستقبالهم كلما شاءوا، كما أنها تستخدم غرفة
المكتبة في تحضير دروس الطالبات، فاستجابوا لطلبها، وسألني أبو ناصر أين كنت
البارحة،فأجبته عند صديقي دبّي الحربي. خرجنا من البيت،وكان عادل أبن ستة
أشهر يتعلق بي باكيا،فأبدى ضابط مباحث المطار تعاطفه مع الحالة،وقال : ليتني لم
أشاهد هذا المنظر! حين كنا نقترب من (الثقبة)،كانت الساعة تقترب من الثالثة
عصراً، ولم أكن قد تناولت طعام الغداء كما أنني لم أكن أحمل نقوداً،فتكرم
الضابط علي(بساندوتش) ما زلت أتجرع مرارته حتى اليوم. وقبل الرابعة طلبوا
مني،بعد أن وضعوا القيد في معصمي،مرافقتهم إلى أرامكو للتأكد من أنني كنت عند
صديقي (دبي) ليلة البارحة. يا للمصيبة..، لماذا لم أخترع سبباً آخر أو
مكاناً آخر كالبحر مثلاً، وكيف أجرجر صديقي إلى مشكلةٍ لا ناقة له فيها ولا
بعير؟ لقد هزموني مبكراً. أعرف أنه لا يخبىء في منزله ما يدعو إلى القلق
عليه، ولكن من يقنعهم بذلك؟ كانت قاطرات سيارات الموظفين تخرج بعد الرابعة
من البوابة العتيدة في أرامكو، وكنت أبحث عن مخرج فوجدته بعد عناء. قلت
لهم،لا أعرف بيته ولا أحفظ رقمه، ولكنني أعرف المنطقة التي يقع فيها، ومضينا
ندور في الشوارع الصغيرة ومنحنياتها حتى تعبوا بدون جدوى، فأعادوني إلى مباحث
الثقبة في حوالي السادسة مساءً. تماسكت وسكنت الطمأنينة قلبي، وغسلت الهزيمة
سريعا،وحملوني إلى مبنى مباحث الدمام القريب من البحر. مكثت في مكتب
الاستقبال ساعتين حيث لم يجدوا لي مكاناً،فقد سبقني الكثيرون منذ البارحة إلى
زنازين السجن، ولما أعيتهم الحيلة أخذوني إلى أحد مستودعات الأثاث الممزق،
وكلفوا حارساً بالجلوس معي فيه. - وش تهمتك يا ولد، سألني الحارس؟ - لا
أدري ولعلهم يرتًبون لي واحدة! - لا.. ما يجيبون أحد إلا بتهمة، ولكن جهز
نفسك للتعذيب. والله أني جيت (هالحين) من عند مسجونين يُعلقون في
المراوح،ويُضربون بالكرابيج ويُعذبون بالكهرباء. تماسكت نفسي،وتثاءبت لكيلا
يلحظ خوفي، وكانت الذاكرة عامرة بسماع هذه الممارسات الوحشية التي تمارسها
أجهزة المباحث في كل دول العالم، واستذكرت رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن
منيف ،ورواية (الكراديب)لتركي الحمد، ومناخاتهما الدموية التي تقشعر لتخيلها
الأبدان. كما استعادت الذاكرة بعض ما وعته عن معتقلين سياسيين سابقين، إذ يصف
لنا المرحوم سيد علي العوامي، رحلتهم في (الونيت) المكشوف من الظهران إلى سجن
الأحساء،حيث يتناوب العسكر على ضربهم في الونيت حتى أغمي على أكثرهم، كما يذكر
عبد الرحمن البهيجان أن العساكر في السجن كانوا يبصقون عليه ويقذفونه بأبشع
كلمات السباب، كلما مروا من أمام زنزانته. ولم يعرف سر تلك المعاملة القاسية
إلا متأخرا، حين أوضح له أحد الحراس بأن المحققين أشاعوا عنك بأنك (بأنه
أختك).؟ - إن كان عندك تهمة اعترف أحسن لك،قالها الحارس بصوت عالٍ. -
لا.، ليس لدي أي مشكلة مع الحكومة، فأنا مجرد كاتب وشاعر. - بالله تقول
القصيد، وراك ما تسمعنا واحدة هالحين؟ - قلت له: قصائدي بالفصحى وليست سهلة
التذوق. - قال : الله يعينك... (يجيلك) ليل ما شفته من قبل،إنت
وقصيدك. لزمت الصمت، فانسحب الحارس إلى خارج غرفة المستودع، وحين قاربت
التاسعة مساءً، قادني خلفه إلى السيارة،ومضينا إلى مبنى آخر تم فيه تصويري
بالغترة فقط، وأخذ بصماتي،وبعدها نقلوني إلى مبنى حديث للمباحث الإدارية في حي
الاتصالات،ويقع الآن خلف عمارة المعجل التي لم تكن قد قامت بعد. دخلت المبنى
فوجدت مجموعة كبيرة من رجال المباحث في مدخل المبنى وهم يفتشون أوراقي وكتبي
وبعض خصوصياتي،فكاد قلبي أن يتمزق لهذه الكتب التي جمعتها من الباحة إلى جدة
إلى كلية البترول،وأرامكو،وحي الدوحة في الظهران، وأضفت عليها الكثير خلال
رحلاتي من الكويت إلى بغداد وإلى عمان ودمشق والقاهرة. إنها خلاصة دأب
خالص،ورفقة عمر طويل، دونت في حواشيها ملاحظاتي، ولخصت بعضها في أوراقي
المبعثرة أمامهم،وهاهي الآن ملقاة في حوش المباحث. من يضمن عودتها لي؟،وقد
تذكرت ما قاله لي خليفه الدوسري،رئيس خليتي ومعلمي السياسي : يا حظ ضابط
المباحث الذي سيعتقلك لأنه سيمتلك الكثير من الكتب بدون عناء! اقتادوني إلى
(البدرون)، ولاحظت كثرة العبارات المكتوبة على لوحات معلقة على درج الهبوط
إليه،مثل : (اعترف تنج)، (قل الصدق تسلم) وكان البدرون يفوح بالرطوبة والحر،رغم
أننا كنا في بداية فصل الخريف،وكان الحراس يجمعون المياه المتدفقة من قاع
البدرون ويحملونها في جوالين إلى خارج المبنى لكيلا تغرقنا. وفي الواحدة
بعد منتصف الليل اقتادني الحارس إلى غرفة التحقيق ! كان المحقق هو (أحمد
ناهر)،وكان هادئا ويتمتع بموهبة طرح السؤال ومفاجأتك وأنت في منتصف الإجابة،
بسؤال آخر كان قد أعده بعناية. وبالرغم من استفادته من عنصر المفاجأة إلا
أنني كنت أفرح بالسؤال لأنه يخرجني من تفاصيل لا أود التطرق إليها. وبعد أن
فرغ من كل الأسئلة التي يمكن أن تخطر على بال المعتقل،توقف عند السؤال الشائك
الذي يثير الرعب في نفسي : من هو (خليفة الدوسري) ؟ الذي يزورك في منزلك
بأرامكو والذي تخاصم مع عبد القادر المنقوش في سهرة الأصدقاء في منزلك؟ كان
سؤاله صحيحا، ولكنني اتفقت قبل الاعتقال مع (خليفة)، رئيسي في الخلية بإنكار
معرفتنا ببعض! ولذا أنكرت معرفتي له. عرفت مصدر معلومات المحقق، لكنني مصر
على موقفي رغم محاولاته.... وفي حوالي الثالثة فجراً سألني عن المنشورات
التي وجدوها في مكتبتي ! فأجبته : هل يمكن إطلاعي عليها لكي أجيبكم على
السؤال؟ ولحظتها،أغلق دفتر التحقيق وأمر العسكري بإعادتي إلى
الزنزانة. تنفست الصعداء، وداخلني رضى عميق غسل إحساسي بالألم تجاه صديقي
(دبي)، ورأيت أن رجال المباحث كانوا من الحكمة بحيث لم يزجوا بشخص إلى السجن
بدون تهمة واضحة،ومنذ تلك الليلة لم أر أحمد ناهر إلا في ليلة سوداء، في سجن
وزارة الداخلية بالرياض بعد وصولي إليها بحوالى الشهرين، حيث كان قد تولاني
نيابة عنه، في الدمام والرياض (أبو منصور). نمت ذلك الفجر ـ بعد أن خرجت من
شباك أحمد ناهر ـ نومة لا أنسى طعم أنسها،حيث لم أذقه بعدها،ولم أفتح عيني إلا
على صوت محمد العلي،ومبارك الحمود،وهما يتنحنحان في زنازن القبو المجاورة، قبيل
الظهر. كان مبارك الحمود مثقفاً وطنياً،ولكن لم تكن له علاقة بالحزب، ولذا
بدا مرتاحاً، وتركزت مشاكساته مع العسكري حول تشغيل المكيف بشكل مستمر. وكانت
الزنازن الثلاث الصغيرة بأبواب على شاكلة أعمدة من الحديد، تفتح على ممر طويل
عُلّق المكيف في وسطه. شكوت للعسكري من شدة البرد،فأقفل المكيف، ولم نستغرق
أكثر من ربع ساعة حتى صاح مبارك الحمود : شغلوا المكيف وإلا سأخرج من
السجن،فيصاب العسكري بالخوف ويذهب لتشغيل المكيف. وبعد مدة قصيرة أصيح بالعسكري
ليطفئ التكييف،وكان يتعاطف معي بسبب البرد،ولأنه زهراني،فيعمد إلى إقفال
التكييف والذهاب إلى الزنزانات الأخرى هرباً من مبارك الحمود. كنا قبل
الاعتقال (مبارك وأنا) في القاهرة، وسكنا في شقة واحدة في المعادي،وقد اختصمنا
حول التكييف، فصرخت فيه : يا مبارك فكنا من شرك،تلاحقنا بالبرد من القاهرة إلى
السجن. والله انك أنت السجن! ضحك مبارك الحمود طويلا وقال: (وأنا لا شفت زلقومك
تكدّرت وافلح نص عمري) (زلقومك) باللهجة المحلية الجنوبية تعني :الوجه الطويل
الذي تبرز عظامه. استجبت لمداعبته،وقلت : من أجل عبد العزيز مشري،وهذه
العبارة الأليفة التي كان يرددها كلما ضاقت به الأحوال مع زوجته، سأدعو العسكري
لتشغيل المكيف! حظر وجه عبد العزيز في الزنزانة وفي محضر التحقيق الذي تم مع
(أبو منصور) في الليلة الثانية بالدمام، وأكدت للمحقق إنه مريض وإنني وعبد
العزيز لا ننتمي إلى أي تنظيم. وقد ركز أبو منصور أسئلته حول علاقاتي بالتنظيم
وعلاقتي بـ(خليفة الدوسري)، ويبدو أنه حاول التأكد من معلوماته وأيقن بوجود
علاقة ما تربطني به، لذا هددني باستخدام وسائل التعذيب،وكانت العصا الغليظة إلى
جواره، غير أنني أنكرت معرفتي بـ(خليفة)،وأية علاقة لي أو عبد العزيز مشري
بالتنظيم، فأمر بإعادتي إلى الزنزانة. جلست في الزنزانة وأنا أتأمل وجه
(خليفة)،وأتخيل أنه لا يمكن إلقاء القبض عليه، إذ أنه ورغم علاقتي الطويلة به
والتي تجاوزت خمس سنوات،لم أتعرف خلالها على اسمه الحقيقي،ولا على عمله أو
عنوان بيته، وكان أنموذجاً في الانضباط والسرية، وكانت الأحلام تراودني بأنه قد
هرب إلى خارج الوطن. وقد سألني (خليفة) في مرات عديدة، عن إمكانية انضمام عبد
العزيز مشري إلى الحزب، وكنت أجيبه بأن عبد العزيز، مثقف وطني وتقدمي، ويمتلك
مواهب متنوعة وغنية، ويتوفر على شجاعة نادرة، وقدرة في التأثير على
الآخرين،ولكنني أخشى عليه من أمراضه الكثيرة، التي يمكن أن تفتك به لو تم
اعتقاله. ولذا بقى عبد العزيز صديقاً يحظى باحترام الجميع، لكنه لم ينتسب إلى
الحزب، ولا إلى حزب العمل الاشتراكي رغم محاولاتهم ضمّه إليهم. وهذه مشكلة أخرى
تجدر الإشارة إليها،لأن تنافس الحزبين على ضم نفس الأشخاص أسهم في توليد مشاكل
اختراق وكشف للعناصر وانتقال من تنظيم إلى الآخر،مما سهل ضرب أي منهما في حالة
انكشاف الآخر،وذلك ما حدث في عام 1982م. بقينا في سجن المباحث الإدارية
بالدمام خمسة أيام،غاب فيها المحققون عنا، وتفرغت لمشاغبة مبارك الحمود بالطلب
من العسكري إقفال جهاز التكييف. وفي الحقيقة فإن اسم مبارك سبب لي مشكلة مربكة،
لأن اسمي الحركي كان (مبارك)، ولذلك فقد كنت ارتبك عند مناداة العسكري باسم
مبارك! وقد أرهقني هذا الاسم منذ كنت مع مبارك الحمود في القاهرة، حيث كنت
أجيب الشغالة ومرافقاتها ب (نعم)، حينما يتبادلن ،(بدلال)، مناداته باسمه. وحين
خشيت من دلالات التباس التسمية تركت الشقة له، واستأجرت غيرها بعيداً عنه،وها
هو النحس يصاحبني الآن حتى في الزنازين، ولم أتحرر من هذا العبء إلا حين نقلونا
إلى وزارة الداخلية في الرياض،ومنحوا كلاً منا رقماً خاصاً،فأصبح اسمي منذ
دخولي زنزانة منفردة في الوزارة 139/9. سكن مبارك في زنزانة تقع في الصف
المقابل، وحمدت الله أن الزنزانة، التي مضيت فيها ما ينيف عن ستة أشهر، غير
مزودة بالتكييف أو المراوح، والتي أصبحت في أول الصيف شبيهة بفرن واسع، لا تخضع
لتدخلات مبارك الحمود! كنت أتعامل مع الحراس باحترام فائق، وأتودد لبعضهم
لكي يعطيني الفرصة للذهاب إلى الحمام في أوقات الذروة،أو للحصول على عود كبريت
أشعل به سيجارتي،وأكتب بجزئه المحترق أيامي على جدار الزنزانة، فلا أحد يحسب
الأيام كما تحسب على جدار السجن. غير أن أكثرهم تشدداً معي كانوا أبناء قبيلتي
،وحين يسألني أحدهم للتأكد من اسمي، قبل اقتيادي للتحقيق، أجيبهم بأن اسمي علي
الغامدي،لكي يتعاطفوا معي،ولكنهم يسكتون عن ذكر اسم القبيلة و يسألون: هل أنت
علي الدميني فأجيبهم بنعم، وأمضي إلى حفلات التحقيق والضرب بين يدي (أبو
منصور). وقد عرفت اسمه بالصدفة،حين صب الحراس علي الماء البارد وأنا نائم في
فجر إحدى الليالي، وقال لي أحدهم : قم أطلب الله يا ولد غرم الله،سرح عليك سراح
الرويلي! وحين جلست على كرسي أمام مكتب (سراح)،أدركت من غضب وجهه، أنه قد
عزم على كسر إرادتي،فأمسك بعصاه الغليظة وبدأ بالضرب. و في غمرة الإحساس
بالألم، وقفت فضرب بطني برأس العصا، حتى خلته قد أخرجها من ظهري، لكنني لم أغير
أقوالي. جلس بعدها على الكرسي،وبدأ يتحدث بطريقة لينة مغايرة لما بدأ
به،وفتح دفتر التحقيق لنكمل مسلسل الأسئلة. وبعد أن أنهيت الإجابة،أمر
العسكري بإعادتي إلى الزنزانة في حوالي الخامسة صباحا، وقال لي: غداً ستقابل
سعادة الفريق،فاستعد للقاء! عدت منهكاً، لكنني لم أنم ولم أتناول الأكل طوال
اليوم، وكنت أشفق على بعض رفاقي القياديين، الذين يستدعون ليلياً للتحقيق
والتعذيب، ويجرجرون القيود في أرجلهم لمدد تتراوح بين اليومين والخمسة،. وفي
السابعة مساءً، دق الحارس باب زنزانتي، واقتادني خلفه إلى(أبو منصور). رحب
بي (أبو منصور) على غير العادة، وأبلغني أننا سنذهب إلى الفريق (عبد العزيز بن
مسعود)، وأن عليّ أن أعترف له بكل ما لديّ ! نزلنا من الدرج إلى الدور
الثالث، ودخلنا على رجل مهيب الطلعة، له شاربان ضخمان يشتعلان شيباً، ووجه
عريض، وله عينا صقر، تشع منهما القسوة. طلب مني الجلوس قرب مكتبه، حيث وضع
أمامه المصحف الكريم وبجانبه المسدس وقال : نحن نعلم أن الاعتراف بالحقيقة
صعب،ولكنني أقسم بالله العظيم على هذا المصحف ـ ووضع يده عليه ـ إن لم تعترفوا
بالحقيقة لننتزعها منكم انتزاعاً،ووضع يده على المسدس. دار رأسي، وكدت أمسكه
بيدي،ولكنني حاولت إبداء التماسك، وقلت له: إن كل ما لدي مكتوب في دفتر التحقيق
وليس لدي ما أضيفه إليه. حملق في عينيَ،فواتتني الجرأة لأبادله نفس
النظرة،والتفت بعدها إلى (أبو منصور) ـ الذي انزوى في ركن الغرفة، وكأن الرعب
قد أصابه مثلي ـ ،وأمره بإعطائي دفتراً وأقلاماً،علني أتذكر بعض التفاصيل
وأدونها في الزنزانة، وأمرني بالخروج فتبعت (أبو منصور)،وأبلغته في الممر
الطويل أنني لا أخفي شيئاً، ولا أحتاج لدفتر التحقيق،وإن أردت الاستمرار في
التحقيق معي فليكن ذلك في مكتبك. وافقني على ذلك،وأمر الحارس بإعادتي إلى
الزنزانة. عدت إلى الحياة كمن خرج من القبر للتو، وكنت سعيداً بعدم تنفيذ
وعيد الفريق لي في تلك الليلة على الأقل، وخامرني فرح صغير لعدم قبولي بأخذ
دفتر التحقيق معي إلى الزنزانة،لأنني كنت أصاب بالخوف حين أسترق النظر من ثقب
باب الزنزانة، فأرى بعض الرفاق العائدين من التحقيق وهم يحملون ذلك الدفتر
الأجرب. الآن أدخل الزنزانة، وأداعب النملة التي ربيتها، فآنست وحشتي خلال
شهور الحبس الانفرادي، وأسميتها (وردة). وقد تخلصت من مشكلة اصطحاب دفتر
التحقيق مخافة أن يراه أحد الرفاق فيظن أنني سأعترف عليه! أوهام كثيرة
وتحليلات رجل معزول في زنزانة، وإلا فمن أراد الاعتراف أو أُرغم عليه، فإنه
سيسجله أمام المحقق. أثارني هذا الموقف، فسجلت الذاكرة نصاً صغيراً يتعلق
بتلك المقابلة مع الفريق، احتفظت به حتى خروجي من السجن : (سوف تصعد يا سيدي
السُّلّما كلّما أرعبتني يداك) (بقيّة النص في القسم الثالث من
الكتاب في (قصائد من السجن)، بعنوان: سوف تصعد) مر شهران،لا أنام فيهما إلا
بعد صلاة الصبح،مخافة أن يسرح عليّ (سرّاح الرويلي) وأنا في هجعة النوم، واعتدت
أن أبقى مستيقظاً حتى صلاة الصبح ،ثم أنام حتى صلاة الظهر،وكان المحققون
منشغلين بالعشرات غيري وبالتحقيق والتعذيب للقيادة، غير أنه كان يستدعيني بين
آن وآخر،ولم يخرج مني بشيء، لأنني عضو في إحدى خلايا الصفوف الخلفية،وهو ما
حرصت على عدم الاعتراف به حتى الأخير. ولكنه فاجأني ذات مرة بالسؤال التالي
مكتوباً في دفتر التحقيق،وما زلت أذكره حرفياً: - قل كل ما تعرفه عن (خالد
النزهة)، وإلى أي تنظيم ينتمي، وليكن ذلك بالتفصيل. - فأجبت عليه، بأن خالد
النزهة صديق حميم لي، و زميل دراسة، ولكنني لا أعرف إلى أي تنظيم
ينتمي. حدّق في إجابتي ملياً، وكانت مظاهر الألم بادية على وجهه،وأمر الحارس
بإعادتي إلى الزنزانة. (كنت أعرف،على غير وجه اليقين أن خالد ينتمي إلى
الحزب الشيوعي، مثلما كنت أعرف أو أخمّن أن آخرين ينتمون إليه أيضا، ولكنني لا
أملك الحق ولا الدليل على إثبات ذلك). لاحظت بعد تلك الليلة أن عدد حراس
العنبر قد تضاعف، وأنهم يطلّون علينا من فتحة الطعام الصغيرة المثقوبة في باب
الزنزانة كل نصف ساعة، فصرخت في أحدهم: هل تظنونا سنهرب من السقف؟ قال لي :
لا... ولكننا نطمئن عليكم،فهل تحتاج إلى ماء أو دخان ؟ قلت له شكرا،وأغلق
الفتحة. لم يخطر بالبال أن ذلك الصديق قد توفي خلال فترة التحقيق، ولكني
عرفت ذلك بعد إطلاق سراحنا بين يدي (سراح)وربعه. و..تجمّعت أمامي حقيقتان:
الأولى، هي عدم اعتراف خالد النزهة بانتمائه إلى أي حزب، ولذا تعرض لتعذيب
شديد، والثانية أنه مات خلال فترة التحقيق، ولعله وُجد ميّتاً في
زنزانته. لقد فاضت الروح إلى بارئها، كما ذهبت –من قبل ـ أرواح عدد من
الوطنيين، مثل سعود المعمر، و وصفي المداح، و عبد الرحمن الشمراني، و لكنهم
بقوا علامة على الصمود، وشاهداً على التضحيات التي يقدمها الوطنيون الذين
يطالبون بتحقيق قيم العدل والحرية والديمقراطية. ولكن علاقة الصداقة التي
تربطني بخالد نقشت اسمه في الذاكرة الحية رمزاً من رموز حرية الوطن. آه يا
خالد... كم كنت صافياً وصادقاً، و واضح القناعات والخيارات. (يتفرّس في
كُتُب الهندسةْ و يحاور ما عبّأته به المدرسةْ و يقاوم ألا يكون غنياً ك
(قارون) أو سلطوياً ك (هارون) يعلم أن الذي جمّع المال أو زيّن
الحال قد سرق الرزق من راعي الإبلِ، أو عامل الحقلِ، والمكنسة!) أيهما
الذي تسبّب في وفاتك؟ المحقق القاسي أم وجهه الآخر، المحقق الطيّب؟ طيلة
شهرين لم أر (أحمد ناهر)، ولكنه حضر كالمفاجأة، حين كان (سراح) يهددني باستخدام
وسائل التعذيب، للاعتراف بالانتماء للحزب وأنا أرفض ذلك، فدخل علينا وقال لي،
مصافحاً: أهلا بالرفيق (مبارك). صُعقت،ورأيت أن إيراد اسمي الحركي دليل على
أنهم اعتقلوا قيادات الحزب وخلاياه، فاعترفت وأنا ممتلئ بالغضب والسخرية
وانفجرت بالضحك وسألني المحقق: ما الذي يضحكك؟ قلت : لقد انحلّت عقدة مبارك
الحمود، وأخبرتهم بتفاصيل تشابه الأسمين،فضحك أحمد ناهر،وعلّق : مبارك الحمود
قد خرج إلى أهله منذ مدة وانحلّت عقدته، أما أنت فتحمّل تبعات عقدتك يا رفيق
مبارك!حاولت مدارة وطأة الهزيمة ولحظة المفارقة والسخرية، ولم أجد ما يسعفني
بذلك، فوقفت واتجهت نحو الباب،و صاح أحمد ناهر: إلى أين؟ قلت إلى قلعتي
الحصينة،الزنزانة وليالي الصمت. قال لي : أجلس فلم نكمل بعد.. وأخذ دفتر
التحقيق من (أبو منصور)، وطلب مني تدوين أسباب انتمائي إلى الحزب الشيوعي،و ما
هي مطالبي. جلست وتحدثت معه طويلاً، وأوضحت له خلفية انتمائي للحزب وقلت: في
ظروف انعدام حرية التعبير، وحرية تشكيل الجمعيات المهنية والثقافية والسياسية،
يجد الإنسان نفسه محتاجاً لإطار يمده بدفء المعنى وحرية التعبير، و يعوضه عن
فقد حواضن الأهل والعشيرة. وقد بحثت عن ذلك منذ مدة طويلة، كما يبحث الغريق
عن طوق النجاة، وكنت مستعداً للانخراط في أي تجمع أو حزب سواء كان (الأخوان
المسلمين)، أو القوميين، أو اليساريين..، فلم تكن (الأيديولوجيا) هي الأساس،
وإنما المهم هو البرنامج السياسي الذي يعبر عن رأيي وخياراتي، حيال الوطن
ومستقبله. وكانت (الاشتراكية)،تحمل وعود العدالة الاجتماعية، للطبقات
الفقيرة،وتبشر بمجتمع ينتفي فيه الظلم والاستبداد واستغلال الإنسان لأخيه
الإنسان، وأنا كشاعر رقيق الإحساس كنت أتألم كثيراً لظروف المحتاجين، والمهمشين
والمنسيين في كل أرجاء الوطن، ممن لم يتوفر لهم المسكن، ولم تصلهم الكهرباء،
ولا طريق الإسفلت، ولا المستشفيات، بينما تنعم الطبقات المتنفذة، بكل خيرات
البلاد دون حسيب أو رقيب. وقد علمت من أحد أصدقائي الحميمين في عام 75م أن هناك
حزب شيوعي في المملكة يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية لكل المواطنين من خلال
تطبيق الاشتراكية. وقد تلكأت في الانتماء إليه، لأن مسمى (الحزب الشيوعي)،
لا يجد قبولاً عند المواطنين حتى المحرومين الذين يسعى الحزب لإنصافهم. وبغض
النظر عن المخاطر الأمنية، فإنني رأيت أن الحزب، وحتى في ظروف السماح له بالعمل
العلني لن يحظى ـ وفق هذه التسمية ـ بالجماهيرية الكافية، لإيصال ممثليه إلى
مجلس الشعب. وقد قلّبت الأمر على وجوهه العديدة لمدة عامين، حتى تسنّى لي قراءة
بعض الكتب المؤسسة للفكر الماركسي، وعرفت أن (الشيوعية)، هي إحدى المراحل
التاريخية في سياق تطور المجتمعات، التي ينعم فيها الناس بالحرية وتقاسم
الخيرات (من كلٍ حسب طاقته، ولكلٍ حسب حاجته)، وعرفت أن الدعاية الرأسمالية
التي كانت تخشى على مكتسباتها من المد الاشتراكي،هي التي جعلت من الشيوعية
بعبعاً مخيفاً يعادي القيم الدينية والطبيعة البشرية. كما أنني اطلعت على
العديد من المقالات والكتب التي تتحدث عن الاشتراكية في الإسلام، وتتكئ على
حوادث ومرويات يحفظها التاريخ، مثل الحديث المروي عن نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم، الذي يؤكد على (أن الناس شركاء في ثلاثة،الماء،والنار،والكلأ)، كما أتذكر
مواقف أبي ذر رضي الله عنه،وقوله (عجبت لمن بات جائعاً، كيف لا يخرج على الناس
بسيفه)، واستعدت قول عمر رضي الله عنه: (لئن عشت إلى قابل، لأخذن من أغنيائهم،
وأردنه على فقرائهم حتى لا يبقى بين) لابتيها (فقير)، ويقصد المدينة المنورة.
وكان من أهم ما قرأته في هذا السياق بعض مقالات للمرحوم، السباعي زعيم الإخوان
المسلمين في سوريا، والذي أصّل لمعنى الاشتراكية في الإسلام، وتحالف مع
الشيوعيين من خلال البرلمان السوري، لإقرار سلسلة التطبيقات الاشتراكية ـ زمن
الوحدة مع مصر ـ التي تضمنت توزيع الأراضي المملوكة للإقطاعيين على الفلاحين
الفقراء الذين كانوا أشباه عبيد ملحقين بآراضٍ مملوكة لكبار الأثرياء. كما
تأثرت بآراء السباعي السياسية التي دعت إلى التحالف مع الإتحاد السوفيتي ضد
الغرب الرأسمالي، الذي عمل على إقامة دولة إسرائيل مثل رمح في قلب الوطن
العربي،وما سببه ذلك من كوارث تشريد الفلسطينيين من أراضيهم،والاستيلاء على
المقدسات الإسلامية. وقد أسهمت كل هذه القراءات والقناعات في وصولي إلى
التعرف على حقيقة مهمة، وهي أن الماركسية وحلمها الاشتراكي، ليست ديناً، ولا
تحارب الأديان، بل أنها تؤكد على حرية العبادة لكل إنسان. ولذا انتميت إلى
الحزب الشيوعي في السعودية، كوطني مسلم، يسعى لتطوير بلاده، ورفع الظلم عن
الطبقات الفقيرة، فالغاية من إقامة الدولة ـ كما يقول افلاطون ـ تهدف إلى تحقيق
السعادة للجميع، وليست لفئة معينة. وكان أنموذج تطبيق آليات الاشتراكية، الذي
أثبت ـ آنذاك ـ نجاحه، هو الأنموذج والمثال، حتى لم يبق حزب عربي ـ بما في ذلك
بعض الأحزاب الإسلامية ـ إلا وقرأ فيه سبيلاً لتحرير الطبقات الفقيرة، من
الاستغلال، والفساد، واحتكار الثروات. أما مطالبي، فقد تضمنها برنامج الحزب
الذي تعرفونه، ولكن أهمها حسب رأيي هو: 1. ضمان التوزيع العادل للثروة،
وإلغاء الاحتكار، وإنصاف الطبقات الفقيرة والمحرومة من خلال آليات تحقيق العدل
والعدالة الاجتماعية، فالجائع لا يمكن أن يكون مخلصاً لوطنه، كما قال
فولتير. 2. إطلاق الحريات العامة،والهيئات السياسية، وإزالة كافة أشكال
التمييز بين المواطنين على أسس طائفية أو مناطقية،والسماح لتنظيمات المجتمع
المهنية والنقابية والسياسية بالعمل العلني، وفتح الباب أمام الناس ليعبروا عن
آرائهم وتطلعاتهم بحرية كاملة، فلا وطن حر إلا بمواطنين أحرار. 3. إقامة
نظام ديمقراطي من خلال إقرار دستور دائم للبلاد ـ في ظل مشروعية القيادة ـ يكفل
حقوق المواطنين،وينظم العلاقة بين الحاكم والشعب، ويكفل تطبيق آليات العدالة
الاجتماعية. 4. إزالة القواعد العسكرية، وإقامة علاقات متوازنة مع كافة
الدول العظمى. 5. تأميم شركة (أرامكو)، وتحويل ملكيتها للدولة. 6. تطوير
القاعدة الاقتصادية، والتنموية المستدامة،وإيجاد المصادر البديلة لثروة النفط
الناضبة. 7. تطوير مناهج التعليم بما يتلاءم مع التطور المعرفي والتكنلوجي
في العالم، وتوفير الخدمات الصحية والإسكانية للمواطنين، وإنشاء الطرق والسدود،
والعمل على دعم القطاع الزراعي،وقطاعات صيد الأسماك، والتعدين، والسياحة
والآثار. 8. منح المرأة حقوقها في التعليم والعمل، وحقها في المشاركة في
الحياة الاجتماعية والسياسية. 9. تطوير المرافق والتسهيلات للحجاج
والمعتمرين، لتدعيم علاقة المملكة بالعالم الإسلامي، ولما ينطوي عليه ذلك من
تنويع لمصادر الدخل الوطني. تأمل (أبو ناصر)ما ذكرته، وقال: لا تنبع المشكلة
من مطالبكم ـ حيث سبقتكم الحكومة في توفير أغلبها ـ ولكن المشكلة تكمن في أمرين
: أولهما مسمى (الحزب)، وثانيهما العمل السياسي السري. وسألته : أترى أن
الحكومة ستسمح بالتعبير عن المطالب الوطنية بشكل علني ؟ !. صمت قليلاً ولم
يعلّق. قلت له : أما بالنسبة لي فإنني أؤكد لك إنني وغيري،لسنا من هواة
العمل السري،وما دفعنا إليه إلا مصادرتكم لحرية الرأي وحق التعبير، وسوف أجرّب
أسلوب العمل المطلبي العلني في المستقبل، من خلال خطابات ترفع للقيادة أو
مسيرات شعبية تعبر عن رأي المواطنين. قال لي بلهجة ساخرة: حينما تخرج من
السجن يصير خير! كان المحققان فرحين باستكمال آخر الاعترافات،ولذا لم يطلبا
مني الاعتذار عن انتمائي السياسي، ولعلهما كانا يريان في عقوبة السجن ما يكفي
عن الاعتذار، وقد قال الشاعر (ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر). وحين استعيد
الآن حواري مع أحمد ناهر، وأنا أكتب هذه الكلمات فإنني أرى في مسيرة نشاطي
الثقافي و المطلبي، بعد خروجنا من
السجن
-
أثقل الناس, سفيه لا يفهم, وسخيف لم يلجم !
كانت عنابر السجن تقع في الجزء الغربي من الدور الأول لوزارة الداخلية
في مبناها القديم، وقد شغلت الزنازين الانفرادية عنبرين يفصلهما ممرّ بسعة
ثلاثة أمتار، يستخدم (للتشميس والرياضة الانفرادية). وقد أغلق عليها جميعاً باب
رمادي كئيب، يتفرع من البهو الرئيسي لمدخل الوزارة. وحين يدلف الداخل من هذا
الباب فإنه يمر عبر ممر متدرج نحو الأسفل، ولا يزيد عرضه عن أربعة أمتار. وكان
يقبع فيه عند أول يوم لدخولي عجوزان نحيلان لا يكلان عن التأفف والدعاء بالفرج
القريب. وكنت أسلم عليهما بعيني خلال صعودي للتحقيق، ولكن البهو الصغير صار
ممتلئاً في تلك الليلة التي مثلت فيها أمام الفريق بن مسعود،حيث تمكنت عيناي من
التعرف على بعض الأشخاص الذين، افترشوا المكان الضيق إلى جوار بعضهم،وكان أحدهم
هو (حسن السنان) الذي يعمل في كلية البترول منذ التحاقي بها عام 68م. وأذكر أنه
قد اعتقل في عام 69م مع عدد كبير من موظفي الكلية،الذين كان بعضهم ينتمي لحزب
البعث، أو جبهة تحرير الحجاز،والبعض الآخر ينتمي (لجبهة التحرر الوطني).
سلّمت على (حسن) بعيني،واستعدت ذكرى كلية البترول التي لا تنسى. وكما هو
معروف، فقد أنشئت الكلية في عام 62م وافتتحها المغفور له الملك فيصل، وحاربتها
أرامكو (الأمريكية). وقد أسسها المرحوم الدكتور (صالح أمبه)، لكي تكون أنموذجاً
لحداثة الصرح الأكاديمي والاجتماعي معاً، حيث حرصت على تدريب الطالب على
المشاركة في اتخاذ القرار من خلال الأندية العلمية والفنية والثقافية والرياضية
،المستقلة عن تدخلات إدارة الكلية،وعملت على تشكيل أول (رابطة للطلاب) في
بلادنا، يتم فيها إقرار مبدأ الانتخابات وإسهام الطلاب في تمويل أنشطتها، من
رواتبهم باشتراك شهري، ويتم من خلال ذلك تكليف مجلس إدارتها (الطلابي)،بتسيير
كافة أنشطتها ورحلاتها، ومشاركتها في الشأن العام. وكنت قد التحقت (بكلية
البترول والمعادن) للدراسة في سبتمبر من عام 68م، لأجد نفسي في محيط أكاديمي و
اجتماعي جديد يشبه الصدمة لطالب قروي قادم من جبال الجنوب. وبالرغم من أنني
قضيت في جدة ثلاثة أعوام لإكمال دراسة المرحلة الثانوية في مدارس الفلاح ـ التي
كانت من أوائل المدارس التي مولها الأهالي، وتحولت إلى مدارس حكومية في عام
66م،إلا أنني كنت كمن دخل المدينة في آخر الليل وخرج منها قبل أن يرى نور
الصباح، حيث غدت الدراسة مدار حركتي اليومية، فأخرج في الصباح من (العزبة) إلى
المدرسة، وأعود ظهراً، ولا أغادرها، منكبّاً على دراستي، حتى تخرجت منها وكأنني
لم أغادر قريتي الجنوبية، محافظاً، متزمتاً، منطوياً على ذاتي وقناعاتي، كقنفذ
صغير. وفي الكلية، وجدتني غريباً في بيئة اجتماعية منفتحة، وضمن محيط عالي
التنظيم، والتحضّر، تشكّلت فيه الجماعات المختلفة في كافة الحقول المعرفية
والفنية والاجتماعية، ومنها جمعية (نساء الكلية) التي ضمت مدرسات اللغة
الانجليزية ،وزوجات الأساتذة والموظفين الذين يقطنون سكن الحرم الجامعي. وقد
دعت (الجمعية النسائية)، الطلاب والأساتذة والموظفين إلى حفل تعارف، درجت على
إقامته مطلع كل عام دراسي. و حين دخلت الصالة الكبيرة، التي اكتظت بهذه الوجوه
المختلفة والأزياء المتنوعة، أحسست بالغربة والتناقض، وهزني الخوف من اختراق
السائد والمألوف، ووجدتني أتلعثم في الكلام، وأحني رأسي نحو الأرض، عندما تولى
بعض الزملاء القدامى في الكلية، من أعضاء الرابطة، تعريفي على النساء. كن
كثيرات، ومن هؤلاء أستاذة اللغة الانجليزية (مسز هل)و عايشه الفاسي، زوجة عميد
الكلية الدكتور صالح أمبه،و مليحة البريكي،وسواهن، حتى بلّل العرق جبهتي،
ووجدتني أخرج من الصالة متسللاًً بليل إلى السكن، وأنا أستنكر هذا الجو الغريب.
كان الطلاب القدامى يتصرفون بشكل طبيعي،وكذلك الكثيرون من الطلاب القادمين
من المنطقة الغربية ومن المنطقة الشرقية، أما أنا وبعض القادمين من الوسطى
والشمالية، فقد كنا خارج السرب، ونلوذ ببعضنا أمام هذا الطوفان العجيب. وبالرغم
من تحدُّري من بيئة قروية، شغلت المرأة فيها موقعها الكامل في الحياة، إلا أنني
قد انطويت منذ الصغر على خجلٍ مريع ينتابني أمام النساء، وكنت أحسد كبار السن
الذين كانوا يشاركون النساء (النقر على الزير) في حفلات الزواج، وأذهب إلى زجر
بعض الشباب الذين يطلَون من الأبواب والشبابيك على النساء، وهن يرقصن ويغنين في
المناسبات السعيدة، وقد بلغ خجلي من النساء،درجة عالية من التشدد أو الهروب،
حيث كنت حين أراهن عائدات بقرب الماء أو (حزم) العشب، في طرقات الجبال العالية،
أفرّ إلى طريق مغاير، أو موازٍ لطريقهن! هل كنت أكره المرأة إلى هذا الحد أم
أخشى سطوتها عليّ بتلك الدرجة من الرهبة؟ في الحقيقة، إنني كنت ومازلت،
أنطوي على مشاعر لا تحد من الحب للمرأة والاستمتاع بأحاديث النساء، وكنت في
طفولتي،أجلس لصق جدتي لأنصت لأحاديثهن وحكاياتهن،ولكن فقد الأم المبكر ـ في
الخامسة من عمري ـ أورثني احتياجا مبكراً وعميقاً لحنان المرأة،حتى دفعني للبحث
عنه بكل السبل، ولعل ذلك الخجل الكامن في أعماقي، كان مجرد حجاب يستر افتضاح
مشاعري نحو الأنثى، فدفعني إلى الهرب منها، ولعل مصداقية ذلك قد اتضحت لي فيما
بعد، حيث قالت لي إحدى الشاعرات في القاهرة إنه،وبالرغم من ملامح البراءة
والطفولة التي تشع من وجهك،إلا أن رغبات دفينة واضحة تتسرب من بين ثنايا تلك
الملامح الطفولية! مضت الأشهر العجلى في الكلية،وأنا أقاوم صراع المحافظ
القادم من القرية(بكرتونه)، مع مخاض التفتح في (المحيط الجديد)، وأذكر أن
الطلاب رتّبوا لرحلة سياحية إلى الأحساء، وحين ركبت (الباص)،فتح أحد الطلاب
الجالسين بجواري حقيبة ملابس وأخرج منها مسجلاً، فارتفع صوت (الموسيقى)
الغربية، فلم أتمالك نفسي، ونزلت من الباص عائداً إلى غرفتي. ولكن أسوار
المحافظة ما لبثت أن تكسرت رويداً رويدا،ً حتى وجدتني في العام التالي أنظمّ
إلى نادي الموسيقى، وأبدأ بتعلم العزف على (الكمان). ورغم فشلي في التعلم إلا
أن الخطوة، كانت علامة على كسر جدران الممانعة، و الخروج من قوقعة الإلف
والاعتياد، وبداية دخول إلى العالم الجديد بكل تفاصيله الممتعة والجارحة
أيضا. انكسرت حواجز الخجل تجاه المرأة وإزاء الآخرين، وعملت موظف استقبال في
سكن الطلاب، حيث كانت الكلية قد انتهجت سياسة تدريب الطلاب على العمل في أوقات
فراغهم، لتهيئتهم للحياة العملية، ولإتاحة الفرصة أمامهم لتحسين الدخل الشهري.
وكنت أستقبل الزوار، والمكالمات الخاصة بالطلاب، ومن خلال تلك الاتصالات تعرفت
على فتاة أمريكية في أرامكو، واستفدت من العلاقة معها في تطوير لغتي
الإنجليزية، وتوقفت معها أمام كلمة (Twin)، حتى فهمت أنها تعنى توأم. لقد
كانت (كاثي) توأماً لأخت أخرى، فتخيلتها ناحلة الجسد، قصيرة في مثل طولي،
ولكنني حين واعدتها للالتقاء أمام سينما أرامكو في الظهران، رأيت تمثالاً ضخماً
لفتاة تشبه المصارعين،وتذكرت المتنبي حين قال، وكأنما يصفها : ربحلّة،أسمر
مقبلها سبحلّة أبيض مجردها (وربحلّة،وسبحلّة،هي الجسيمة الطويلة
العظيمة). ضحكنا لهول المفاجأة، فهي الأخرى كانت تتخيلني شاباً عملاقاً تضع
رأسها على صدره،وأدركتُ حينها سر تهرّب زميلي منها، ومع ذلك استمرت العلاقة
الهاتفية. وفي اللقاء الثاني طلبت مني مرافقتها للمشي في فناء يقع خلف مبنى
السينما، وحين جلسنا على كرسي خشبي قديم، أحنت وجهها إليّ لتقبلني، ولكنني لمحت
عدداً من عمال الصيانة السعوديين يقتربون من مكاننا فابتعدت عن شفتيها. خسرت
حلم حرارة أول قبلة في حياتي، وحين وصل العمال إلى موقعنا عرفت اثنين منهم كانا
من جماعتنا. تلعثمت وسلمت عليهما، وسألني أحدهم بخبث: لعلك تذاكر دروسك مع
الأمريكية! وقال الآخر : انتبه لدراستك،ولا تغرك هذي (الشمروخة)، التي ما
تركت شاباً إلا تعلًقت به! لم أستطع النظر إليهما، وغادرت المكان دون أن
أودع (كاثي)، وقررت أن أقطع العلاقة بها. وفي فصل الصيف، لم أغادر مع الطلاب
إلى قريتي، وإنما عملت في (سنترال) الكلية، وهنا تكسرت حواجز الخجل، وهطلت
أمطار المهاتفات مع بدء تشغيل شبكة الهاتف السعودي، وتنقلت المشاعر من مدينة
إلى أخرى،واستقرت على حب خرافي محروم،أشعل القلب بالشعر، ودوّن حروف العشق
والسهر، وأدمن أغاني (فيروز)، وطال تأثيره قدرات التحصيل الدراسي، وعشت فيه أول
تجربة حب حقيقية مع (نهاد)، تجاوزت حاجات الرغبات الجسدية، إلى مسارح الروح
والتصوف ولذة الألم والدموع. طوانا الزمن في رحلته الطويلة ،واحتفظنا منه
بالذكريات الدفينة، التي لا تكفّ عن الحركة، كلما عبرنا الأبواب القديمة،
وشممنا روائح الأحباب، أو فاجأتنا الوجوه القديمة ،ولكن ما الذي جاء بـ(حسن
السنان) إلى هنا، وقد اعتقل في عام 69 وأمضى مع آخرين عدة سنوات في سجن جدة؟،
وأذكر الآن منهم، عبد الرزاق البريكي، و معيد مادة الكيمياء، محمد سعيد البريكي
الذي كان يتهيأ للسفر إلى أمريكا لتحضير الماجستير والدكتوراه. كان محمد سعيد
مثقفاً ساخراً، لا يترك أمراً دون تحويله إلى مادة للسخرية والنكتة، وحين عاد
من السجن إلى الكلية بعد عامين من اعتقاله، علّق على تجربة السجن بالقول : لقد
أشفقوا عليّ من وحشة الغربة في أمريكا، فساعدوني في تحضير الماجستير في (جدة)
! أما أكثر ما أثار دهشة الطلاب في حملة تلك الاعتقالات،فقد تحلّق، حول
الدكتور صالح أمبه، عميد الكلية،حيث أنه في أول محاضرة له ألقاها على الطلاب
المستجدين عام 68م، قد ركز على ضرورة الاهتمام بالتحصيل الأكاديمي وعدم الخوض
في مسائل السياسة الشائكة، فهل كان دقيقاً فيما ذهب إليه أم أنه كان يحاول
إرجاء إمكانية الاعتقال؟ لقد فقدت بغيابه (كلية البترول) أنموذجها
الحضاري،وما لبثت ثقافة الصحراء ومكوناتها القيمية المنغلقة أن أحكمت حصارها
للأنشطة الاجتماعية ولعمل المرأة، وللحفلات الترفيهية والسينما المختلطة،
وانغلقت جمعية (نساء الكلية) على نفسها بعد أن اعتُقلت (عائشة الفاسي) زوجة
المدير في نفس الفترة، ولكن الأبواب المغلقة أدخلت السياسة من الشباك، فبدأت
بوادر التحزب السياسي والديني في الشيوع بين الطلاب، الذين انقسموا إلى قسمين،
ليبرالي يعبر عن الكثرة، وتيار وطني قليل العدد، وآخر ديني ذي طبيعة (سنيّة)،
إذ لم يكن الشارع الديني الشيعي السياسي، آنذاك قد تبلور، حيث يتوزع شارعه
السياسي، في مواقع الطائفة الشيعية، بين التيارات (البعثيه، والقومية الأخرى،
واليسارية). ومنذ عام 71م، بدأ فكر الإخوان المسلمين يدب على استحياء في
الوسط الطلابي، وأعتقد أنه لم يجد صدى كافياً إزاء غلبة التوجه الليبرالي، في
صيغته الاجتماعية لا السياسية، ولم يزاحم (الأخوان) إلا تيار (جماعة
التبليغ)الذين استطاعوا تشكيل قاعدة ملموسة لهم بين الطلاب، حيث بدأت بوادر
تطويل اللحية، وتقصير الثوب، واعتزال الحياة الاجتماعية في مرافق الكلية، وقد
صاحب ذلك نشاط دعوي في ندوات مساجد سكن الطلاب، ومن خلال تنظيم الرحلات إلى
مسجد (النور) في الخبر. وقد كنت بطبيعتي الحوارية صديقاً للجميع، فيجذبني
الليبراليون بتفتحهم على الحياة، و(التبليغيون)، بسماتهم وطيب معشرهم، ويعجبني
(الأخوان) باهتمامهم بقضايا الأمة الإسلامية وخياراتها المستقبلية، إلا أن عنف
كتابات سيد قطب ووصم المجتمعات الإسلامية بالجاهلية، جعلني أقرب إلى جماعة
التبليغ. ولكن اهتماماتي الثقافية، ولا سيما الافتتان بتجربة شعر التفعيلة،
ثم تعرفي على الوسط الصحفي والأدبي خارج الكلية، قد حدا بي إلى الانغماس في
شؤون الوطن، وبالقضايا القومية والآفاق التقدمية، تصادياً مع ما تطرحه تلك
الكتب والنخب من أفكار، وكان للأستاذ محمد العلي دور المعلّم في حسم خياراتي
الثقافية والتقدمية، وينطبق عليه قول أحدهم (المعلمون هم الذين يدرِّسون حقائق
مختلفة). وقد ترسخ طريق القطيعة مع (جماعة التبليغ)، جراء تركيزهم على الزهد
في الدنيا وابتعادهم عن التعاطي مع القضايا الوطنية والقومية،وتأثيرهم على بعض
الطلاب لترك الدراسة والانقطاع إلى العبادة والدعوة، وكان الجهاد عندهم،هو ترك
الوظيفة والانتقال معهم من مسجد إلى آخر، من الثقبة إلى الخفجي. وللحق فإن
هذا المسلك كان ينكره عليهم حتى(الأخوان المسلمين)، أما الوسط الليبرالي فقد
تندّر بهذا السلوك وعمل على محاربته. مضت سنوات الدراسة في الكلية بعد ذلك
بهدوء ،لم تشعله المظاهرات، ولا أحزان موت عبد الناصر، ولا صراع السياسة، وكان
آخر عهد طلابها بالمشاركة في الحركة الجماهيرية، ما اضطلعوا به من إسهام في
مظاهرات نكسة حزيران عام 67م، حيث صوت الطلاب بالأغلبية، على مقترح المساهمة في
المظاهرات، التي عمّت المنطقة الشرقية، وانظموا لتلك المظاهرة التاريخية التي
ساهمت القوى السياسية في تحريكها، انطلاقاً من أرامكو بالظهران حتى مبنى
القنصلية الأمريكية، تعبيراً عن رفض الموقف الأمريكي المنحاز للعدو
الإسرائيلي. وقد اعتقلت المباحث عدداً من الطلاب الناشطين، ومنهم بعض الطلبة
الجزائريين الذين تم ترحيلهم إلى بلادهم فيما بعد، ورئيس الرابطة آنذاك (جاسم
الأنصاري)،الذي أُطلق سراحه بعد مدة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتحرك المظاهرات
أمام مبنى القنصلية، نتيجة للتغيرات الهائلة والسلبية في آن، التي صبغت مظاهر
الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المملكة، كنتيجة لعوائد الطفرة البترولية
التي بدأت منذ عام 74م، فقضت على الطبقة العمالية الناشئة، وجرفت بطوفانها
الأجيال الجديدة التي ألفت الحياة الاستهلاكية، وانصرفت إلى همومها المعيشية
دون اكتراث بمعنى الانتماء للوطن وتحدياته الكبيرة،كما أسهمت الثورة الإيرانية
وبروز الحركات الإسلامية في استكمال المهمة، لتغييب الحس القومي من وجدان
الجماهير. بيد أن الطفرة، ومنذ منتصف الثمانينات، قد آلت إلى ركود
واختناقات، كنتيجة لفشل خطط التنمية الاقتصادية والبشرية، واستنزاف ثروات
البلاد،وتفشي ظواهر الفساد المالي والإداري ،و قد ساعد ذلك على تأزيم الأوضاع
الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.كما ساهم الركود الاقتصادي في تقلص حجم
الطبقة الوسطى، وتراكم الأزمات المعيشيه في مجالات التعليم والسكن والعمل،وبروز
ظاهرة الفقر وجيوش العاطلين عن العمل، مما ساعد على تعميق مشاعرالغضب والنقمة،
لدى شرائح واسعة من المواطنين. وفي ابريل من عام 2002م، كان الغضب على موعد
مع التضامن الشعبي مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في الأرض المحتلة، فعمت
المظاهرات مدن صفوى و القطيف،ودعا الشيخ عبد الحميد المبارك إلى التظاهر أمام
القنصلية الأمريكية في الظهران بعد صلاة الجمعة. وكانت القنصلية، لحسن الحظ أو
لسوئه، لا تبعد عن منزلنا أكثر من كيلو متر واحد،لذا كنت وفوزيه في الصف الأول
من الجماهير، التي زحفت بالآلاف إلى موقع القنصلية، للتنديد بإسرائيل وحليفتها
الولايات المتحدة. وكانت المظاهرة شديدة العفوية، فلم ترفع لافتة واحدة، ولا
هتافاً محدداً، ولم تقدم خطاباً إلى السفير الأمريكي، بل إنها لم تكن تعرف كيف
تبدأ ولا كيف تنتهي. وهذا الشكل العفوي نتاج لغياب التجربة والتنظيمات السياسية
عن العمل في وسط الجماهير. وقد حرص رجال الأمن على سد الطريق المؤدية إلى بوابة
القنصلية،ووقفوا في مواقعهم لمدة ساعة،غير أن الحشود الهائلة القادمة من كل
المدن قد استدعت الشرطة إلى قفل الطريق المؤدية إلى الظهران، فاكتفى ألآلاف،
فوق الجسور وتحتها، بالوقوف للفرجة على الجماهير المحيطة بحواجز الأسلاك
الممتدة حول القنصلية. وفي لحظات عاجلة، باغتت الشرطة الجماهير، فهجمت عليهم
بالهراوات للتخويف، وبدأت نذر الاشتباك بين الطرفين تفصح عن قسوتها،لكنني بادرت
مع عدد من المتظاهرين، للتحدث إلى ضباط الشرطة قائلين لهم : إن هذه مظاهرة
سلمية للتضامن مع إخواننا الفلسطينيين ـ الذين تدوسهم مجنزرات شارون ـ وليست ضد
الحكومة،وأنه يجدر بكم أن تكونوا معنا لا أن تكونوا علينا. تفهّم بعضهم رأينا
واعترض البعض بأن لديهم أوامر شديدة بتفريق المظاهرة، فقلنا لهم دعوا رجال
الطوارئ يقفون في موقعهم، فيما نقوم بتشجيع الجماهير على العودة إلى الخلف،
بعيداً عن سور القنصلية. وبدأنا المهمة الصعبة،فحيناً يأخذنا الحماس، فنرفع
أصواتنا بالشعارات مع المتظاهرين،وحيناً نحاول إقناع الجماهير للتراجع إلى
الخلف. ولكنها لم تكن مهمة سهلة، فقد تلقيت الضربات بالعصي من الجنود،
باعتباري في مقدمة المتظاهرين، فيما تلقيت (الكفوف) من بعض الجماهير، الذين
ظنوني من المباحث! وبعد ساعتين من آداء الدور المزدوج وجدتني، مرهقاً
فاحتميت بجدار تحت الجسر،غير أنني خشيت على (فوزية) من المعركة التي
بدأت،فأسرعت للوصول إليها ولكنها أصرت على البقاء وقالت : أخواتنا الفلسطينيات
يواجهن المجنزرات بأجسادهن،وسأحتمل ما يحدث لي،فاتركني. هجم الجنود على بعض
الشباب واقتادوهم إلى سيارات الشرطة، فركضت خلف أحدهم محاولاً تحرير الشاب من
قبضته، فاستدعى زملاءه للقبض عليّ. اقتادوني إلى جيب الشرطة،ولحظتها رأيت
عميداً من شرطة الدمام من أبناء قبيلتي، فاستثرت حميته لإطلاقي من بين يدي
العسكر، ولكنه تجاهلني بكل برود! وضعوني في السيارة إلى جوار ثلاثة شبان من
المتظاهرين الأقوياء، وحينها أطلّ عليّ (عريف)، كان قد حضر حوارنا مع الضابط
فقلت له : أهذا جزاء من ساهم في أن تمضي المظاهرة بدون احتكاك بينكم وبين
الجماهير؟ حدّق في وجهي، ولعله تذكرني، فأخرجني من السيارة، فشكرته ورجوته
أن يطلق سراح الشباب، فقال لي: لا عليك، سوف يطلق سراحهم من مبنى الشرطة، ومضى
يتعقب الآخرين. كان النهار طويلاً،ولم أتناول أدويتي،فشعرت بالتعب،ومضيت
أبحث عن فوزيه،فوجدتها مع صديقتها في السيارة،وقلت لها أعتقد أننا قد أدينا
الواجب،ولنعد إلى البيت. وافقت، ولكنها أخرجت كاميرا الفيديو، وبدأت في تصوير
بقايا المظاهرة الزاحفة نحو الخبر، وكانت فوزيه تحمل هذه الكاميرا معها دائما،
لتصوير أي حدث تراه مهماً، ولكنها لم تكمل تصوير دقيقة واحدة حتى أحاط بنا رجال
المباحث. قذفونا بأسوأ كلمات السباب، وسحبوا الكاميرا، وطلبوا مني بطاقة
الأحوال، ومرافقتهم إلى المباحث، غير أن وجود صديقة (فوزية) معنا أنقذ الموقف
حين تحدثت واستعطفت أحد الضباط، فأخلى سبيلنا، وأبلغني أنهم سيستدعوني
لاحقاً. وبعد أربعة أيام استدعتني مباحث الخبر، واستقبلني ضابط مهذب. حاورني
فيما حدث، وطلب مني التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في أية مظاهرة أخرى،
والتعهد بعدم السماح لزوجتي أو لأولادي بالمشاركة أيضاً! توقفت
مليّاً،وحاولت التملص من التعهد،ولكن الضابط أوضح لي أنه يعرف ماضيّ السياسي،
وأنه لابد من التوقيع، أو الدخول إلى السجن. فكرت في الأمر وسألت نفسي : هل
من المصلحة أن أمتنع عن التوقيع وأدخل السجن برفقة الشيخ الدكتور عبد الحميد
المبارك،والشيخ مهنا الحبيل، أم أوقع،وأستمر في مشروع خطابات المطالب
الإصلاحية، التي كنا نتشاور مع الأصدقاء في مختلف أرجاء البلاد حولها! وقعت
وأنا مرغم،وما زلت أحمل ذل هزيمة التوقيع حتى اعتقلني النقيب سعيد
الزهراني،وقادني إلى مبنى المباحث في سجن الدمام القديم لأقابل المسئول،(أبو
محمد).الذي أسلمني ـ بعد الاستماع إلى ما دار بيني وبين الأمير محمد بن نايف ـ
إلى المحقق. قلت للمحقق: لم أعِدْ الأمير بعدم المشاركة في هذا الاجتماع أو
سواه،وإنما وعدته تحديداً بعدم المساهمة في إعداد أو التوقيع على خطابات مطلبية
جماعية لمدة معينة، ومازلت ملتزماً بهذا الوعد،حتى الآن،ولو كنت وعدته بشيء آخر
لالتزمت به. وبعد الانتهاء من التحقيق عرض (المحقق)عليّ تعهداً يتضمن من بين
أمور أخرى، عدم عودتي لما بدر مني من إثارة للفتن، وتحريض للمواطنين على الخروج
على ولي الأمر، والالتزام بعدم كتابة أي بيان أو خطاب، يزعزع الوحدة الوطنية،أو
يشكك في الأسس التي قامت عليها الدولة. توقفت طويلاً أمام التعهد،وقلبت أمري
ذات اليمين وذات الشمال، وقلت للمحقق، سأكتب صيغة أخرى أتعهد فيها بما تعهدت به
للأمير دون الإشارة إلى الماضي أو ما بدر مني بحسب التعهد، فأنا لم أرتكب خطأً،
ولم أسع إلى فتنة أو عصيان لولي الأمر كما زعمتم. قال لا أملك حق تغيير حرف
واحد في هذه الصيغة، و لكنني تمسكت برأيي بعدم القدرة على التوقيع على هذا
التعهد. حاول إقناعي فلم أستجب،وحينها قال بغضب للعسكري : خذه إلى
السجن. أخذني العسكري إلى غرفة صغيرة و نظيفة، ومضاءة بأنوار خافته،وبها
حمام بدون باب أو مروحة تهوية. جلست على الكنبة، وأغلق الحارس الباب وجلس
على كرسي مقابل لي،وأخذ يحملق فيّ طوال الوقت. قلت له هل يمكن أن تتكلم معي،
فرد برأسه بإشارة(لا)! كانت الساعة الثامنة، وجاءني العشاء (ساندويتش بيض)،
وكوب من الشاي، ورغم حاجتي للأكل من أجل الدواء،إلا أنني كنت في دوامة من
التفكير المشتت،الذي يبدأ ولا يصل إلى قرار وكأن المتنبي قال فيه : وشرّق
حتى ليس للشرق مشرق وغرّب حتى ليس للغرب مغربُ. وضعت الساندويتش
بجانبي،وبدأت أحملق في السقف. كان الوقت يزحف كئيباً مثقلاً بالهموم، فقررت
تقطيعه بالمشي في الغرفة ما بين السرير العريض، والحمام، ولكنه يتمطى كليل امرئ
القيس،فحاولت إشغال نفسي بتذكر بعض القصائد،ولكنني فشلت في التركيز. هل
أوقع،وأعود إلى حضن زوجتي والبيت والأولاد؟ هذه دولة قمعية في آخر الأمر،
ولا يمكن للفرد وحيداً مقاومتها، فهل أحني قامتي للريح حتى تعبر؟ ولكن ماذا
أقول لزوجتي وأبنائي والعشرات الذين جمعت تواقيعهم على الخطابات،وأنا ممتلئ
بالثقة بان مطالبنا مشروعة وأنه لن يصب أحد،جرائها، بأذى؟ كيف تمضي حياتي
وأنا كالطائر االحبيس،لا أستطيع ممارسة حقوقي في التعبير عن الواجب الوطني، ولا
أملك الحق في السفر إلى الخارج، حتى تمر العاصفة؟ وفي حوالي الثانية عشرة
ليلاً،جاء العريف وأخذني للمحقق. أجلسني أمامه وقال: استطعت الحصول على
موافقة بحذف الاعتذار عن النشاط السابق، والتركيز فقط على المستقبل. أخذت
التعهد منه،وطلبت ورقة لصياغته بطريقة ترضي الطرفين. أعددت المسودة،وربطت
التعهد بفترة زمنية محدودة،واستبعدت القسم. سألني لماذا حذفت القسم، فأجبته:
يكفيني أن أتعرض للجزاء الصارم منكم، أما الحنث بيمين القسم فإنه سيحمّلني تهمة
(الحنث بالأيمان)، وهذا ما لا أستطيعه. وسألني، لماذا وضعت (لمدة محدودة)،
فقلت له: ذلك ما وعدت به الأمير محمد، فلا يمكن أن يوقع الإنسان على تعهد مفتوح
إلى الأبد! قال: ومن يحدد معنى (محدودة)؟ فأوضحت له، إن المعنى الشائع يعني
مدة قصيرة، ثلاثة أشهر أو أربعة. قال لا، ولكن نكتب (حتى أراجع سمو الأمير
محمد) فكرت في الأمر وعلّقت: يعني أروح للسجن بنفسي! ثم تذكرت المنع من
السفر، وقلت له، لا أوقع إلا برفع اسمي من قائمة الممنوعين من السفر. أجابني
منفعلا : هذا ليس من حقك لكي تفرضه علينا... وقِّع وبعد ذلك راجع الوزارة
للمطالبة بالسماح لك بالسفر ! قلت له: هذا أمر صعب، ولا أستطيع التوقيع على
التعهد بدونه. قام مغضباً،وأمر العسكري بإعادتي إلى السجن. لم أمر بلحظة
اختيار صعبة كهذه منذ مدة طويلة، فقد مكنتني تجارب الحياة في الحزب والسجن،
والصحافة، والبنك، من القدرة على تحليل المشاكل إلى مكوناتها الرئيسية،واتخاذ
القرار المناسب والحاسم أيضاً مهما كانت قسوته... ولكني الليلة أمام اختبار
جديد، لا يصفه إلا شطران من بيتين متباعدين من قصيدة البردوني (وردة من سرج خيل
المتنبي) أو عنوان مقارب لذلك، كنت استحضرهما كلما واجهت موقفاً مرتبكاً
شبيهاً،عن بعد، بهذا الموقف: من تلظّي لموعه كاد يعمى أصعب الاختيارات إمّا
وإمّا ! وفي الحقيقة أن المباحث قد دفعتني بنجاح إلى هذا المأزق،ذلك أنها
حين تعتقل أصحاب الرأي وتزج بهم في السجن بدون خيارات أخرى،تصبح معركة المعتقل
مع السلطة وحسب، أما حين تطرح أمامه إمكانية الخروج مقيداً، فإن الإنسان لم
يخلق للسجن، ولذا تمارس عليه حواسه ضغوطاً كبيرة للخروج. وبذلك نقلت المباحث
المعركة إلى منطقة أخرى، يحتدم فيها الصراع بين المعتقل وذاته، وقد تزيّن له
رغباته وإغواء مباهج حياته، أن المباحث قد أبقت باب الحرية أمامه مفتوحاً،فلم
يغلقه بعناده؟ وتذكرت ما قلت في قصيدة (البياض) يا أخا الوجد قلبي
قريضٌ من شآبيب رحمةٍ ورماحِ تستبيني الخطى فأعدو إليها مثقلاً
بالحديد والألواحِ لم تخني بصيرتي غير أني أتشهّى مباهجي وارتياحي
نعم... فكلما صممت على رفض التعهد (خاتلتني مباهجي وارتياحي) لدفعي للخروج!
كنت منذ خروجي من لقاء الأمير محمد، أتحسّس تحت نعومة القفاز الحريري الذي
أمسكني به، مخالب حديدية تخترق العظم، ولكنني رأيت في أسلوب اللقاء
الحضاري،ووعده بتنظيم لقاءات شهرية للمثقفين مع أحد أركان القيادة،باباً سيفضي
مع الوقت إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه على الأقل. كنت أتحاور مع
الزملاء حول احتمالات الاعتقال،وكان البعض يرى أن علينا احتمال تبعات نشاطنا
الإصلاحي،فالحرية لا توهب،ولا تهبط من السماء،وإنما تصنعها تضحيات الناس. وكنت
أتفق مع هذا الرأي، ولكن الكثيرين يستبعدون الاعتقال،وحصر إمكانية التضييق على
دعاة الإصلاح السياسي بالمنع من السفر. وكانوا ينطلقون في ذلك من تحليلات تبدو
منطقية جداً،وتذهب إلى أن الخط الإصلاحي في القيادة يحتاج إلى الدعم الذي تقدمه
له خطاباتنا للمضي في الإصلاح،كما أن السقف الذي سمح لحرية التعبير عن المطالب،
في الصحف والانترنت وشاشات الفضائيات، يخدم القيادة، لأنه يفتح مجالاً للحوار
والتنفيس، إزاء الاختناقات التي يعيشها المواطنون،ويضيفون، أن هذا المناخ الذي
أسماه البعض (ربيع الرياض)، أو (ربيع السعودية)، يكاد أن يكون أفضل وسيلة
دفاعية حيال الحملات الإعلامية الغربية الموجهة ضد المملكة. وحين طرحت على
الأصدقاء في ديوانية (المنتدى المدني) تفاصيل ما دار بيني وبين الأمير محمد بن
نايف، فوجئ الكثيرون،وقالوا،أنه (ربيع براغ) إذن ! الذي قضت عليه الدبابات
السوفيتية في تشيكوسلوفاكيا في عام 68م. وأضحكت المفارقة بعضهم، حين قارنوا
بين الدبابات، وبين القفازات الحريرية ! وسأل أحدهم: ما هو الموقف من هذا
الالتزام، ومن احتمالات تكراره مع الآخرين ؟ وحيث لم أرد نشر الإحباط بينهم
فيصابوا بعدواي،قلت : لندع هذا الأمر كخيار فردي، يواجهه كل واحد منا بحسب
قناعاته وظروفه ! وكان هذا خطأي الثالث بعد الخطأين المشار إليهما آنفاً،فلو
أننا تحاورنا وخرجنا برؤية مشتركة،لسهّلت عليّ الخيار الصعب، الذي أواجهه
وحيداً في السجن،ولو أن الرأي قد مال إلى رفض التعهد ودفع فاتورته،لحسمت موقفي
منذ البدء، و لكان الصديق ـ الوطني المعروف ـ نجيب الخنيزي، الذي لم يحضر تلك
الليلة، معي الآن في سجن عليشة بالرياض! استأذنني العسكري بالتدخين في
الغرفة، فوافقت ولكن ضباب الدخان كاد يخنقني، فقررت عدم فتح علبة الدخان التي
اشتريتها بعد العشاء ووضعتها بجانبي،وقلت لن أدخن حتى تنجلي الأمور. مضى
الليل الذي لا يشبه إلا ذاته،ومضيت ساهراً أقلّب دفتر الذكريات والمواجع،
واستعدت مرارة تعهدي بعدم المشاركة في المظاهرات،وتذكرت حزن أبي وتجرّعه هزيمة
التعهد بعدم المطالبة بالتعويض المالي، عن أراضينا الزراعية التي تحول إلى خط
الإسفلت السريع. وأورد هنا بعض تفاصيل موضوع والدي،للترفيه عن القارئ الذي
أصابه الملل من هذه الدراما. حين تم تعيين الأمير محمد بن سعود حاكماً
لمنطقة الباحة في عام 89م،قام باستئجار منزل جميل يملكه أحد المواطنين في قرية
(الطرفين) بوادي العلي. وتبعد القرية عن المقر الإداري للأمارة، بمدينة الباحة
بحوالي عشرة كيلومترات. ولكن المسافة تتوزع بين الجبال والأودية والمنحنيات
الخطرة في طريق ضيق وقديم، يصل بين الباحة وقرى وادي العلي وبني ضبيان،بما لا
يستطيع سموه تحمله. فبذل سموه جهوداً مضنية لإقناع وزارة البلديات والشؤون
القروية، بشق طريق مزدوج سريع يصل المنزل المستأجر بالأمارة، دون أن يتجاوز
الطريق ذلك القصر بمتر واحد على الأقل،(وبالمناسبة، فإن هذا الطريق هو المشروع
الوحيد الذي جرى تنفيذه في المنطقة منذ تعيين سموه أميراً للباحة وحتى اليوم)،
وقد أدى الأمر إلى مرور الطريق عبر الأراضي الزراعية، ومنها أملاك والدي التي
ورثها أباً عن جد. و سعى والدي، من أجل هذا، لاستخراج صك استحكام يثبت
ملكيته لهذه الأرضي الزراعية، بهدف الحصول على التعويض المالي. وقبل ذلك، كان
لابد، من حصر الورثة والحصول منهم على تنازل عن مستحقاتهم في تلك
الأراضي. ولكم أن تتخيلوا عدد الأقرباء الذين يرتبطون بالنسب إلى عائلتنا،
والمنتشرين في العديد من القرى. وقد كلفنا الأمر دفع مبالغ كبيرة لكل هؤلاء
الورثة الذين لا نعرف الكثيرين منهم، لكي يتنازلوا عن حقوقهم مقابل ما دفعناه
لهم من أموال. وبفضل الجهد الكبير الذي بذله والدي تم إنجاز تلك المهمة، بعد
أن دفعنا الأموال المطلوبة للأقرباء البعيدين. ولكن التعويض بقي معلقاً في
الوزارة لسنوات طويلة، وحتى اليوم بحجة عدم كفاية المخصصات، واستمر والدي يراجع
البلدية بانتظام حتى ملُُوا منه. وفي إحدى زياراتي للباحة،ذهبت للسلام على
الأمير،وكان مدير مكتبه زميلاً تربطني به علاقة صحفية، فأخبرته بمشكلة والدي مع
التعويض المالي في البلدية،واتفقنا على أن أكتب للأمير خطاباً لبقاً يتمنى عليه
مساعدتنا في استكمال إجراءات صرف التعويض المالي عن أراضينا الزراعية. كتبت
الخطاب في الدمام، وأرسلته لمدير مكتب الأمير،وبعد ثلاثة أيام، جاءني الخبر
السعيد من والدي مقروناً بالسباب والشتائم! ماذا حدث يا أبي... لقد توسطت
لك عند الأمير - قال لي : (ليتهم رقدوا،وش سويت يا حبابي)...(وهذا مثل جنوبي
يقصد : ليت الأب لم ينم مع زوجته في تلك الليلة التي حملت بي فيها) لقد
استدعتني الشرطة وطلبت مني التوقيع على تعهد بعدم مراجعة البلدية للمطالبة
بحقوقي، لأن المعاملة قد رفعت للمركز في أبها منذ سنوات طويلة،وما علي إلا
الانتظار،وعدم إزعاج السلطات بالمطالبة بحقوقي. وقال لي أبي،لقد رفضت التوقيع
على التعهد، ولكنهم أدخلوني غرفة التوقيف حتى مللت،فرضخت للأمر الواقع،وخرجت
بالهزيمة لأنك توسطت لي،(لا بارك الله فيك،لا أنت ولا وساطتك)،ولو كانت الأرض
لأحد الأمراء لاستلم قيمتها مضاعفة خلال يومين. خمسة عشر عاماً مضت ومازال
والدي ينتظر التعويض المالي، والأهم من ذلك أنه مازال يستشعر المهانة لأنه أخضع
بقوة من قمع الشرطة والنظام، للتنازل عن حقه الطبيعي في المطالبة باستلام قيمة
أراضيه، التي استولت عليها الدولة، و تذكرت والدي في هذه الليلة جيداً،
وتخيّلته يوصيني بعدم التنازل عن حقوقي! كنت أتوقع الاعتقال بعد لقائي
بالأمير محمد،لا كنتيجة لإخلالي بالالتزام المشروط الذي وعدته به، ولكن لأنني
قد اتفقت مع بعض الأصدقاء المشاركين في تقديم طلب بالترخيص لنشاط (اللجنة
الأهلية لحقوق الإنسان)، لوزارة العمل ومتابعته لمدة عام كامل،بأننا سوف نسافر
إلى (جنيف) تلبية لدعوة تلقيناها من لقاء عالمي لجمعيات حقوق الإنسان، ومن ثم
يتم إشهار اللجنة في ذلك المنتدى. كنت أعرف أن هذا الإعلان قد يستدعي
الاعتقال، ولذا رأيت أنه من الأفضل لي أن استفيد من فرصة (ترشيد الموظفين)
بتشجيعهم على التقاعد المبكر، التي كان يقدمها البنك الأهلي لبعض موظفيه
القدامى،تخلّصاً منهم، فحصلت على ذلك، وحررت نفسي مبكراً من تعب الوظيفة
متهيئاً للسجن! و نتيجة لهذا القرار، فإن مخاطرة الفصل من الوظيفة، لم تعد
تشغلني الآن في سجن الدمام. كان الوقت قد قارب طلوع الفجر، وكنت أقول لنفسي
ما قاله عبد الكريم كاصد: ما الشجاعة إن أسلمتنا إلى الضعف،وما الأمانة إذا
أسلمتنا للوعود ؟،وحينها اتخذت قراري بعدم التوقيع على التعهد مهما كانت صيغته،
وليكن ما يكون! تخفّفت من صراع الذات مع نفسها،وتهيأت لاحتمال
التبعات،فالظرف ملائم والريح مواتية،وقد نلت من دنياي الكثير،عشقاً وحباً
ووظيفة وشعراً وانتماءً،ولم يبق إلا القليل، فعلى بركة الله سأنام قرير
العين. نزعت ثيابي، ومن عاداتي حين أنزعها في بيتي، ألا أخرج منه إلا صباح
الغد مهما كانت الظروف، وهنا سأنزعها وقد قررت عدم توقيع التعهد. نمت وكأنما
أزحت عن صدري كل أثقال الدنيا،ولكن العسكري لم يمنحني متعة الاستغراق في النوم،
لأنه كان سجيناً معي في نفس الغرفة،وكان يطرق بابا الحديد كل نصف ساعة ليطلب من
العسكري المناوب خارج الغرفة أمراً ما،وهكذا مضى الليل الأول بدون نوم. وفي
حوالي العاشرة من صباح اليوم التالي الأربعاء 17/3/2004، استدعاني المحقق،
فلبست ملابسي ووضعت العقال على الشماغ، ومضيت مع العسكري إلى مكتب التحقيق،
وكانت ملامح الارتياح والرضى بادية على وجهي،قال (المحقق): أراك مرتاحاً، فلعلك
نمت بشكل طيب. فعلقت على كلماته، بالموافقة رغم أن العسكري لم يمكنني من
ذلك، ابتسم قليلاً، وأدركت أنه ربما أوصى العسكري بإقلاق منامي لكي يدفعني
للتضايق من السجن والتوقيع على التعهد. فتح دفتر التحقيق، وقال: إنني أعرض عليك
من موقع التقدير وللمرة الأخيرة، أن توقع على التعهد بصيغته المعدًّلة. قلت
له: أكتب هذا الكلام في الدفتر، فدونه وقدمه إلي. وكتبت: إنني لا أستطيع
التخلي عن حقي في التعبير عن الرأي والمطالبة بالإصلاح السياسي، وهو حق كفلته
لي الشريعة الإسلامية، والنظام الأساسي للحكم، ومواثيق حقوق الإنسان التي
وقعتها المملكة. تمعّن في ما كتبته بغضب، وقال: لقد اخترت البقاء في السجن
أذن ؟ فأجبته: لست عاشقاً للسجون، ولا باحثاً عن البطولات، ولكنني لا أستطيع
توقيع هذا التعهد الذي يسلبني حريتي وكرامتي وإنسانيتي. أما إذا قبلتم ما وعدت
به الأمير محمد شفوياً من تعهد محدد بفترة زمنية، فإنني التزم بذلك دون التوقيع
على هذا التعهد. قال : لقد جفت الأقلام وطويت الصحف، وأقفل الدفتر،ودعا
العسكري لإعادتي إلى السجن،وعندما كنت أغادر باب مكتبه،سمعته يقول : لسوف تلوم
نفسك كثيراً،ولسوف تعود إليّ ضارعاً لكي أوافق لك على التوقيع على
التعهد. كنت في منتصف الصالة المكتظة برجال المباحث، ولم يكن أمامي من سبيل
للرد سوى التشبث بحقي في إبداء الرأي و المطالبة بالإصلاح السياسي، ومن ثم دفع
ضريبته.
عُدّل الرد بواسطة عمر بك :
05-02-2008 في 01:05 AM
-
نعم, في الزنزانة لحن! (4)
عدت إلى كآبة الغرفة الواطئة السقف، فوجدت بعض الصحف على الكنبة،وحين
هممت بتصفحها، جاء العريف وأخذها من أمامي قائلاً: الصحف ممنوعة عليك بأمر
المحقق،فرضيت بالأمر،ودخلت في دوامة الصمت والتأمل، مغموراً بالكثير من الرضى
والمرارة أيضاً. جاءني مدير السجن لتفقد أحوالي، وقد أدار معي حواراً غير
مباشر، حاول من خلاله إقناعي بضرورة إطاعة ولي الأمر في السراء والضراء، حفظاً
لكيان الأمة وأمنها الاجتماعي. وقد عرضت عليه تفاصيل ما ورد في خطاباتنا
المطلبية،وأوضحت له أن تحقيقها كفيل بضمان حقوق الأمة ورضاها عن
الحاكم،والتفافها حول القيادة. وبينت له أننا قمنا بعمل ثقافي وأمني لم تستطع
تحقيقه كل الأجهزة الأمنية، حيث دعونا إلى التمسك بثوابت الوحدة الوطنية،و
الالتفاف حول القيادة في ضوء مشروع الإصلاح،ولم ندع إلى الخروج على الدولة، أو
نسع في إثارة الفتنة كما يدّّعي التحقيق. وحين لاحظ ألا فائدة من الحديث معي،
طلب مني جوالي المقفول منذ أمس،ومضى. وفي المساء،جاءني عريف وطلب مني مفتاح
سيارتي، وكتابة خطاب يفوضهم بتسليم السيارة إلى ابني عادل. سررت لذلك،فهذا
تعامل نظامي وحضاري،وكان مصدر سعادتي يعود إلى اطمئناني على أن المباحث قد
أبلغت عائلتي بوجودي لديهم! وفي مساء الخميس استدعاني (أبو محمد) مدير
المباحث في سجن الدمام، ودار بيننا حوار طويل توّجه بتشجيعي على توقيع التعهد،
وأبلغني بأن زملائي الذين اعتقلوا معي، قد عادوا إلى بيوتهم، أما موضوع السفر
فيمكن معالجته مع الجهات المختصة. لم أكن أعرف أن هناك معتقلين في الدمام
غيري،ولكن إغراء الخروج دغدغ مشاعري من جديد، بعد أن استثارها وجه (أبو محمد)
بابتسامته الدافئة،فبدَت لي مخايل الحرية خارج غرفة السقف الواطئ وكآبتها
القاتلة. قلت له : يا أبا محمد،والله إن الحرية مغرية، وأنني أعمل وغيري
لاستكمال شروطها الحقوقية والقانونية، وأن الخروج من السجن أشد إغراء، لكنني
أود أن يعرف المسئولون أن أوضاع بلادنا خطيرة،،وأن المخلصين للوطن وللقيادة، هم
الذين بادروا إلى وضع أصابعهم على مكامن الإشكاليات والمشاركة بالرأي في حلها.
وأنهم لم يقفوا صامتين أو متفرجين،وأن الدولة إذا لم تفتح باب الأمل وتسمح على
الأقل بالحديث العلني عن مطالب الإصلاح السياسي واستحقاقاته،فإن الأفق المسدود
لن يحل المشكلة،وأنني قد اخترت السجن لا تحديا للقيادة،ولكن حرصاً على إيصال
الرسالة بوضوح، بأنني أعتبر السجن أهون من الصمت إزاء المركب الذي يهدده
الإرهاب، والتحديات الخارجية، والاختناقات المعيشية للمواطنين. إننا مهددون
جميعاً بالغرق، وأتمنى أن يكون اختياري للسجن بديلاً عن الصمت،علامة صادقة على
أن المطالبة بالإصلاح السياسي ليست ترفاً ثقافياً، ولا تمريناً على الكتابة،ولا
حباً في الظهور، وإنما هو واجب يحمله ضمير المواطن الصادق.
يقول(رامبو)
(إن الذاكرة هي الآخر) ـ بمعنى، الآخر العدو ـ،ويقول مظفر النواب : (أن الواحد
منا يحمل في الداخل ضدّه)، وهذا ما وجدته معبأ في أدراج ذاكرتي المثقلة بآثار
الخوف من المباحث، والرعب من المحقق. وبالرغم من عدالة القضية التي أدافع
عنها، ومن امتلاكي كافة الحقائق التي تسندها،وبالرغم من القدرة على الرد بوضوح
وشجاعة على أسئلة المحقق،ومقاومة ما ينطوي عليه من خبث ومناورة،إلا أنني كنت
(مضبوعاً) ـ كمن سمّمه الضبع ـ بسطوة المحقق، ولذا التزمت طريق الدفاع والتبرير
والاستناد إلى حقوق المواطنة التي تكفل لي حق التعبير السلمي عن الرأي. كنت
مهذباً أكثر مما ينبغي، وكنت ألوم نفسي حين أعود من التحقيق إلى الغرفة، ولكنها
(ذاكرة) السجن الأول، ما برحت تطاردني، وتحد من اندفاعي في التعبير عن الحقائق،
وتسمية الأشياء بمسمياتها. لقد بقيت في حدود النص، نص الخطابات المجاملة أو
الخائفة من استثارة الأجهزة الأمنية، لأنها كُتبت في ظروف معينة، تخشى معها
اللغة من الذهاب إلى المعتقل. ولكنني الآن في المعتقل... وعليّ أن أكون أكثر
صرامة و وضوحاً،ولأبدأ بغسل الذاكرة من(أبو ناصر)و (أبو منصور). إن القضية
في تفاصيلها المطلبية تتقاطع مع برنامج الحزب، لأن الأزمات المزمنة واحدة،ولكن
أسلوب العمل العلني والسلمي مختلف جداً ! وما لم أتجاوز هلع التحقيق، بمعاييره
وأزمنته القديمة، و أغسل ذاكرتي من (الوشم) الذي علِق بها في ذلك الزمن البعيد،
فسأظل قاصراً عن التعبير عن اللحظة الراهنة واشتراطاتها المغايرة. و رأيت أن
عليّ التخلص نهائياً مما دوّنه (عبد الرحمن مجيد الربيعي) في روايته (الوشم)،عن
الذاكرة الشقية، التي حمل أثقالها أحد السياسيين المعتقلين، جراء ما تعرض له من
تعذيب إضطره للاعتراف على رفاقه. وأنا، وإن كنت لا أحمل وزر الاعتراف على أحد،
لكوني عضواً قاعدياً، إلا أن ذاكرتي ما زالت موشومة بآثار معاناتي مع المحقق
وأدواته القمعية، ولذا سأتحرر من كل ذلك باستعادة نص شعري قلته، بعد أن هبطت من
الدور الرابع إلى زنزانة سجن وزارة الداخلية في الدور الأرضي في عام 1982م، كما
سأزيح غلالة التورية عنه، لأتخلص منها وإلى الأبد! أهبط من هلع (التحقيق)
إلى قاع الزنزانة اتلمّس قلبي هل لا زال مكانه! (وقد ورد النص في
ديوان (رياح المواقع) بوضع كلمة التدقيق مكان التحقيق، و (الجبانة) في موضع
(الزنزانة)!!، ولكن شاكر الشيخ أحالها إلى أغنية في جلسات الأصدقاء،و قام
بتحريرها من تلك التورية البائسة). وقد ختمت القصيدة بما يلي: الآن أرى
الآن أرى أبصر عادل مبتسماً تحضنه نجلاء يا للأيام القادمة، ا
لخضراء أسْكِن قلبي للنوم صباح العاشر من عاشوراء. (وهذا النص يؤكد
على أنني كنت معتقلاً في تلك المناسبة (العاشر من محرم) لأنه تم اعتقالي في
أواخر ذي الحجة 1402هـ وليس في 16/3/1403هـ كما ذهب إلى ذلك الادعاء
العام). والآن.. أصبح عادل في الثالثة والعشرين من عمره طالباً في المراحل
النهائية في جامعة البترول، وقد سبقته نجلاء بالتخرج والزواج والإنجاب، فأنا
الآن جد ولي حفيدة وحفيد، و ربما شابه في عمره الآن، عمر عادل عندما اعتقلت
لأول مرة، كما أنني لم أر نجلاء إلا بعد مضي ثمانية أشهر على وجودي بالسجن حين
ضممتها وطفليها صباح عيد الفطر، ولكنني وطًًنت نفسي، منذ زمن بعيد، على احترام
خيارات أبنائي وقناعتهم، وهذا هو المستقبل الذي رأيته في الأيام
الخضراء! أنهيت تماريني الرياضية، ووقفت أمام السرير العريض الذي يفصله حاجز
خشبي عن مكان الجلوس، واستعدت ما قاله أحدهم (السرير بلا امرأة ربابة مقطوعة
الأوتار)، و كنت أتحاشى النوم عليه مخافة الذكريات،فالجسد آلة عجيبة، أما القلب
فكان مسكوناً باحتمالات السجن الطويل، و لذا عدت إلى فراشي الملقى على الأرض
بجوار الكنبة،وأسلمت قلبي للنوم صباح الجمعة 18 مارس 2004م. وحين صحوت كنت
أستشعر ارتياحاً كبيراً،فقد مضت عليّ ثلاث ،ليالٍ، استطعت خلالها التكيف مع
النوم،حيث أضع رأسي على المخدة في الثانية عشرة،وأبدأ بالعد من واحد إلى ما شاء
الله، وكنت أتذكر ابني خالد كلما بدأت بالعد،لأنه جاءني متأخراً عن النوم ذات
ليلة من ليالي امتحاناته حين كان في الصف الرابع الابتدائي،و شكى لي عدم قدرته
على النوم،فقلت له : فلتنس الاختبار، ولتركز على موضوع آخر،واقترحت عليه أن
يتذكر أسماء أصدقائه ومعارفه في المدرسة والحارة حتى يأتيه النوم. ولكنه فاجأني
في الصباح وعيناه محمرتان من قلة النوم،فسألته لماذا لم تتبع خطتي لكي يأتيك
النوم، فقال : لقد تذكرت أسماء أصدقائي ونسيت أسم أحدهم،فبقيت صاحٍ أحاول تذكر
أسمه، وما استطعت النوم.(وش هالأفكار يا بابا) ، والله إنني لا أستطيع الذهاب
إلى الامتحان قبل معرفة اسم صديقي،ولم يخرجنا من هذه الورطة إلا أخوه عادل الذي
ساعده على تذكر الاسم! والآن أنام خارج جحيم الأسماء، ولا يبقى إلا وجه
(فوزية) في خلفية الصورة، أوزّع عليه الأرقام، حتى يأخذني ملك النوم إلى جنته
في حوالي الثانية صباحاً. (يا الله صباح خير)، كانت الصحف أمامي محملة
بأنباء اعتقال وزارة الداخلية لعدد من المتورطين في الإساءة إلى الوحدة
الوطنية، وإثارة الفتنة، والتشكيك في نظام الدولة القائم على الشريعة
الإسلامية. كل هذه التهم..... (حتة وحدة)!!..على قول إخواننا
المصريين. وفي الحقيقة لم تكن أسئلة المحقق مثيرة بهذا الشكل،ولربما كانت
طبيعتها التساؤلية قد أخفت وضوح التهم المعلنة والتي تستدعي توقيع أقسى
العقوبات بمرتكبيها. وما دامت تهمي خطيرة إلى هذا الحد، فلماذا إذن يضّيع
المحقق وجهاز المباحث وقتهم معي، لإقناعي بالعودة إلى دفء العائلة، بمجرد
التوقيع على تعهد لا يشغل أكثر من نصف صفحة صغيرة؟. استطعت أن أتعرف على
الأسماء الموقوفة بنفس التهم، ومعظمهم ممن انهمكوا في الحراك الاجتماعي المطلبي
خلال العامين الماضيين، ولكن بعض الأسماء لم تكن بنفس الدرجة من الانشغال بهذا
الأمر، غير أن أكثر الأسماء لفتاً للانتباه..! هو أسم (خالد الحميد) ! فلم أكن
أعرف هذا الاسم،فبرغم مشاركتي في معظم البيانات والخطابات، إلا أنني لا أتذكر
وجوده في أي قائمة من قوائم الموقعين، فمن يكون هذا الناشط الذي انظم أخيراً
لدعاة الإصلاح السياسي)؟ تأملت الأسماء، التي أعرفها جيداً،وتملكتني فرحة
مضيئة،ولم أتمالك نفسي من البكاء الذي لا يلمّ بالمرء في لحظات كهذه إلا
نادراً،وحمدت الله على أنني اخترت الموقف الصائب. مرَّ النهار رهيفاً،ولم
أعد أشعر بكآبة السقف الواطئ للغرفة الموصدة المنافذ، وأصبحت أشعر بأنني أتنفس
هواء الحرية بعذوبة الانتشاء الذي يخطف الروح في ساعات الظهيرة. لقد قلت
للمحقق في صباح اليوم التالي : أشكرك لأنك حررتني من القيد الذي كبلني به (لطف)
الأمير محمد،ومن الالتزام الثقيل الذي لم يكن لي مفر من إعلانه،فأنا شاعر
أتعامل مع الكلمات، ويأسرني التعامل الإنساني، ولذا أتنازل كثيراً عن حقوقي لمن
يعرف كيفية استخدام الكلمات واللمسات الإنسانية. ولا أعرف لحظة عبّرت فيها عن
قناعاتي وموقفي، إلا عندما تجرحني كلمات الطرف الآخر، أو تشعرني بالمهانة،ولعل
من حسن حظي أن تم اعتقالي بتلك الطريقة القمعية المهينة، وأن يكون التعهد
قاسياً ومذلاً بمثل ما ورد في عباراته من إدانة،لكي استطيع التعبير عن الموقف
الذي ينبغي اتخاذه. كنت أراهن في حواري مع المحقق و (أبو محمد) على أمرين :
أولهما إقناعهم بالتزامي بالتعهد الشفهي الذي قطعته على نفسي أمام الأمير،
وبثقتي في أن تفاصيل ما اتفقت عليه مع الأمير من بدائل كفيلة بقبول المباحث
بذلك،ولو بعد شهر من السجن،أما الثاني : فهو منح الفرصة لتسرب خبر اعتقالي
وأسبابه لوسائل الإعلام،وهو ما سيكون تعويضاً ومبرراً لما سوف أضطر للتوقيع
عليه بعد ذلك من تعهدات. و كنت أتحسّس المهانة في التوقيع المبكر على التعهد
دون أن يعرف المواطنون بما حدث، وذهبت إلى تشبيه ذلك بعملية (اغتصاب) في
الظلام، ولذا اخترت طريق الحرية بالبقاء في السجن ! أما الآن،وقد أعلنت
وزارة الداخلية خبر اعتقالنا على خلفية البيانات والخطابات المطلبية،فإن ذلك
بحد ذاته يعتبر تطوراً جديداً ومكتسباً حقوقياً مبهجاً. وبالرغم من كل التهم
التي وردت في الإعلان إلا أنني لمست تهافتها جملة وتفصيلاً،لأن الخطابات
المطلبية المنشورة في وسائل الإعلام كفيلة بدحض كل تلك الافتراءات والقراءات
المتعسفة. ورأيت لحظتها، وبيقين صلب،أن الأجهزة الأمنية قد أسهمت
باعتقالنا،في تثبيت مشروعية ومصداقية مطالبنا،ونشرها على نطاق واسع بين
الجماهير،وفي وسائل الإعلام الخارجية،وأنها أخرجتنا بذلك من مأزق وصول الخطابات
إلى الطريق المكرور والمسدود معاً. ولعل اعتقالنا أيضاً،قد عمل على تسجيل الرد
العملي على الكثيرين، ممن يسخرون من هذه الخطابات الاستجدائية، أو من المشككين
في أن السلطة تقف خلفها، كما برهن الاعتقال على أننا تنكّبنا درباً وعراً كان
يحتاج إلى الشجاعة والبصيرة في آن واحد. كانت الصحف كافية لتبديد الوقت،
وكنت منتشياً بأخبارنا، وقارنت بين ما يحدث اليوم، من اضطرار الحكومة إلى إعلان
نبأ اعتقال(دعاة الإصلاح السياسي)، بينما كانت تضطر وزير إعلامها الدكتور
الفاضل محمد عبده يماني لتكذيب أنباء الاعتقالات السياسية التي طالت أعضاء
الحزب الشيوعي في السعودية،وحزب (العمل العربي الاشتراكي في الجزيرة العربية)
من الرجال والشباب والنساء في عام 1982م، بل وإصرارها على التعتيم على وجود
الأحزاب السرية في المملكة، وطلبها من المعتقلين صبيحة الإفراج عنهم، بالتعهّد
بعدم التحدث عن قضيتهم مع أي شخص. اليوم الجمعة،ولكن أنظمة السجن لا تسمح
للمعزولين بإقامة شعائر صلاة الجمعة مع غيرهم من السجناء، الذين تصلني أصواتهم
وجلبتهم العالية في الصباح وقت (التشميس)،فصلّيتها ظهراً ،بينما عوّضني إمام
المسجد المجاور، عن غياب الخطيب في السجن. كان صوتاً مجلجلاً وبليغاً
وقادراً على التأثير على سامعيه وعلى قناعاتهم ومشاعرهم، في هذا المكان
الروحاني الخالص، وكان يتنقل من قضايا فساد أخلاق المجتمع وانصرافهم عن شرع
الله ـ بالرغم من المئات الحاضرين ـ إلى حديث يشبه طلقات المدافع عن قضايا
الأمة الإسلامية،رافعاً صوته بالبكاء تارة، وبالدعاء للمجاهدين في
أفغانستان،والشيشان، وتارة بالدعاء على أعداء الأمة من الكفرة والصليبيين،
ولكنه لم يتعرض ببنت شفة للإرهاب والإرهابيين في بلادنا، الذين استحلوا دماء
الأبرياء من مواطنين ومقيمين. وتأملت ما يحمله هذا الخطاب الديني المتشدد من
درجات تكفير المجتمع، ومن استعداء للآخر، مستفيداً من ميكروفونات هذا المكان
الطاهر، للتأثير على المصلين والسامعين عن بعد. واستعدت ما تقوم به بعض
السلطات العربية من إجراءات لتقييد حرية الخطباء في المساجد، ولأول مرة أجدني
مقتنعاً بان هالة القدسية التي يستمدها الخطيب من موقعه كإمام وخطيب وداعية،
تحمل في طياتها مخاطر شديدة، حين تتجاوز حدود الوعظ والإرشاد إلى الشئون
العامة،فيغدو خطابه مسيّجاً بالمهابة والتصديق، ويصبح وقعه على المصلين بالغ
السيطرة والتأثير في تشكيل الرأي والقناعات، فالمصلي، في يوم الجمعة،يجلس أمام
الخطيب متلبساً بحالة من الخشوع والجو الروحاني الذي يسلمه لتصديق تحليلات
الإمام، في الاجتماع والسياسة والوضع المحلي والدولي، فيتم تتويج الإمام مرجعاً
معرفياً شاملاً،يعبئ الأتباع بالقناعات الحاسمة،ويصوغ أفكار الآخرين وآرائهم
وفق اجتهاداته ودوافعه. أما الذين يمتلكون المعرفة في تلك الحقول ويتمتعون
برؤية نقدية حيال ما يسمعونه، فإنهم لا يتمتعون بالحق نفسه، في التعليق أو
التعقيب، أو الحوار مع قداسة كلمات الخطيب. وبالرغم من أن الأجهزة الأمنية
في بلادنا وفي البلدان العربية، تصادر بقوة القمع السلطوية، حق الخطيب في نقد
آداء الحكومة، وتعتدي بذلك على حقوق المواطنة، وحقوق الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والاحتساب السياسي على السلطة، إلا أنني وجدتني في ذلك اليوم أتفق ـ
جزئياً ـ مع تلك الأجهزة، في تقنين خطاب الوعظ الديني في المساجد، لكنني من
الجهة الأخرى، ألتزم بمساندة حقوق الخطباء، في التعبير عن آرائهم السلمية
وبحرية كاملة، خارج قداسة منبر المسجد،وفي مساحة تتوفر فيها الفرص المتكافئة،
للآخرين لمحاورتهم ،ونقض منطلقاتهم، أو تأييدها، ترسيخاً لتقاليد حوار الرأي
بالرأي والحجة بالحجة ،و بعيداً عن اللجوء إلى أدوات العنف الرمزي، المعبأة
بثقافة الإقصاء والغلو والتبديعِ والتكفير. هدأت مدفعية أصوات الإمام، وصلى
بالناس بخشوع، وجاءني الغداء ساخناً في حينه، ولأنني لم أتناول فطوري، فقد
أسرفت في أكل (الكبسة)، حتى داعبت رغبات النوم عينيّ، ولكنني قد تعلمت من تجربة
اعتقالي السابقة، عدم الاستسلام لإغواء غفوة النوم بعد (كبسة) الغداء، لأنها
أسلمتني لعذاب السهر والتقلب طيلة الليل في الفراش، وهي معاناة لا يوازيها إلا
عناء مقاومة عنف ضابط التحقيق، المتخصص في إلحاق الأذى النفسي والجسدي
بالمعتقل. اتكأت على الكنبة،واعدت قراءة أسماء المعتقلين للمرة العاشرة: من
جدة ـ محمد سعيد الطيب ومن الرياض ـ د. توفيق القصيّر،الشيخ سليمان الرشودي،د.
خالد العجيمي،د. حمد الكنهل،د. عبدالله الحامد،د. متروك الفالح،عبدالرحمن
اللاحم. ومن الدمام ـ نجيب الخنيزي،امير أبو خمسين، د. عدنان الشخص، علي
الدميني. أما خالد الحميد فقد عرفت لاحقاً في الرياض أنه ضابط التحقيق مع
المتهمين، فلماذا حشر اسمه إذن ؟ أحسست بدفء الجماعة، رغم عدم رؤيتي لزملائي
في الدمام، أو سماع أصواتهم،وفرحت لوجود هذا العدد الكبير من المعتقلين من
مختلف المناطق،والمرجعيات الثقافية،من التيار الديني المستنير ومن اللبراليين،
وتشبثت بقناعتي حينها، بالمضي في الإصرار على عدم التوقيع على التعهد. في
يوم السبت 19/3/2004م، استلمت في صباحه أول رسالة من عائلتي حيث حمل إليّ
(العريف)، صندوقاً خشبياً صغيراً طالما رأيته نائماً بهدوء في دولاب التلفاز في
صالة العائلة، وكانت فوزية تضع فيه بعض أوراقها الخاصة وقصاصاتٍ بيضاء وأقلام
متنوعة وتضعه بجانب الهاتف الثابت في صالة العائلة. فتحت الصندوق فإذا به يحوي
كمية كبيرة من الأدوية التي اعتدت تناولها في الحالات العادية والطارئة:
بندول،حبوب (ستربسل) للحلق، مضاد حيوي (أقمنتين)،قارورة دواء فيتامين،قطرة
للعين وقطرة للأنف، ومعها علبتان من حبوب (السكر) تكفي لشهرين ،و قال العريف
إنه استلمها من (عادل) ابني. عضّني الحنين إلى العائلة، وإلى احتضان عادل في
لحظاته الحميمة، وإلى صوت العود والطبل الذي يتشارك في تأليف الألحان الموقعة
عليها، خالد وعادل في كل خميس مع أصدقائهما في ملحق البيت. رفّ عزف عادل
المتميز على العود وصوت خالد الجميل وهما يغنيان، كلمات خاصة كتبتها أو ألفها
عادل، وتذكرت بيت الشعر: (يجد الحمام، ولو كوجدي لانبرى شجر الأراك مع
الحمام ينوح)ُ. قلت للعسكري: ألا يمكن أن أسلّم على ابني،فأجاب بان الزيارة
مازالت ممنوعة عنك... تأملت بحنان كل تلك الأدوية التي لم تنس فوزية شيئاً
منها،وقلت (للعريف)،مازحاً : لا أحد يريدني، المباحث تشجعني على الخروج من
السجن، وعائلتي أرسلت لي علاجاً يكفي لشهرين،والأجهزة الأمنية لا تسمح لي
بالسفر إلى الخارج،فماذا أفعل؟ ابتسم (العريف)،وقال وقِّع على استلام
الهدية،ووقعت مغتبطاً،فقد وصلت رسالة (فوزية). إنها راضية عن قراري، بل
وتشجعني، أو تطلب مني أن أبقى في السجن على الأقل لمدة شهرين، وحينها لمست
باليدين تلك الحكمة الذهبية التي عدلتها كالتالي : (وراء كل خيار عظيم للرجل،
امرأة عظيمة). تأقلمت شهيتي مع الأكل، ولكن الإمساك يضايقني ويضغط عليّ
مثلما يفعل سقف هذه الغرفة الواطئ، الذي لا يكفيه الهدم بل والإبعاد. إنه سقف
بلا إنسانية ولا قلب،ولا يشبه من بعيد أو قريب، ذلك السقف الذي يتأمل العائلة
وهم تحته يضحكون، فينزل من سقفه ويجلس معهم لكي يحس بإنسانيته،ويتمتع بدفء
العائلة الحميم... ذلك السقف الذي كتبت قصته الروائية (نورة الغامدي) في نص
بهذا العنوان. جاءني (المقضّي) بالجرائد، وأسرعت إلى تسقط أخبار الأصدقاء
المعتقلين، وفاجأني بأسماء من غادروا..،وهنا أدركت لماذا منعت عني الجرائد في
الأيام الأولى للتحقيق،ولماذا سمحوا لي بقراءتها بالرغم، من معرفتهم بتأثير
أخبارها الإيجابية على موقفي الرافض لتوقيع التعهد. الآن عرفت أنهم لعبوا
لعبة الإعلام باحتراف! منعوني من قراءة الصحف في البداية لكيلا أعلم بوجود
الأصدقاء في المعتقل فأرفض التعهد، وسمحوا بها لأنهم يعلمون أن بعضهم قد وقع
على التعهد، وأن ذلك سيؤثر على موقفي! نعم، لقد قضى هذا الخبر على شئ من
بهجتي، وكسر انتصاري الصغير، وأعادني إلى دائرة القلق والاحتمالات، ولكنني حسمت
أمري بالبقاء حتى أكمل تناول حبوب (السكر)التي أرسلتها فوزيه،لمدة شهرين على
الأقل! وبعد أن قرأت خبر إطلاق سراح المحامي عبد الرحمن اللاحم،أعدت قراءة
الأسماء، ووضعت جدول احتمالات خروجهم بحسب الأسبقية. ـ الدكتور توفيق
القصيّر،ورغم معرفتي المحدودة به،إلا أنني وجدته ينطوي على إحساس رقيق وشاعري
يشبهني، رغم تمتعه بمواهب ومعارف أخرى لا أملكها. واستذكرت لقاء فندق (الفهد
كراون) بالرياض فتوقفت عند تعليقه على مشروع (سداد)، الذي طرحه الدكتور
الحامد،وتذكرت قوله : لسنا في عجلة من أمرنا على التخندق المبكر،وأذكر أني
وافقته،بقناعة،على ذلك الرأي. ـ الشيخ سليمان الرشودي،رجل فاضل،قليل
الكلام،ولم ألحظ عليه حماساً لمشروع خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)،مثلما
وجدته عند آخرين،بيد أنه كان متحمساً بشكل مفاجىء لي عند طرح مشروع
(سداد)،ولحظتها لم أكن أعلم أنه قد قضى حوالي خمسة أعوام في السجن مع الشيخين،
سلمان العودة وسفر الحوالي،و إلا لكنت محضته الكثير من التقدير الذي
يستحقه،ولكنت عذرته على توقيعه على التعهد،لأن خمسة أعوام متتالية في السجن ـ
وفي غياب حركة جماهيرية سلمية مساندة ـ كافية لكسر ظهر أشد المناضلين
صلابة. ـ الأستاذ محمد سعيد طيب،وهو المناضل الوطني الصلب ـ مثل كثير من
المناضلين الوطنين الشرفاء في بلادنا ـ لم تلن قناته،رغم سنوات السجن التي
تجاوز مجموعها ثمان سنوات،منها خمس سنوات متواصلة. والأستاذ طيب،ألِف
الاستدعاءات والتعهدات، مراهناً دائما على الأمل بأن الزمن كفيل بإبطال
مفعولها،ولذا توقعته ثالثاً. الدكتور أبو بلال عبد الله الحامد،الوطني
الغيور والباحث الأكاديمي، والذي يعد رائداً لتجديد الخطاب الديني في بلادنا،
ويمتلك منهجاً ورؤية واضحة لمفهوم الدين والسياسة، والمقاصد الكلية للشريعة،
وضرورة الأخذ بآليات بناء الدولة الإسلامية الحديثة. وقد سجن ثلاث مرات ولمدد
قصيرة في حدود الأربعة أشهر لكل مرة. وحين كنا نعد الصيغة النهائية لخطاب (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله)، تم استدعاء الأستاذ محمد سعيد طيب إلى مقابلة الأمير
محمد بن نايف في الرياض، وخشينا أن يكون موضوع (الخطاب) قد تسرب إلى المباحث،
فسألني الدكتور الحامد ونحن ندور في الشوارع،مار أيك في الموقف من هذا
الاحتمال. قلت له،بقراءة موازين القوى،أعتقد أننا في الموقع الأضعف. وإذا ما
أصرت المباحث على تجميد الخطاب فأرى أن نقبل بذلك، على أن نسرّبه للإعلام فيما
بعد،وأنا مستعد لدفع عامين من عمري ثمناً لنشر الخطاب في وسائل الإعلام. قال
بصلابة : أما أنا فلن يثنيني عن ذلك إلا السجن،وإذا دخلت السجن،وهو كريه. فلكل
حادث حديث. أما الدكتور متروك الفالح،فإنه لم يجرب السجون،لكنه ينطوي على
صلابة ندر وجودها،وعلى روح تحد، وقتالية لا تهاب المخاطر،وقد استدعته المباحث
عقب نشره مقالته الشهيرة المعنونة (المستقبل السياسي في السعودية ـ الإصلاح في
وجه الإنهيار، أو التقسيم)... في جريدة (القدس العربي)،في شهر إبريل من عام
2002م،ورفض الذهاب إلى المباحث، وقال لهم: إذا كنتم لا تسمحون لي بالتعبير عن
رأيي كأستاذ للعلوم السياسية في الجامعة، فإنني مستعد لمغادرة البلاد، وهناك
عشرات الجامعات التي تود استقبالي. وقد رأيت،وبحسب معرفتي به أنه سيكون آخر
الموقعين، شريطة منحه حق السفر والإقامة في الخارج،ولأنه صادق وشجاع وعنيف،فإنه
لا يحسب حساباً للتبعات، ولا للمجاملات،وأنه سيصطدم مع كل من يحاول البحث عن
مخرج لهذه الأزمة. وهكذا تسليت بلعبة التخمين ليلاً كاملاً، وقررت أن يكون
موقفي مبنياً على ركيزتين، الأولى: حقوقية ووطنية ولا يجب أن أتخلى
عنها،والثانية: إصراري على عدم مغادرة السجن بدون أصدقائي، وأن يكون موعد خروجي
مربوطاً بآخر شخص منهم! ولكن يوم الأحد حمل معه مفاجأة كادت أن تعصف بموقفي
كله،ذلك أنني رأيت في حديث كولن باول الذي أدلى به للصحفيين في جدة،كلاماً
ابتزازيا لا يعبر عن حقيقة تاريخ الدور الأمريكي المعروف من قضايا الديمقراطية
وحقوق الإنسان في الدول الحليفة. فأمريكا صنعت الديكتاتوريات والانقلابات على
النظم الديمقراطية في العالم الثالث مثلما حدث في تشيلي،ونيكاراجوا،وسواها، كما
وقفت مع الأنظمة الاستبدادية ضد شعوبها، في إيران الشاه،وكوريا الجنوبية
وغيرها. فما الذي طرأ اليوم حتى يطالب الحكومة السعودية بمعاملة المعتقلين
الإصلاحيين وفق المعايير الديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان؟ وبدأت معركة
القلق والتساؤلات من جديد طوال اليوم. أترى الأمر مدبّر لكي يتم اتهامنا
بالتخابر مع جهات أجنبية، أم أنه ابتزاز لرفع معدلات تصدير البترول للجم حمى
ارتفاع أسعاره ؟ وفي المساء، لم استمتع بالعشاء، ولازمني إحساس بالألم
والمهانة،وفكرت في القبول بالتوقيع على التعهد، لكي أعلن رفضي لذلك الموقف
الأمريكي الانتهازي! ذلك أن المظالم الأمريكية وسياسة الكيل بمكيالين في
التعاطي مع القضايا العربية والإسلامية، تدفع بأي وطني ـ حتى ولو عانى من أنظمة
بلاده القمعية ـ لكي يعلن : أن الجنة التي تعدني بها أمريكا أو تحملني إليها
على بساط الريح مرفوضة،وإن نار بلادي أرحم منها. ألا يخجل (كولن باول) من
التحدث عن اعتقال الإصلاحيين في السعودية، وهو الذي قاد حملة الأكاذيب في مجلس
الأمن لإقناعه بوجود أسلحة الدمار الشامل لدى الطاغية صدام حسين؟ ألا يخجل
من تفرد بلاده بقرار الحرب ضد العراق،وتقتيل الأبرياء برغم الإجماع الدولي على
عدم شرعية هذه الحرب الاستعمارية الجديدة؟ كان وجه (كولن باول) المحايد،
الذي لا تكاد تحس فيه بألم أو سعادة، يطلّ من الصحيفة إلى جوار الأمير سعود
الفيصل، الذي بدأ على وجهه التأثر من هذا التدخل غير البريء، و كنت ألمس الألم
في ملامح وجهي، وكان من حسن حظي، أن الوقت ليلاً، فلم أستعجل في استدعاء المحقق
هذه المرة لأبلغه بقراري وأسبابه ! عاد الصراع إلى ساحته من جديد فأقلق
طمأنينةً استمتعت بدفئها يوم أمس،وامتد زمنه طوال الليل، فلم أمارس الرياضة في
الزنزانة،ولم أنم إلا بعد صلاة الصبح. وحين نهضت ظهيرة الإثنين، استعدت صراع
البارحة وضحكت! قلت يا أيتها النفس الباحثة عن الراحة! ورأيتني قد
استسلمت لكوامن اللاشعور في البحث عن مخرج،أو عذر،وزجرت نفسي، لكنني قررت أن
أبلغ المحقق عن رفضي لتدخلات (كولن باول). استدعاني المحقق، وكأنما كان يقرأ
أفكاري، ولحظة دخلت عليه، قال لي: سمحنا لك اليوم بزيارة عائلية، وأعطاني
الهاتف لكي أتصل بزوجتي لدعوتها إلى مكاني. طغت مشاعر الفرح على ما كنت أفكر
فيه، وحين سمِعَتْ (فوزية) صوتي، سال نهر ابتهاجها وحمل معه مشاعر التضامن
والاعتزاز، وتقدير الأصدقاء، وقلت لها يمكنك زيارتي الآن. سألني المحقق: ألم
تغير رأيك، فقلت له: لماذا لا تغيرون رأيكم أنتم؟ ولما لم يجب، طلبت منه
ورقة لأكتب عليها توصيات لزوجتي. قدم لي دفتراً كان أمامه، وطلب من العسكري
البقاء معي، وغادر. كان لدي الكثير من الأمور المؤجلة: للعائلة،في العمل،وفي
البيت،وفي الحياة،ورأيتني أكتب ما يشبه الوصية فتشاءمت،ولكنني رأيت السجن
شبيهاً بالموت،فالغرفة لا تختلف كثيراً عن القبر،والمحقق لا يكف باختراقه
للأسرار والتفوه بالوعد والوعيد، عن تذكيرك بيوم الحساب. عاد المحقق بعد
نصف ساعة، وأطلّت خلفه (فوزية). كانت ترسل إليّ إشارات بإبهامها تارة، وبإصبعي
الانتصار تارة أخرى، فاحتضنتها رغم ممانعتها، وكنت كمن لا يرى في هذا المكتب
إلا هي..... رغم وجود ثلاثة أشخاص لحراستنا. سألتها عن الوالد والأبناء
والأهل، ثم قلت لها: متى علمت بأنني معتقل ؟ قالت بألم: لقد قلقنا جميعا،
فزملاؤك في العمل لم يروك، وأنت، لم تتصل.....، ولم نعلم إلا في اليوم الثاني
من صفحات الانترنت! سألت المحقق: ألم أطلب منك إبلاغ أهلي
باعتقالي. فقال: لم أستطع، ولكن جوالك كان معك! - قلت: لقد أقفلته في
مكتبي بناء على طلب الضابط،ولم أشأ التحايل على القانون، ولكنكم لا تخجلون من
انتهاكه ! وأكملت زوجتي : لقد ظللت طوال الليل أتصل بالشرطة والمستشفيات
للاستفسار عنه، و أخفيت الأمر عن أبنائي تلك الليلة،وفي اليوم الثاني ذهبت
للمباحث والأمارة ولم يجبني أحد.. ضحكت وقلت لها: مثلما بحثت عن سهل الجبلي
في رواية(الغيمة الرصاصية) ! سألت المحقق: ألم ينته التحقيق معي، فأجاب
بالموافقة، ولكنه أضاف. أنت الآن على ذمة هيئة الادعاء والتحقيق، ولكنك في
عهدتنا. إذن لماذا لا تتركوني لوحدى مع زوجتي. قال: أنا آسف لهذا،ولكن
التحقيق مع الإدعاء العام لم ينته. حدثته عن موقفي من تصريحات كولن
باول،ورفضي لتدخلات أمريكا في شأن داخلي كهذا نستطيع أن نتحاور فيه مع الحكومة
دون وصاية من أحد،وأطلعته على وصيتي قبل تسليمها لزوجتي، فاندهش لكثرة
البنود،وقال : لن تحتاج لكل هذه التوصيات أبداً. اخترت، البنود العاجلة
وأخبرت (فوزية)بها، وغادر تني ونحن نتحسس بوادر التفاؤل بحل المشكلة، وفي طريق
عودتها إلى المنزل، اتصلت بها جريدة الحياة، فأبلغتهم بما يلي: (زرت زوجي
في السجن هذا اليوم، وقد وجدته بصحة جيدة، وروحه المعنوية عالية، وأبلغني أن
المباحث تعاملوا معه بشكل حضاري. كما أنه عبّر أمام المحقق، عن رفضه لما صرح به
(كولن باول) وزير الخارجية الأمريكية، بشأن المعتقلين المهتمين بالشأن العام في
بلادنا، وأوضح زوجي أن الأمر يعتبر شأناً داخلياً بين المثقفين وحكومتهم، ويمكن
أن يصلوا فيه إلى حل مناسب، وأن ما يجري ليس تحقيقاً، وإنما يمكن اعتباره
حواراً حول أفضل السبل الممكنة للتعبير عن المطالب الإصلاحية، كما أن زوجي عبر
عن رفضه لأن يكون هذا الأمر، مجالاً للاستغلال من قبل الجهات الخارجية، كما
أنني استشفيت من كلام المحقق، بأن توقيف المعتقلين في طريقه للحل
القريب). كانت الزيارة فألاً حسناً عليّ، حيث لمعت في الأفق إشارات تومئ إلى
اقتراب حل المشكلة، لذا طلبت من مدير السجن ـ في المساء ـ وضع (التلفاز) في
غرفتي! كنت أحلم بأن يشتمل نظام التلفاز على خيارات معقولة من المحطات
المقبولة للأجهزة الأمنية، ولكنني فوجئت بأنه لا يحوي أكثر من المحطتين
العتيدتين غصب (1) وغصب (2)،وسألتهم عن الإخبارية والرياضية، فقالوا أنهما
فضائيتان،ولا يسمح هنا بالتقاط الفضائيات. وعلقت : (من جرف في دحديرا،ياقلب
لا تحزن)،فهنا سجن أرضي للجسد، في غرفة مؤثثة ونظيفة لولا سقفها الواطئ،وهناك
سجن للعيون المسمّرة على القناتين الأولى والثانية،وعليّ الاعتياد على
ذلك. وفي الحقيقة، فإنني منذ سنوات طويلة لم أكن أملك القدرة على ترك
المحطات لمشاهدة محطتي (غصب 1 و 2)،إلا لمتابعة المسلسل المحلي (طاش ما طاش)
الذي تعرّض وباستمرار، إلى نقد خطباء المساجد وضيوف البرامج الدينية،وكان أكثر
ما يغيظني تركيزهم على الفنانة زينب العسكري، لأنها الوحيدة التي تمتلك بعض
مواصفات الجمال في كل برامج (طاش ما طاش). ولعل تعاطي وزارة الإعلام مع تيار
الخطاب الديني المتشدد في هذه القضية بالذات، يعتبر أنموذجاً حضارياً،فالوزارة
سمحت للمتشددين بنقد البرنامج،مثلما سمحت بالدفاع عنه أيضاً على صفحات
الجرائد،واستضافت معارضيه على شاشة التلفاز، وأتاحت لهم الفرصة على نفس المنبر
الإعلامي للهجوم عليه،لكنها لم ترضخ لمطالبتهم بإيقافه. وهذا النهج قادر مع
مرور الزمن على خلق أرضية للحوار بين كافة توجهات الشرائح الاجتماعية والدينية
والثقافية المختلفة، وهذا الأسلوب في إدارة الصراع يلبى الحاجات الموضوعية
للمواطنين في التعبير عن الرأي والرأي المختلف، لتوطيد دعائم ثقافة الحوار
والتسامح وتكافؤ الفرص العادلة. وهو السبيل الأمثل لأي مجتمع حيوي للبدء
بالخطوة الأولى على طريق الحوار، وليت الأجهزة الحكومية والأمنية الأخرى تأخذ
بهذه الطريقة، التي نجحت وزارة الإعلام في التعامل معها لأول مرة،وعسى ألا تكون
الأخيرة. وكما كنت حريصاً على متابعة (طاش ما طاش) على القناة الأولى، فقد
كنت من متابعي مباريات كرة القدم على الثانية،قبل احتكار بعض القنوات التجارية
لبث هذه المباريات،التي كنا نتسابق لشراء بطاقاتها الخاصة لتثبيتها على
(الريسيفر). فأين الريسيفر يا عسكري؟ وجدت مع الأيام أن قسوة السجن، وثقل
الأيام على نفسي، قد أجبرتني بحكم الاعتياد، على مشاهدة برامج المحطتين، ولا
سيما وأن الرياضية تأخذ موقع (غصب) اثنين في المساء، (فانبسط يا عم من
قدّك!). لكن اليوم التالي،الثلاثاء 24/3/2004م،قد خبأ مفاجأته لي،حيث
استدعاني المحقق في التاسعة مساءً،وأبلغني إنني سأمثل أمام هيئة التحقيق و
الادعاء العام. وفي غرفة صغيرة خارج مبنى إدارة السجن، قابلت ممثلي الإدعاء
العام... شيخان شابان وكاتبهما، وفوجئت وكأنني أعرف واحداً منهما، وشحذت
الذاكرة حتى تبينت شبهاً له بزوج ابنتي (نجلاء). سألتهم عن حقي في حضور محام،
فأجاب رئيسهم ـ وقد علمت في الرياض إن اسمه فهد السبيعي ـ بالموافقة،وتساءلوا :
ألم تطّلع على نظام الإجراءات الجزائية؟ حاولت أن أتذكر هذا العنوان فلم أجد
موقعه.....، وأوضحت لهم إنني مع الأسف، لم أطلع عليه فأين تم نشره ؟ أجاب
الشيخ فهد: في الجريدة الرسمية (أم القرى)، وعلّقت: من يقرأ الجريدة الميتة
التي لا نبحث عنها إلا عند ضياع بطاقة الأحوال المدنية، أو حصر إرث الأموات؟
فلماذا لم ينشر في الصحف اليومية، وتدار حول بنوده الحوارات المستفيضة، ويتم
إقراره من قبل مجلس الشورى على الأقل. وقال الشيخ فهد: لقد أقرته وزارة
الداخلية وهذا يكفي للعمل به، كإحدى اللوائح النظامية. وسألته: نحن الآن في
منتصف الليل، فكيف يمكنني الاتصال بمحام لحضور تحقيقكم معي؟ ثم إذا كنت لا
أستطيع إحضار محام في هذه الساعة، فإن عليكم حسب ما أفهم أن توكلوا محامياً من
طرفكم لحضور التحقيق. قال: لا يكون الأمر ملزماً إلا أمام القاضي، أما هنا
فلا. قلّبت المسألة على وجوهها العديدة، فهل أطلب التأجيل ريثما أتمكن من توكيل
محام ؟وهل لدينا محامون مهتمون بالشأن العام وحقوق الإنسان، ولا سيما حقوقه
المدنية والسياسية ؟ وبالرغم من يقيني لحظتها، بعدم أهمية وجود المحامي إلى
جانب ناشط اجتماعي مثلي، إلا أنني تساءلت: كيف يعمل الإنسان في مجال، تنبئ
احتمالاته بالاعتقال، دون أن يطّلع على حقوقه التي كفلها النظام رغم ما فيه من
قصور ؟، بل لماذا لم أوكل محامياً من قبل، لكي يكون جاهزاً عند الطلب؟
ولكنني قلت لنفسي: وما الذي سيضيفه المحامي إلى أقوالي حيال قضية تمثلت في
خطابات مطلبية أعددتها مع آخرين ووقعت عليها، ولا تحتمل إخفاء شئ أو التحايل
عليه وفوق ذلك، فالحكم فيها لن يكون مقتصراً على القضاء وإنما سيكون معدّاً من
وزارة الداخلية سلفاً؟ فلماذا احمّل نفسي بأعباء مالية أدفعها لمحام لا أعرف
مدى استفادتي منه؟ وقد دفعتني كل هذه التحليلات، إلى جانب ثقتي بعدالة
القضية، و رغبتي في إثبات حسن النية والمرونة، إلى القبول بالبدء في التحقيق
بدون محام. أوجز لي الشيخ فهد طريقة التحقيق والتدوين،وبدأ بالسؤال حول
الخطابات والبيانات التي شاركت فيها، ذاهباً إلى أنها تعبر عن السعي إلى إثارة
الفتنة،والخروج على طاعة ولي الأمر، وتعمل على زعزعة الوحدة الوطنية،والتشكيك
في الأسس التي قامت عليها الدولة، وإثارة الفتنة الطائفية. وتلخصت إجابتي في
التالي: أولاً: الثوابت العامة: استندت تلك الخطابات والبيانات إلى
المنطلقات التالية : 1 - الاعتماد على الشريعة الإسلامية السمحاء وفق منهج
الوسطية والاعتدال، وما تتضمنه من مقاصد شرعية تستهدف إقامة العدل بين الناس،
والحفاظ على كرامة الإنسان، وتوفير سبل الحياة الكريمة للمواطن، والحفاظ على
خيرات الوطن وثرواته وأسباب رقيه وازدهاره. 2 ـ التمسك بالوحدة الوطنية،
والعمل على كل ما من شأنه الإسهام في ترسيخها، والعمل على إزالة كل الأسباب
التي تؤدي إلى الفرقة والاختلاف والتفكك. 3 ـ الالتفاف حول القيادة، واعتبار
العائلة المالكة صمام أمان لوحدة البلاد ورقيها، وتدعيم مشروعيتها ومطالبتها
(القيادة) بالبدء في الإصلاح الجذري الشامل لكافة مناحي الحياة. (وردت هذه
المنطلقات في خطاب رؤية لحاضر الوطن ومستقبله). 4 ـ الوقوف ضد كافة التحديات
والتهديدات الخارجية التي تستهدف وحدة وطننا وسلامة أراضيه (وردت في بيان (معاً
في خندق الشرفاء). 5 - رفض كل أشكال التطرف والإرهاب والعنف المسلح الذي
تتعرض له بلادنا، ومطالبة القيادة بالإصلاح الشامل لأوضاع بلادنا لأن ذلك سيسهم
في التخفيف من هذا البلاء (ورد ذلك في (دفاعاً عن الوطن)). 6 - دعم التوجهات
الإصلاحية التي أعلنتها القيادة، والمطالبة بالإسراع في تنفيذ توصيات مؤتمر
الحوار الوطني الذي تم برعاية الدولة،وكذلك ما تضمنته وثيقة (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله)(ورد ذلك في خطاب (معاً على طريق الإصلاح)). ثانياً: دوافع ومبررات
كتابة هذه الخطابات : 1 - تفاقم الأزمات المعيشية للمواطن (الإسكان، الصحة،
التعليم). 2 - التخلف التقني والتعليمي الذي لا يتناسب مع حاجات خطط
التنمية. 3 - استشراء مظاهر الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة. 4 -
الفساد الإداري والمالي واستغلال المال العام. 5 - غياب حرية
التعبير،وانتهاك حقوق الإنسان. 6 - غياب مكونات المجتمع المدني والمشاركة
الشعبية في صناعة القرار. 7 - تفاقم ظواهر التمييز الطائفي
والمناطقي.
-
نعم,في الزنزانة لحن! (5)
وكنت أطلب منهم السماح لي بتدوين إجابتي ليتم نقلها بعد ذلك إلى دفتر
الضبط، فلم يوافقوا على طلبي، واستمروا في اختصار إجاباتي الشفوية وابتسارها
أحيانا بحجة التطويل، ومن ثم تدوينها بطريقتهم. وقد بدا حرصهم واضحاً على
إثبات تهمة وضع أسماء لشخصيات معروفة بدون أخذ موافقتها أو توقيعها. وأوضحت لهم
أننا نحتفظ بسجل كامل لكافة الأسماء، حيث يحمل كل شخص من جامعي التواقيع نسخة
من الخطاب ويقوم بعرضها على المعنيين، وفي حالة الموافقة يقوم بالتوقيع على
الأوراق المرفقة بالخطاب، ومن ثم إرسالها للقائمين على رصد الأسماء والتواقيع
في النسخة النهائية. وحين أصروا على أن هناك شخصيات اعترضت على تضمين أسمائها
ضمن قائمة الموقعين، طالبت بإيراد تلك الأسماء، كما طالبت بفتح المجال أمام كل
من يريد التنصل من توقيعه، لكي تتضح الحقائق. ثم أضفت : إذا كنتم تقصدون
الشيخ عبد الكريم الجهيمان، فإنه قد وقع على كل البيانات والخطابات التي كنت
طرفاً فيها، ابتداءً من بيان إدانة انتهاك (شارون) للمسجد الأقصى حتى آخر خطاب
كان لي علاقة به. وأما تنصله من التوقيع على الخطاب الأخير (نداء إلى القيادة..
نداء إلى الشعب)، فإن ظروف ذلك الموقف معروفه، وقد حدثت نتيجة لضغوط عديدة
مورست عليه. لم يدونوا السؤال ولا الإجابة، وانتقلوا إلى السؤال التالي
: حين قدمتم خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)، استقبلكم الأمير عبد الله
ووعدكم خيراً، فلماذا تصرون على الاستمرار في رفع الخطابات؟ وأجبته: مضت
فترة زمنيه انتظرنا خلالها طرح أي مبادرة للإصلاح فلم نسمع شيئاً،وبالرغم من
أننا طالبنا بعقد مؤتمر وطني للحوار حول كافة القضايا إلا أنه لم يستجب لذلك.
وحين اشتعلت حركة العنف المسلح في بلادنا، بادرنا إلى إعلان موقفنا منها،وذكرنا
في خطاب (دفاعاً عن الوطن) إدانتنا واستنكارنا لكافة أشكال العنف والإرهاب الذي
تتعرض له بلادنا،وطالبنا المشاركين والمحرضين على هذه الأعمال بالعودة إلى
أحضان الوطن، والمبادرة إلى نبذ كافة أشكال التطرف والعنف بالقول
والعمل. ورأيناها مناسبة لتذكير القيادة بأن مسئولية التصدي لظاهرة العنف لا
تتحقق من خلال الحلول الأمنية وحدها،وإنما بالقيام بتحليل وفهم جذور هذه
الظاهرة،وتحليل العوامل والأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية
المحركة لها، والشروع الفوري في تنفيذ الإصلاحات الشاملة التي بلورتها العديد
من الكتابات والخطابات المرفوعة للقيادة،ومنها مذكرة (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله). وسألني الشيخ فهد: لماذا جمعتم هذا العدد الكبير من التواقيع
عليها، أليس ذلك دليل على سعيكم في إثارة الفتنة وتحريض الناس على الخروج على
ولي الأمر؟ وأجبته جواباً طويلاً تم اختزاله مثلما تم اختزال الإجابات
السابقة،ولعل أهم ما يحضرني الآن ما ركزت عليه في الإجابة وهو : إن حرية
التعبير السلمي مكفولة للمواطنين في كل بلدان العالم، وإن ما قمت به مع عدد
كبير من المهتمين بشأن البلاد من المثقفين والمواطنين رجالاً ونساءً، للتعبير
عن مطالب المواطنين، لا يخرج عن ذلك الإطار القانوني السائد في دول العالم، وقد
هدفنا من وراء ذلك البرهنة على مصداقية المطالب وشعبيتها، لكي تدرك القيادة أن
الأزمة خانقة، وأنه قد حان وقت البدء في عملية الإصلاح السياسي الشامل. وبكل
المقاييس الحقوقية والمعايير الدولية،فإن ذلك لا يعد تحريضاً للمواطنين ضد
الحكومة ولا إثارة للفتن أو إساءة للوحدة الوطنية. وهذا الحق مكفول في إطار
الشريعة الإسلامية بواجب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فسألني، هل
تعرف شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فأجبته: شروطها محددة في حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأي منكم منكراً فليغيره، بيده، فإن لم
يستطع فبقلبه، وإن لم يستطع فبلسانه)، ونحن لم نخرج على الحاكم بالسلاح، ولم
نعن الأعداء عليه. قال لي: هذه ليست الشروط الشرعية للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر. وهنا قلت له: مادام الأمر قد تحول إلى محاكمة فقهية، فأنا لا أجيد
الدفاع عن نفسي، ولذا أطلب حضور المحامي. تطلّع الشيخ إلى زميله، وبدأ سؤالي
مفاجئاً، فغير الشيخ من لهجته، وقال: أنت قد ذكرت شرطين ولكن الشرط الثالث غاب
عنك، وهو، ضرورة الالتزام بعدم إفضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ضرر
أكبر منه، وهو الفتنه. قلت له:ما قمنا به هو عمل يستهدف القضاء على الفتنة
لا تأجيجها،فحين يعبر الناس عن مشاكلهم، ويطالبون بالحلول الناجعة لها،فإنهم
ينزعون فتيل تراكم المظالم واليأس، ويفتحون نوافذ الأمل الواعدة.. أما إذا ما
تم حرمانهم من التعبير عن تطلعاتهم، فإن ذلك هو الأمر الباعث حقاً على إشعال
الفتنة، ولكنني سأسألك : وماذا تسمي الأضرار الناجمة عن تدخل هيئات الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في خصوصيات الناس، وما ينجم عنها من أضرار احتجازهم
أو ضربهم، وما أدى إليه ذلك من أحقاد ومشاحنات، بلغت درجة تبادل النار بين
الطرفين؟ أليست تلك هي بواعث الفتنة؟ لم يلخّص الشيخ إجابتي، ولم يدوّنها،
ونظر إلى ساعته وقد تجاوزت الواحدة صباحاً، فأبلغني بانتهاء جلسة التحقيق لهذه
الليلة ومعاودتها في الثامنة صباحاً، لأنهم على سفر! قلت له: أنا متعب الآن،
ولا أعلم متى سأنام، ولذا أرجو بدء التحقيق في العاشرة. وافق الشيخ وأقفل
المحضر بعد توقيعي على إجاباتي رغم عدم رضاي عما اختزله منها. عدت إلى
السجن،وظللت استعيد الأسئلة،وما دوّن من إجابات،وما هي الأسئلة الممكنة، وكيف
الرد عليها،ولم أنم إلا في السادسة صباحاً، بعد أن تناولت الإفطار والدواء،وفي
التاسعة جهزت نفسي للتحقيق من جديد، وقررت أن أطلب محامياً، ولكنني لا أعرف
أحداً في الشرقية. في العاشرة كانوا على الموعد في مكتبهم، وبعد تبادل
التحيات فتحوا المحضر، فطلبت محامياً، فرد الشيخ فهد:لا نقبل إلا محامياً يحمل
ترخيصاً قانونياً للمحاماة، وأن توكيله سيستغرق زمناً طويلاً وأوضحت إصراري على
المحامي.. تشاورا في الأمر، واتصل أحدهم برئيسه،وخرج إلى الساحة،وكنت متعباً
ولا أعرف محامياً يتفهم القضايا السياسية أو المطلبية، وربما اضطررت للاستعانة
بمحام متشدد يشارك المحققين وجهات نظرهما، وتذكرت صديقي اسحاق الشيخ يعقوب،
الذي عرفت بالمصادفة، بأنه يترافع في بعض القضايا، ولكنني ترددت في دعوته،فلعله
لا يحمل ترخيصاً،أو أنه ينوي السفر إلى البحرين، أو لعله لا يحبذ الترافع في
هذه الأمكنة. أربكتني اللحظة، وحين عاد الشيخ قال لي: إن توكيل محام معتمد
سيأخذ بعض الوقت ويعقّد المسألة، ونحن قد بدأنا التحقيق، ولم يبق إلا
القليل،فدعنا نكمل على بركة الله. فكرت في الأمر، وكنت مرهقاً، ورأيت أن قلق
البارحة كان كافياً لانشغالي واستفزازي طوال الليل،،فملت إلى السهولة،وقبلت
معاودة التحقيق بدون حضور المحامي. بدأنا الجولة الثانية، وأعادا الكثير من
الأسئلة بصيغة أخرى، على أن أهم ما أضيف إليها سؤال حول ما يلي: طالبتم
بالدستور والمؤسسات الدستورية وشككتم في نزاهة القضاء واستقلاله،وهذا أمر يعني
التشكيك في مرتكزات الدولة القائمة على كتاب الله وسنه رسوله: وفي إجابتي
الشفوية المطولة، قلت له: إننا نطالب بتعزيز ما ورد في نظام الحكم من نص على أن
دستور المملكة هو كتاب الله وسنه رسوله. وهذا النص يعترف بمسمى (الدستور)
أولاً، لكننا طرحنا الآليات الحديثة التي تعمل على تجسيد هذا النص في أنظمة
وقوانين تسهم في تعزيز الاستقرار السياسي، وتضمن المشاركة الشعبية في صنع
القرار السياسي، وتمنع انتشار الفساد والعنف في المجتمع، وتحقق مطالب المواطنين
في تطبيق العدل والعدالة الاجتماعية. ويتضمن الإطار القانوني السياسي لهذه
الآليات ما يلي: 1. وجود دستور دائم وفق المرجعية التي يرتضيها المواطنون،
ومرجعية الدستور في بلادنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي
تضمنها النظام الأساسي للحكم. 2. يضمن الدستور الحريات العامة للمواطنين،
والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويقرّ مبدأ التعددية، وحرية تكوين جمعيات المجتمع
المدني السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والرياضية، والفنية،
وسواها. 3. ينص الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية (نواب
الشعب)، التنفيذية (الأجهزة الحكومية)، القضائية (القضاء، بما في ذلك المحكمة
الدستورية العليا التي تفصل في دستورية القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية
أو السلطة التنفيذية). 4. ضمان مشاركة الشعب (رجالا ونساءً) في صناعة القرار
على كافة المستويات، وتمتع المجلس النيابي المنتخب بصلاحيات سنّ القوانين وفق
مرجعية الشريعة الإسلامية، وأن يكون مخوّلاً بمراقبة ومحاسبة الأجهزة الحكومية،
وإقرار ميزانيتها، وسياستها الداخلية والخارجية. لم يسجّل الشيخ شيئاً من
هذه الإجابة وقال: إن مجلس الشورى والحكومة يقومان بكل هذه المهام، ثم طلب منى
إجابة مختصرة حول التشكيك في نزاهة القضاء، وأجبته بأننا لا نشكّك في نزاهة أو
عدالة القضاة أنفسهم، فالمشهود للغالبية من قضاة المملكة، بأنهم يتمتعون
بالنزاهة ومخافة الله، ولكننا نتحدث عن سطوة الأجهزة الحكومية وتدخلاتها في
قراراتهم بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن مفهوم استقلال القضاء هو أحد
المفاهيم الأساسية المكونة للدستور، فحينما نتحدث عن دولة المؤسسات الدستورية
فلا بد أن نتحدث عن استقلال القضاء، كأحد أركان تطبيق الدستور، وهو ما يستدعي
استقلاله التام عن أي سلطة أخرى بما فيها السلطة التنفيذية،(وأذكر هنا قول
مونتسيكو: إن الحرية تنعدم، إن لم تكن سلطة القضاء منفصلة عن سلطة التشريع، لأن
حرية أبناء الوطن وحياتهم تصبحان تحت رحمتها، مادام القضاء هو المشرّع. أما إذا
كانت السلطة القضائية متحدة مع السلطة التنفيذية، فإن القاضي يكون طاغياً).
سألني الشيخ: ألا تعلمون أن أبواب مجلس الشورى مفتوحة لشكاوى المواطنين،
فلماذا لم تقدموا خطاباتكم إليه؟ قلت له: ولكن أعضاءه لا يملكون من الأمر
شيئاً، فالنظام جعلهم هيئة استشارية في بعض القضايا، و لم يمنحهم صلاحيات
تشريعية أو رقابية، كما أن المجلس لا يمتلك حق المحاسبة ولا المساءلة، ولا ينص
نظام مجلسهم على حقهم في التمتع بممارسة تلك المهام أو بعضها، أما حين ينال
المجلس تلك الصلاحيات التي تجعل منه سلطة تشريعية منتخبة تنوب عن الشعب في
اتخاذ القرار، فسوف نجرب ذلك، بعد الخروج من السجن إنشاء الله ! وبعدها حان
وقت الصلاة، والغداء، حيث أكرمنا ضابط التحقيق بصحن من (المندي) أطلق في
الذاكرة شهية الأكل مع الجماعة، وأُنس المواكلة، وجمالية الحرية خارج المعتقل،
ولكنني لم أجد رغبة في الأكل، وجاملتهم على مضض، فلا يمكن أن يجتمع الضحية
والجلاد على صحن واحد! انقضّوا على أوصال المندى كالصائمين منذ شهر، ويبدو
أنهم قد ملَوا أكل لحمي بسكاكين تهمهم الضخمة. وفي الواحدة، (عدنا إلى
البدء!) انتقل الشيخ إلى مساءلتي حول حديثي لإذاعة مونت كارلو ومداخلاتي على
الإنترنت. فأجبته بأنني قد سئلت عن أسباب تفشي ظاهرة العنف والإرهاب في
بلادنا،فأجبت، بأن هناك أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية،على أن أهم
الأسباب،في نظري،تكمن في احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة للحقيقة
الدينية، وفي نفيه لما عداه من مذاهب وطوائف، وقد أدى ذلك إلى تغلغل هذا التيار
في كافة مفاصل النظم التعليمية والتربوية والاجتماعية والسياسية في بلادنا،
وإنه تم استقطاب الشباب وتجنيدهم ضمن رؤية أيدلوجية تكفّر المجتمع. وهنا أنقض
عليّ الشيخان، وظهرا وكأنهما يدافعان عن النهج المتشدد، ورأيت أن أسئلتهما تعد
أكبر دليل على تغلغل الخطاب الديني المتطرف، في مفاصل الدولة. وبدأنا نتجادل
قرابة الساعة حول هذا الموضوع، دون أن يدوّنا إجابتي، وبعد صلاة العصر، قلت
لابد أن أكتب الإجابة، وعليكما إثباتها بدون تحريف، وإلا فإنني أطالب بتأجيل
التحقيق من جديد، إلى أن يحضر المحامي. وهنا سمح الشيخان لي بكتابة إجابتي،
التي اختصرتها في إحالتهم إلى ما تنشره الصحف هذه الأيام، وإلى البحث الذي قدمه
الشيخ عبد العزيز القاسم والشيخ السكران، إلى مؤتمر الحوار الوطني، وإلى كتابات
الدكتور حمزة المزيني، وإلى أبحاث الشيخ حسن فرحان المالكي، وإلى سواهم ممن
أشاروا إلى أن هذا التيار قد اختطف المؤسسات التعليمية، وكرّس التفرقة
الطائفية، التي بلغت حد إقصاء وتكفير الشيعة، وأن هذا التيار المتشدد هو الذي
يؤجج الطائفية لا نحن. استمر الجدل في هذا الموضوع حتى صلاة المغرب، وتأكدت
لحظتها أنهم لم يقرؤوا مداخلتي في موقع الساحل (الإنترنتي)، وإلا لأمطروني
بوابل أسئلتهم وتهمهم، ولكن الإدعاء العام استطاع لاحقاً، الحصول على كامل
المداخلة، وصاغ منها تهماً باطلة تلاها في قاعة المحكمة خلال جلستها في الرياض،
(و يجد القارئ الكريم إجابتي عليها في القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان،
(مرافعة أولى)، و (مرافعة ثانية).) أما خلال الزمن الفاصل ما بين صلاتي
المغرب والعشاء، فقد تركز الحديث خلاله، حول ضرورة الكفّ عن مطالبة الحكومة
بالإصلاح، والاكتفاء بما قدمناه، لأنه يرفع عنا حرج الاحتساب على الدولة، ويترك
الأمر لولي الأمر. وقد أعدت عليهم خلاصة دوافع الخطابات المطلبية والتي وردت
في ثنايا الحوار السابق، وبعد ذلك، عرضوا عليّ توقيع التعهد بصيغته الأصلية
التي عرضها ضابط التحقيق من قبل، وقد دونت إجابتي كالتالي: أنا في داخل
السجن، ولا أستطيع كتابة أي تعهد مهما كانت الأسباب، وأطلب إحالتي إلى محكمة
شرعية عادلة لتحكم في قضيتي، وفقاً للشريعة الإسلامية ،ومواثيق حقوق الإنسان
التي وقعتها المملكة. و أغلق المحضر في السابعة مساءً. كان يوماً مرهقاً
تجاذبتني فيه أسنَة الشيخين الذين لم يكتفيا بلعب دور محامي الحكومة وحسب،
ولكنهما ـ بحكم محاضن تعليمهما وثقافتهما الدينية المتشددة ـ مارسا دور مهاجمتي
باسم الخطاب الديني المتشدد، ولعل تيار العنف والإرهاب، لن يجد أفضل منهما
للدفاع عن عدالة قضيته! ورأيت الكفّة تميل لصالح ضباط التحقيق ومهارتهم في
صياغة الأسئلة، وعدم تكرارها، واكتفائهم بتبني وجهة نظر الحكومة، دون الدخول في
جدال المؤسسة الدينية وشيخيها. ارتفع معدل السكر، والضغط، فتغشاني الصداع
والإعياء، وطلبت الطبيب الذي جاءني في العاشرة مساءً، مؤكداً على ضرورة تهدئة
الأمور، وتناول الأدوية لكي أتخلّص من مسببات الألم! اليوم الخميس، أحسست في
صباحه الذي لا أراه إلا في ساعتي، بالكثير من الارتياح وخفّة الروح وكأنني مريض
خرج من حمّاه، واستقبل برضا أيامه، فالمحقق في إجازة نهاية الأسبوع، وشيوخ
الادعاء العام غادروا إلى أماكنهم البعيدة، وبدا العسكري المرافق، أقل حدة في
التعاطي مع طلباتي، ورجوته في أن يترك الغرفة لكي أدخل الحمام الذي ليس له
باب،فوافق. عانيت قسوة الإمساك، وتغشاني العرق، واستعنت بما لديّ من قدرة
حتى أتى فرج المجالده، وارتحت مما خزنته طيلة ثمانية أيام في معدتي. وحين خرجت
من الحمام كانت الغرفة مكتظة بتلك الرائحة التي كتب عنها (صنع الله إبراهيم)
رائعته الروائية، بعد خروجه من السجن، ليؤكد أن الرائحة العطنة لا تأتي من
السجن الصغير وحسب، ولكنها تنبع من شوارع السجن الكبير منذ البداية، وقلت يا
صنع الله، أخرجني من السجن بدون تعهّد، وأنا كفيل باحتمال قسوة السجن الكبير
وروائحه أيضاً. فتح العسكري باب الغرفة ودخل عليّ،وشم هو أيضاً (تلك
الرائحة)، وقلت له : أنها ليست مني ولكنها من بقايا التحقيق، وطلبت منه إبقاء
الباب مفتوحاً بعض الوقت للتخلص من هذا الطارئ، ففعل. ترك الباب لمدة
معقولة، وتنسمت رائحة الهواء الطلقة في نهاية الربيع، وكان الباب يطل على ممر
عريض، تستند فيه بعض غرف السجن على الحائط الخارجي، وكان برج المراقبة يقف
عالياً وكئيباً، حيث يشرف على كافة باحات وأرجاء المكان، وكان الحارس ممسكاً
برشاشه قبالتي تماماً، وبدا قرص الشمس مائلاً للمغيب من بين الأسلاك
الشائكة. إنه منظر (الغروب). يا الله.. إنها نفس الحالة القديمة المغمورة في
أنهار الشوق والوحشة وشغف اللقاء، ألمسها طرية تنزف أوجاعها مثلما عشتها في
تجربة حبي الأول مع (نهاد). تجربة عنيفة عايشتها معها... تجربة حب محكوم
عليه بالموت سلفاً لارتباطها بشخص آخر. تجربة عشق امتزج فيها العذري
بالصوفي، واستدعت مخيال قصة (قيس وليلى)، وجنون الشعر والحب والفناء في الآخر،
ولكنها كانت مسيّجة بأقدار الفراق منذ يومها الأول. لقد تبقى منها الكثير
الذي تجلى في قدرة الحب على كسر عمود الشعر، والدخول في نهر كتابة قصيدة
التفعيلة، غير أن لوحتها التي رسمتها لي، هي التي تحضر الآن بكل سطوة وافتتان.
إنها لوحة (الغروب) الذي كسا الأفق والأشياء حمرة خمرية، جمعت كل الألوان في
لون وحيد، يعبر عن هذا الامتزاج بين الأرواح،ويومئ إلى انتهاء الرحلة الجميلة،
وقد كتَبَتْ في أسفلها : (والذكريات صدى السنين... اذكرني مع كل غروب)..!
نهاد كم كنت وفياً لهذا النداء، ومدفوعاً للتمسك به، لأنه كل ما تبقى من سفر
العشق والحرمان، فأدمنته سنوات عديدة حتى حررتني منه رفيقة العمر والأحلام
(فوزية)، لا بأسلوب القمع الذي تمارسه الزوجات،ولكن بتذكيري يومياً بذلك الغروب
القديم حتى ألفت نسيانه. وها أنذا الآن من داخل السجن أفتح شوق القلب للحرية
على شمس غاربة، وأفق مصبوغ بالحمرة، وذكريات جمر أودعته جسد السنين، فمن يا ترى
يشاركني وحشة وشجن هذه اللحظة سواها؟ أقفل العسكري باب الذكريات، وأطفأ وهج
الشمس بقفله الكبير، وعدت إلى موقعي لأتصفح جرائد اليوم. مضت الأيام، وكنت
أعدها بحبات الدواء، حتى أتى يوم الاثنين، فقرأت في صحيفة (الوطن)، خبر الإفراج
عن الدكتور توفيق القصيّر، والشيخ سليمان الرشودي، وقد تضمن الخبر كلاماً
للدكتور القصيّر، أثنى فيه على تعامل الأجهزة الأمنية، وعلى مكان السجن الذي
كان عبارة عن غرف نظيفة، في إحدى الفلل التابعة للسجن، كما أشار في حديثه إلى
خروجهما بدون اعتذار أو تعهد! عاد التفاؤل والقلق إلى مكمنيهما، وبدأت
أسترق السمع لوقع خطى (العريف) لكي يأخذني للمحقق، غير أنه تأخر حتى يوم
الثلاثاء. وعندما دخلت على المحقق كنت أغالب أملاً مشرباً بالفرح، وأمسك به
بعيداً عن عينيه، لكنه لم يحدثني عن قضيتي وإنما أبلغني بزيارة
عائلية. وأردف قائلاً: لا يسمح لك بالحديث إلا في أمور عائلية ولا تحدثها عن
موضوعك، وعلّقت على طلبه: رجعنا للأساليب القديمة... قضيتي معروفة للجميع وتكتب
عنها الصحف، فقاطعني: هذا هو النظام، و إلا منعنا الزيارة عنك. نفس الكلام
الذي أبلغني به (أبو منصور) في الرياض عام 82م، حين سمح لي بأول زيارة. كانت
زيارة مفاجئة، فلم يكن أحد منا ـ في ذلك الوقت ـ يتوقع رؤية الأهل رغم انتهاء
التحقيق، ولكن من يضمن انتهاء التحقيق؟ فمادمت في سجن المباحث فأنت متهم حتى
تخرج منه أو تموت فيه. كان (أبو منصور) يقتعد كرسيه قريباً من مكتب مدير
السجن، وسألني من تتوقع أن يزورك؟ طافت أسماء ووجوه الأحباب أمام وجهي، وكدت
أذكر بعض أسماء الأصدقاء الحميمين لولا خشيتي أن يعتقلهم (أبو منصور)، مثلما
حاول المحقق مع معتقلي عام 69م، حين أمر باعتقال الشاعر (الشابّي)، حين علم بأن
الكلمات التي كانوا يغنونها، في لحن جماعي : (إذا الشعب يوماً أراد الحياة...
فلا بد أن يستجيب القدر)، هي من كلمات الشابّي! ولعل حضور أبو منصور لهذا
اللقاء الموعود، جزء من ترتيباته، ولكن الحنين العائلي قادني صوب الأهل، فأجبته
:أتوقع زيارة الوالد؟ فهز رأسه بالإيجاب. كنت ألبس ثوباً أسود من ثياب
السجن، وشماغاً ثقيلاً يقيني لسعة البرد وصفعات (أبو منصور) في غرفة التحقيق،
وقد تعاون الشتاء البارد مع بؤس الزنزانة والماء البارد، والمرحاض القذر، في
عدم قدرتي على الاستحمام لأسابيع عديدة. ولولا خشيتي من القمل الذي تعرفه
طفولتي، لما استطعت تحمل برودة الماء في شتاء قارس وممطر، لم تشهد البلاد مثله
منذ سنين طويلة. ولم تكن الحلاقة متيسرة، فأسبلت لحيتي، التي استجابت سريعاً
للنمو، حتى فجع منها (أبو ناصر)، الذي رآني بعد شهرين من وصولي الرياض، واحتميت
بظلها من قسوة (العساكر) الذين صاروا ينادونني يا (مطوع). دخل والدي
واحتضنني بحرارة كنت احتاج إليها منذ سنين طويلة، وتبعه إخوتي، وطفل يتجاوز
التسعة أشهر من عمره، يركض بينهم وفي فمه مصاصة صغيرة. ودخلت زوجتي فاقتربت
منها لكي أقبلها، فصدتني وتساءلت بحدة من هو ذا؟ ضحكت وقلت لها وأنا
أقبّلها: أنا مبارك يا (فوزية). تحدثنا عن العائلة والأمطار والديرة، وقلت
لوالدي : لا تخف علينا فنحن في أيد أمنية، وهمست له: قضيتنا مشرّفة، ونحن من
أبناء الحركة العمالية في الظهران. أشرق وجهه، ولمعت سنّه التي لا يراها إلا
الأحباب، وأشرت إلى (أبو منصور)، وقلت لوالدي: إن هذا الأخ مسؤول عنا ويقوم بكل
ما يستطيع من أجل راحتنا والاهتمام بنا، فنظر إليه الوالد بامتنان! (وبعد
خروجنا من السجن،أخبرت الوالد بأن(أبو منصور) كان مهتماً بنا بشكل كبير وأنه
تخصص في ضربنا وتعذيبنا، فغضب مني الوالد، وقال : لماذا لم تبلغني بهذا في تلك
الزيارة لأخذ حقك منه، فقلت له يا أبي: شجاعتك معروفة، ولكنها لا تصلح في مثل
ذلك المكان!). تحدثت مع الجميع، وأهملت الطفل الصغير، ولما رآنا منشغلين عنه
تقدم بسرعة من مكتب مدير السجن وآخذ الدّبّاسة، فغضب منه المدير، ونهرته بقسوة،
فبكى..، وأحال عادل الزيارة إلى مناحة صغيرة. فقلت مازحاً : وش ها لتربية يا
فوزية ما يهاب ولدك من مدير السجن؟ قالت وش سوى الضغيف، مد إيده على دباسة
السجن، فاقتربت منها وقلت ما جرّب (عصاة أبو منصور) وإلا لما تجرأ على ما بدر
منه! (وقلت لها بعد خروجي من السجن،لماذا أفزعتك لحيتي الطويلة التي حرصت
على إعفائها ليصبح منظري شبيهاً بـ(جيفارا) حين تزورينني في السجن، فعلقت ساخرة
: أمحق جيفارا، والله أنك ما تشبه إلا جهيمان أو صاحبه ذاك المهبول الثاني محمد
بن عبدالله القحطاني الذي صدق حكاية ظهور المهدي في ذلك الوقت، فمات مقتولاً
تحت أستار الكعبة!) قال لي المحقق في الدمام: هل قرأت صحف الأمس؟ فهززت
رأسي بالموافقة، وعرفت ما يرمي إليه، ودخلت زوجتي فسألها عن الأبناء وأجابته:
هم في جامعاتهم وأنتم لا تسمحون بالزيارة المسائية. وعلّق: لقد سمحنا لهم
بالزيارة، وكما ترين فقد وضعت لهم كراسى كافيه في الغرفة. عانقتها وأنا مثقل
بالتساؤلات وبمرارة الحديث مع المحقق، وسألتها عن محمد سعيد طيب، فقالت : لقد
خرج أيضاً، وهناك أحاديث على الانترنت عن تفاهم أو تعهد مقبول، فلماذا لا تفكر
في الأمر؟ قلت لقد صرح الدكتور القصيّر بأنه لم يوقع التعهّد،ولكنه اضطر في
اليوم التالي لتأكيد توقيعه عليه، أما أنا فلا زلت غير قادر على التوقيع حتى
الآن، وأبلغي الوالد أنني بخير وأن الأمر معلّق على شرط التعهد، ومازال في يدي
حتى الآن. عقّب المحقق قائلا : لم يعد الأمر بيدك! وهنا أمطرتُ زوجتي
بسيل من الوصايا، وقلت لها : أعانك الله على المسئولية،فمهمتي أن أصبر على قسوة
السجن، ومهمتك تقع خارجه، وهي تجربة للتحرّر من وصاية الزوج والأب، ولتكن
بمثابة(البروفة) على غيابي عنكم بعد الموت، فأبلغي الأبناء بثقتي فيهم وبقدرتهم
على تحمل المسئولية في غياب الأب حياً أو ميتاً. أمتقع وجه (فوزية)، وقالت :
مازرناك لتحدّثنا بهذا الكلام، ولا تخف علينا..، ودّعتها وطلبت منها بعض الكتب،
ثم أخذني العسكري إلى غرفتي الواطئة. (ذهب الذين أحبهم وبقيت فرداً)، كنت
أمنّي النفس بالتقاء الأصدقاء في السجن، والاستمتاع بسوالف الدكتور توفيق
القصيّر الذي يجيد الحديث والانتقال من شأن إلى نقيضه، من المعلومة المعرفية
إلى الحكاية المؤثرة، ومن الفيزياء النووية إلى شجون الحب والافتتان، ولكنه
الآن يغادر الحلم مع (أبو الشيماء) وسليمان الرشودي في طريقهم إلى السجن
الكبير! وفي بداية الأسبوع الثالث، استدعاني المحقق، وكان جالساً في مكتب
ضابط تحقيق آخر، ليسلمني الكتب التي أوصلتها إليهم زوجتي. نظرت إلى وجه الضابط
الآخر وتأكدت أنني قد رأيته، وسألني هذا الضابط: ألا زلت معانداً حتى الآن؟..
لماذا لا توقع التعهد وتعود إلى بيتك وأهلك مثلما فعل الآخرون؟ وأجبته بأنني
لا أستطيع التوقيع حتى الآن، ثم تذكّرته.... أنه هو... إنه هو... نفس الضابط
الذي تعهدت في مكتبه بالخبر بعدم المشاركة في المظاهرات، واستعدت آثار المرارة
والألم، الذي سببه لي ذلك التعهد، فقلت له: لقد أكملت التحقيق مع الإدعاء
العام... ولم يبق إلا إحالتي إلى القضاء، فلماذا لا تحيلون القضية إليه، وهو
المخرج المناسب للحكومة وللمعتقلين الباقين؟ وتدخل المحقق الأساسي : لم ينته
التحقيق معك من قبل الإدعاء العام، وما زال مفتوحاً..! قلت له: أعتقد أنه
انتهى، فلم يبق سؤال أو باب يمكن أن يطرقه المحقق إلا و دخلوه، وقاطعني: لا..
لم ينته، فهل سألوك هل لديك أقوال أخرى؟ قلت له : هل يمكنني إضافة أقوال
أخرى؟ قال نعم،وأوضحت له أنني أحتجّ على طريقة التحقيق مع الإدعاء العام،
لأنهم لم يكتبوا كل أقوالي، ولم يمكنونني من توكيل محام. قال: لقد قبلت
التحقيق بدون محام وانتهى الأمر. وسلمني الكتب التي أوصلتها العائلة إلى السجن،
وقدم لي ورقة لأوقع على استلام الكتب، وبعد توقيعي أضاف لها (أوقع على أنني
وافقت على إجراء التحقيق معي بدون محام). قلت له: لقد حدث ذلك، ولكنني احتفظ
بحقي في التمكن من توكيل محام يراجع أقوالي ويستكمل ما نقص منها... وكتبت
تحفّظي، ووقّعت على الورقة،ثم أعادني العسكري إلى مكاني. لم أتآلف مع تلك
الغرفة، رغم وجود سرير عريض ،ورغم توفر الجرائد و (غصب 2،1). ولكنني الليلة
قررت النوم عليه، فنقلت الشرشف والمخدة والبطانية واستلقيت على نعومته فغمرتني
الرغبات الجسدية،ونمت في خَدَر جميل. وفي الصباح أخذت دشاً دافئاً، فانتعشت،
واستمتعت بالإفطار، وبدأت أستشعر علامات التأقلم والارتياح لهذه الغرفة: وحين
بدأت بقراءة الصحف جاءني العريف وقال : قم أطلب الله يا ولد غرم الله،فارتعبت..
إلى (أبو منصور)؟!. قال، سننقلك إلى غرفة ثانية. قلت لنفسي يا الله.. حين
استشعرت في هذه الغرفة ببعض الراحة علموا بذلك، فلم يرضهم،وقرروا نقلي، وتذكرت
جملة كان يرددها أبو عادل (لو دخل المؤمن جحر ضبٍ لسلط الله عليه من
يؤذيه). وتحدثت مع العريف عن اعتيادي على الغرفة وعن رغبتي بالبقاء
فيها،فقال لي : هذه غرفة الخلوة للمساجين، وقد كان المسئولون يتوقعون خروجك
مبكراً منها، ولكن مادام السجن قد أعجبك، فسوف ينقلونك إلى أخرى مناسبة ودائمة
! حملوا عدة السجين القليلة، ومضيت معهم إلى الغرفة الجديدة والتي لم يكن
يفصلها عن الأولى سوى جدار كان يتسلل منه أنين الصمت والوحدة، ودخلنا من باب
يفضي إلى عنبر صغير فيه سبع غرف مجلّلة بأبوابها الحديدية، وأقفالها الصدئة،
تطلّ على ممر طويل تقع في آخره غرفة واسعة، فيما ينفتح الممر من جانبه الأيمن
والملاصق لغرفتي القديمة، على باحة (التشميس). اختاروا لي الغرفة الأولى،ويبدو
أنها كانت مكتباً للإشراف على العنبر، حيث أنها الوحيدة بباب خشبي. وضعت
فراشي على الأرض المغطاة بموكيت رمادي قديم، وأعدت ترتيب لوازمي القليلة على
كراتين صغيرة كنت احتفظ بها من الغرفة الأولى، وأحضروا لي جزءاً من الكنب،
والتلفاز، فانتشت الغرفة بحضوري، حيث كنت ضيفها الوحيد، في غياب ساكني الغرف
الأخرى كلها. السقف عالٍ وله فتحات قريبة منه، تطل على الممرات الجانبية،
والمكان هادئ لكنه موحش.وقد أخبرني الحارس بأن المكان مخصص لسجن النساء،
فتحرّكت المشاعر الغامضة في الأعماق، و تذكّرت قصة الحب الخرافية بين سجين في
عنبر الرجال، وسجينة في عنبر النساء، حيث كانا يتواصلان برمزية، بواسطة الطّرق
على الجدار الفاصل بين زنزانتيهما، وقد وردت هذه القصة في مجموعة الكاتب الكبير
(يوسف إدريس) المعنونة ب (مسحوق الهمس). تجوّلت في الغرف الأخرى، لأتفقد
آثار الراحلات، فتضاعف إحساسي بالوحشة والفقد. يا للنفس التي لم تعجبها
الغرفة الأولى لأن سقفها واطئ، ولم تألفها إلا بعد أن أرتعش الجسد على سريرها
الوثير، ولم تأنس بالغرفة الجديدة، واسعة المكان. فالفضاء أو الحيّز الصغير
يخفّف من وطأة الوحشة و لكنه يكثّف الشعور بالكآبة، أما الحيز الواسع فإنه
يشعرك بغياب الناس ويزرع علامات الفقد في أطراف المكان. يا علي، إنه سجن،حتى
لو وضعوك في أحد قصورهم الفخمة والمهجورة التي تمتلئ بها شواطئ الشرقية، لأحسست
بالوحدة والغربة والاشتياق إلى دفء العائلة والأصحاب. ذهبت للحمام، ففوجئت
بحمامات قديمة ذكّرتني، رغم نظافتها، بحمامات زنازين وزارة الداخلية
بالرياض. كانت أربعة حمامات عربية متجاورة، وحوض إسمنتي متهدم للغسيل
والوضوء، ورائحة لا تحتمل إلا في ساعات المخاض العسير، ولكنها أفضل من حمامات
زنازين السجن في وزارة الداخلية بالرياض، التي لم أستطع محو قسوتها من خيالي،
ولا طرد مرأى الصراصير وفئران الجحور بأذيالها السوداء الطويلة، وكان حظي
العاثر قد وضع زنزانتي أمامها تماماً. كانت مراحيض سجن وزارة الداخلية
أربعة، تقع في نهاية صف الزنازين الأيمن، وكل اثنين منها بمدخل واحد، وكانت
طبقات الأوساخ المتراكمة على أبوابها الحديدية من الداخل هي ميزتها الوحيدة،
فقد أتاحت مجالاً للكتابة عليها بعود الكبريت الذي يحفر في تلك الطبقات أحرفه
وآلام كُتّابه، وكان مبارك الحمود يشاغبني بكتابة سؤال دائم، (متى نطلع)؟
كتبت له مرة: لن نطلع حتى ننظّف الصحون. ويبدو أنه لم يفهم الرسالة، فكتب:
صحون الغداء أم العشاء. وكتبت: صحون أخرى لا تعرفها يا مبارك. ورغم قذارة
تلك الحمامات، إلا أنها غدت متنفسنا الوحيد، الذي نستطيع من خلاله التواصل مع
بعضنا، بالهمس، أو بالكتابة على الجدران والأبواب. وقد وجدت ذات مرة، عبارة على
باب الحمام الداخلي تقول: أصبحت القوات الإيرانية على بعد مائة كيلو متر من
بغداد، ولحظتها، داعبني الفرح، وذهبت إلى أقاصي الأماني البعيدة، فتوقعت أن يتم
الإفراج عنا قريباً، لأن تهديد إيران للعاصمة العراقية يعني اقتراب الخطر
الإيراني من المنطقة الشرقية لبلادنا، وسوف تكون حكومتنا محتاجة عندها إلى
استتباب الأمن ،وكسب مشاعر المواطنين، ولا بد من إطلاق سراح هذا العدد الكبير
من المعتقلين الذين يتحدّر أغلبهم من المنطقة الشرقية!! أشعت هذا الاستنتاج
ـ همساً ـ إلى جيران زنزانتي وإلى مرتادي الحمام القريب من مكاني، لكنني أصبت
بالخجل و الإحباط، حينما علمت، أن الحدود الإيرانية لا تبعد عن بغداد أكثر من
مائة كيلومتر! لكن أصعب الكتابات وجدتها ذات مرة مكتوبة بخط عريض استخدم
كاتبها مسحوق (التايد)، ويبدو أنه أمضى ليلته هناك حيث دوّن : يسقط حزب العمل
الاشتراكي في الجزيرة العربية،وأدركت أن المعركة نشبت بين الحزبين من جديد في
السجن، حيث رد على هذا الشعار، سجين آخر، فكتب بخطّه على طول الجدار، يسقط
الحزب الشيوعي في السعودية. لم أكن أعرف من الذي خط تلك الشعارات، ولكن يبدو
أن أصحابها يعرفون بعضهم جيداً. إنها الاختراقات الخاطئة التي جعلتنا نتصارع
علناً، ومع ذلك فإن الشيوعيين الذين أصدروا مجلة (الثقافة المعاصرة) لم يجرؤوا
على إيصال نسخة منها مباشرة، لأحد أعضاء حزب العمل الاشتراكي، وإنما وسّطوا
صحفياً يعمل في جريدة اليوم وهو الصديق السوداني (سيف)، ليسلّم تلك النسخة إلى
المرحوم صالح العزاز. وقد دفع (سيف) الثمن غالياً حيث اعتقل معنا ولم يتم
الإفراج عنه إلا بالعفو الملكي الذي شمل الجميع، وأجزم أن (سيف) لا يعرف عن
التنظيمين شيئاً، وإنما كان ضحية غير مقصودة للمنافسة بين الحزبين! وبعد
مدة، وجدت عبارة حادة، مكتوبة على جدار نفس الحمام، تقول: تسقط المملكة العربية
السعودية. وخلال نصف ساعة، سمعت صوت الحارس وهو يصرخ على المعتقلين المتواجدين
في الحمامات ،لتحديد اسم المعتقل الذي كتب ذلك الكلام! ولما لم يجد الإجابة،
بادر وبسرعة لمحو الكتابة، وتأكدت عندها، بان المباحث كانت تتابع تلك العبارات،
للاستفادة منها في التحقيق! كان سجن وزارة الداخلية في بداية أيام اعتقالي،
يجمع كل ألوان الطيف الحزبي السياسي، من اليمين إلى اليسار، فزنزانتي تقع بين
زنزانتين يقبع فيهما شخصان من (جماعة جهيمان)، أحدهما شامي والآخر، زهراني،
وكان دعاء الزهراني بعد كل صلاة يكاد أن يقطع أوتار القلب، أما الشامي العنيد،
فلم أسمع له أنّةً أو ألماً، رغم أنه مقعد ومصاب بجراح كثيرة، كان الممرض
يعاينها يومياً. وكان في الصف المقابل أشخاص ينتمون إلى حزب (الله) الشيعي،
وبجوارهم أعضاء من حزب العمل الاشتراكي، ومنهم صديقي أحمد بابتسامته الغامضة
والدائمة، أما أعضاء الحزب الشيوعي فقد ملأوا الزنازن الباقية في هذا العنبر
والعنبر المجاور. قلت أن العنبر مكون من صفين من الزنازن، يقع في نهايته
غرفة واسعة تطل على الممر، ولها مدخل خاص مجاور للحمامات المشتركة الثلاثة
الأخرى، وكانت لحيتي الطويلة قد نفّرت أصدقائي مني، بيد أنها قد جعلتني مثار
جدل بين الأطراف الأخرى،فإلى أي تيار ينتمي هذا المطوع ؟ وذات مساء كنت في
الحمام المجاور للحمام الخاص بالغرفة الكبيرة، وسمعت صوت سجينها يأتي هامساً :
أبشّرك أن حسن الصفّار في (قم)... حسن الصفار في (قم)! قلت له : الله يبشرك
بالخير،ولكن ماذا جاء بك إلى هنا! فأجاب بهمس : كنت أعمل في جوازات
الرقعي،وتعرف الأمور،فاعتقلوني. لم أكن قد تعرفت على الشيخ حسن الصفار،
ولكنني سمعت عن علمه وامتلاكه (لكاريزما) الشيخ والقائد، وكنت أعرف أنه ميال
إلى العنف، وقد شارك حزبه (الثورة الإسلامية)، مع الحزب الشيوعي، في إصدار
بيانات سياسية، في الخارج، حول قضايا الوطن والمنطقة العربية،ونسقا بعض الأنشطة
الإعلامية والنقابية معاً ،من خلال لجان حقوق الإنسان، واتحاد النقابات
العمالية العالمية. وقد ظل الشيخ الصفار وقيادات حزبه في الخارج حتى احتل
صدام الكويت، فاتخذ الصفار موقفاً وطنياً شجاعاً ـ مهما كانت أسبابه ـ ،بإعلانه
وقوف الشارع الشيعي مع القيادة السعودية ضد تهديدات صدام، لأن الوطن أصبح
مستهدفاً ،وينبغي أن يكون الجميع في خندق واحد ضد أعدائه. وقد عاد مع
قيادات حزبه إلى البلاد في عام 93م، بعد تفاهمات مع الحكومة، ووعود بإزالة
أشكال التمييز الطائفي ضد الشيعة، ولكن الحكومة لم تنفذ منها شيئاً،فناله
الكثير من غضب الشارع الشيعي، ومسّه ألم الخذلان،لكنه بقي ثابتاً على
موقفه. وقد عرفته ـ فيما بعد ـ عن قرب، فاكتشفت فيه نزاهة العالم، وصدق
الوطني، وخلق التسامح الرفيع، وعرفت فيه المجدد الديني الذي يقبض بفهم وعمق على
مقاصد الشريعة الكلية، وقدرتها على بناء دولة إسلامية حديثه، تأخذ بمبادئ
الديموقراطية وحقوق الإنسان ،وتضمن حقوقه في المشاركة السياسية في اتخاذ
القرار. وبذلك أزلت من الصورة، التي احتفظت بها له، كل توهمات الحدة والعنف،
ووضعته حيث هو، مثالاً للخلق الفاضل والرجولة الحقة. لم يبق ذلك السجين في
الغرفة الواسعة، طويلاً، حيث حلّ مكانه، ضيف آخر، أشعل الجلبة في غرفته وحمامه،
وتعرف على الجميع خلال يومين،ولقد خمّنت في البدء أن يكون (ناصر السعيد)،لأن
لهجته البدوية، وحركته وجرأته تذكرك، بما استقر سماعاً في وعيي، بذلك المناضل
الكبير، الذي كان حديث والدي عنه، يزاحم مخيال عبد الناصر. كان الكثيرون من
جماعتنا قد التحقوا منذ بداية الخمسينات الميلادية عمالاً في أرامكو،وحين تضمهم
قريتنا في إجازاتهم التي تتم كل عامين، يتحدثون أمامنا نحن الأطفال، عن عبد
الناصر، وعن ناصر السعيد، ودوره في تحريض العمال على الإضراب والمطالبة بحقوقهم
المهدرة. وكان يزورهم في مواقعهم مع أعضاء اللجنة العمالية، ويخبرهم أن وضعه
الوظيفي في ارامكو مريح، ولكنه لا يستشعر الرضى ولا السعادة حين يراهم في هذه
الأوضاع المزرية. سألت الضيف الجديد : هل أنت ناصر السعيد؟ فتنهّد بألم،
وأجاب لا: أنا فهد الحربي، أما سمعت عني؟ قلت ربما ولكنني لم أحدد
هويتك. قال ذهبت إلى ليبيا وأنشأت إذاعة معارضة للسعودية في الخارج ألم
تسمعها؟ قلت له مجاملاً : بلى.. سمعتها. ولكن أين ناصر السعيد؟ قال علمه
عند الله، وعند أجهزة (فتح) الأمنية، حيث يقال أنها سلمته للأجهزة
السعودية. مضت الأيام، وكان كريماً في تلخيص أخبار العالم لي ولغيري، حيث
توجد في غرفته سماعة موصولة بغرفة مدير السجن، وحين يفتح المدير الراديو على
الإذاعة السعودية، فإن فهد الحربي يستمتع بتسقّط أخبار العالم منها، ثم يلخصها
للمساجين عبر الحمام المشترك. أبلغني في إحدى الليالي القاسية بوصية من أحد
الرفاق، وكتبت على باب الحمام،يا خليفة.. هنا رجل يحدثني عنك، وقد أجابني رفيقي
: لا تثق فيه! كان التحقيق في ذراه العالية، وقد خيّمت الكآبة على زنازين كل
الرفاق، ولم يعد هنالك متسع لتبادل الحديث الهامس مع فهد، لكنه أصرّ على أن
نضرب عن الطعام مطالبين بتحسين
أوضاعنا.
-
نهاية اللحن الحزين ! (6)
قلت له: يا فهد.. ألا ترى السلاسل في أقدام الأصدقاء، والاستدعاءات
الطويلة، والتعذيب القاسي على ملامحهم ؟ فلنؤجل الموضوع للمستقبل.
وذات
مرّة، قال لي فهد : هناك شخص يود الحديث معك من الحمام الثاني فهو يخمّن أنك من
(ربعه)، وسألته عن ذلك الشخص،فأجابني إنه (أبو خمسين) من حزب الله،فقلت له :
إنني لا أنتمي إلى أي حزب، فاتركني الله يعافيك. تركني لمدة، وانشغل
بالآخرين،وفي ساعة متأخرة من إحدى الليالي، دخلت الحمام فأتى صوته من وراء
الجدار : عندي لك خبر مهم ـ ما هو يا فهد: ـ وصلتني أخبار بأن أحد
المسؤولين الكبار، قال في مجلس خاص، بأن الحكومة ألقت القبض على قيادات حزب
قوي، وأن الحكومة لن تعمل على جعل تلك القيادات أبطالاً! وماذا يقصد بذلك يا
فهد. قال: سيفرج عنهم قريباً حتى لا يصبحوا رموزاً للنضال، باعتقالهم لمدة
طويلة! ولقد تحقق ما رآه فهد، حيث تم الإفراج عنا بعد ذلك الحديث بحوالي ستة
أشهر، أما فهد فقد بقي في السجن، ويروي بعض الأصدقاء الذين قابلوه مؤخراً في
الدمام، أنه أبلغهم بما حدث له بعد خروجنا. لقد طلب فهد من المباحث نقله من
سجن الوزارة إلى سجن القصيم ليكون قريباً من أهله. وفي الطريق إلى ذلك السجن،
غافل فهد أحد الجنود وسلبه سلاحه بالقوة، وقام بطرد العساكر من السيارة، وقادها
إلى القصيم،ثم غادر البلاد (بالتهريب). سافر فهد إلى فرنسا وتزوّج هناك، و
حصل على شهادة الماجستير منها، وحين كبرت بناته، خشي عليهن من ثقافة الغرب،
فقرر العودة إلى المملكة حفاظاً على العرض. عاد واعتقل مجدداً وحكم عليه
بالسجن سبع سنوات، ولكنه نال عفواً بعد مضي ثلاث سنوات منها، وخرج إلى الحياة
من جديد، وأسبغ على نفسه ملامح الهدوء والرضى،ولكن المباحث أخذت عليه تعهداً
بعدم مغادرة الرياض إلى أي مدينة أخرى إلا بعد الاتصال بالضابط المكّلف
برقابته، ليسلّمه بدوره إلى مراقب آخر في المدينة التي ينوي السفر إليها. يا
للحرية الواسعة يا فهد! كان سجن الوزارة تجربة قاسية لا تنسى، حيث أصابتني
بقرحة في المعدة، وشهدت لحيتي الطويلة مولد أول شعرة بيضاء،و كانت الشعرة كفيلة
بإكسابي حلّة من الوقار، في أعين العساكر وسجناء التيارات الدينية، ولكنني،
مازلت متمسكاً بنزق الشباب،كما قال المتنبي (والشيب أوقر،والشبيبة أنزق)، فقررت
التخلّص منها. والآن وحدي في عنبر السجن بالدمام، لا يشاركني فيه يساري ولا
يميني، ولا يزورني فيه رعبٌ ولا خوف من المحقق والتحقيق، لكن الوحدة قاتلة وقد
لمست آثارها على العساكر، الذين يتناوبون على حراستي كل ثمان ساعات. قلت لهم
: هل تتوقعون أنني فهد الحربي لأشرد من هذه الزنازين ؟ والله لو تركتم الباب
مفتوحاً لما خرجت،فالمعركة بيني وبين المحقق منصبّة على بقائي في السجن. هو
يريد إخراجي بقيد أجرجره خلفي أمام الناس، دون أن تتعرض الأجهزة الأمنية
لانتقاد المواطنين والإعلام الخارجي، أما أنا فإن قضيتي هي الصبر لأطول مدة
ممكنة، وتذكّرت جملة شعرية لشاعر شعبي من الجنوب، حيث يقول: (وأنت تبغي من
عصاتك ـ تهوش)،وتقتل أحمد وتهرًًّب من دمه ما تسلّم ديّته! لا.. لا
يا سيدي المحقق، لن أترك هذا المكان، حتى تشاركني في دفع الضريبة. بقي باب
الغرفة مفتوحاً، ووجدتني حراً في التنقل من زنزانة إلى أخرى، وعبر الممر الطويل
المؤدي إلى الحمام،لكن حجم هذا الفراغ أو السعة أو حرية الحركة، كان ثقيلاً
عليًّ وعلى الحراس، ولكم أشفقت على الكثيرين منهم من سطوة الملل، فأحاول
التسرية عنهم ببعض الكلمات والسوالف القصيرة... حدثتهم عن قضيتي حتى مللت،وعن
أخبار أولادي وحكاياتهم،وعن بعض ما أقرأه في الصحف، ولم يكن يعتقهم من هذا
الكابوس سوى انتهاء دوام الواحد منهم،والعودة إلى الحياة، خارج أسوار كآبة هذا
السجن الأثري العتيد. تطاول هذا الأسبوع،ولم أطلب من المحقق زيارة جديدة، بل
كنت أتحاشى ذلك، لكي لا يتم استدراج عواطفي العائلية، إلى مأزق التعهد والعودة
إلى البيت،وكنت أعدّ الأيام بفرح يشبه استقبال الهدايا الخاصة، فكل صباح
يقرّبني من نهاية الشهر، والشهر زمن طويل وكفيل بكسر العادات القديمة
والتدرًٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌُب على الجديدة، مهما كانت قسوتها.
صمتت الجرائد عن قضية،اعتقالنا، وقرأت معظم ما توفّر لي من كتب، حتى ذلك
الكتاب الذي حمله لي مدير السجن، والذي يحوي الكثير من حكايات ذكاء القضاة
ومعرفتهم بحيل المتهمين، و قلت لنفسي : لأمثل أمام القاضي، ولن يحتاج للتعاطي
معي إلى استخدام ذكائه ولا فراسته،وكل ما يحتاجه هو (الضمير اليقظ) والفهم
المعاصر لحقوق الإنسان، وأجزم أنه سيطلق سراحي من الجلسة الأولى،فما هو الخطأ
الذي ارتكبته؟ ساهمت في إعداد خطاب يندد بالسياسة الأمريكية، ويدين تلويحها
بالتدخل في شئون بلادنا،وهذا في صالح الحكومة. وفي خطاب آخر شاركت في تحديد
مشاكل البلاد واقتراح الحلول العملية للخروج من الأزمات الشائكة، واستقبل سمو
ولي العهد الأمير عبد الله هذا الخطاب بكل تقدير،وأدنت الإرهاب، وشكرت الحكومة
في خطاب آخر على مضيها في طريق الإصلاح، وكل ذلك يصب في صالحها، فبماذا سيحكم
عليّ القاضي يا مدير السجن العزيز؟ مضت أيام عشرة بدون زيارة، وكان الملل قد
بلغ ذروته،غير أنني بقيت متماسكاً، واليوم هو السبت 12 مايو 2004م،وقد أمضيت 26
يوماً هنا. لكأنها سنة مما تعدون أيها السجناء، فأيام السجن لا تشبه أيام
الحرية، وساعات الوحدة القاتلة لا تشبه ساعة في الحديقة أو بقرب (فوزية)، و كنت
أحنّ إلى استدعاء ضابط التحقيق لي، ففي الحديث معه تحريك للأيام الراكدة،
وتمرين على الحديث عن مباهج الحرية، ومشاغبة لا يخشاها متهم بمثل قضيتي. وبعد
أن جففت أصابعي من حبر البصمات، رأيت المحقق يستعجلني للحاق بالطائرة قبل
الأوان ! ترى، ماذا سيحدث لو تأخرنا عن موعد الإقلاع هذا اليوم ؟ ألن أجد
قبراً فاتحاً لي ذراعيه كهذا العنبر؟ استجبت لطلبه وركبت سيارة (السجن)
الجديدة، وكان الجو حاراً في ظهيرة ذلك اليوم، وصندوق سيارة السجن بدون تهوية،
وحين وصلت المطار أحاط بي المحقق وأربعة من زملائه،وقال لي: تقديراً لك لن نضع
القيد في يديك فقلت له لا أقبل ذلك،وهل يقيّد مثلي؟ وعلى كل حال فأنتم
الخاسرون. ركبنا الطيارة بدون قيد واستعاضوا عنه بتشكيل طوق من الحراسة
حولي، وفي مطار الرياض و دعني الضابط، عائداً إلى الدمام، بعد أن أسلمني إلى
مباحث العاصمة. كانوا أربعة من الجنود بلباس مدني، وخامسهم وكيل رقيب، وعلى
باب مطار الرياض وضعوا القيد في القدمين، ومضيت أجرجر جسدي خلفهم حتى
السيارة. حاولت إفهامهم أنني لست إرهابياً، وأنني من دعاة الإصلاح السياسي
والدستوري، وأننا أصحاب دعوة سلمية، ولكنهم لا يسمعون ولا يبالون بمن
تكون! قلت لنفسي : والله حالة !... انخرطت في عمل سياسي سري
فاعتقلتموني،وكتبت قصائد الشعر الحر فسلطتم علينا عوض القرني ورفاقه،ودعوت إلى
الإصلاح بطريقة علنية وسلمية، فوضعتم القيد في أقدامي، فهل أذهب إلى طريق العنف
والإرهاب؟ لم تتركوا لنا باباً إلا وأوصدتموه،ولا أملاً إلا وقضيتم
عليه،وكأنما تدفعون المواطن إلى اليأس أو الإرهاب أو الانتحار. والله
حالة... ! كما يقول أبو منير، حين كان يصلني صوته من زنزانته المجاورة لي في
سجن الوزارة، وهو مثقل بالقيود. وصلنا إلى بوابة مبنى المباحث العامة في
عليشه بالرياض، وأعتقد أنني أحفظ هذا الاسم منذ زمن بعيد. نظرت إلى الغرب،فرأيت
بساتين نخيل قديمه، تتحدّر من هامات نخلها سعفات يابسة ومكسورة،وتذكرت هذا
المنظر. إنه هو.. أو شبه من أبيه،ذلك النخل البعيد الذي ينشر الحزن في
الأفق،كما رأيته قبل أكثر من 23 عاماً، حين نقلونا من سجن وزارة الداخلية على
شارع المطار القديم إلى هذا المكان،بعد أن أمضينا ستة أشهر في الزنازين
الانفرادية. ربطوا كل ثلاثة في قيد واحد، فكنا أشبه بالقطيع يضرب بعضه بعضا،
لكن فرحة الخروج من الحبس الانفرادي، والتواجد مع آخرين، أشعرتنا بأننا نفتح
قبورنا ونعود إلى الحياة من جديد. كان زميلاي في الغرفة من نفس التنظيم،
وهما (خالد)، و(أموري)، وقد كدنا نبلغ مرحلة جنون الفرح بهذه الغرفة النظيفة
ذات الحمام العربي اللامع، ولعلنا كنا أول من دشّن هذا المبني في عام 83م.
ضحكنا طويلاً ولم ننم لثلاث ليال متتاليات، قضيناها ونحن نستعيد قسوة التجربة،
ومرارتها خلف تلك الأبواب الصلدة، أما هنا فقد دخلنا الجنة. غرفة بثلاثة
أسرة، وأرضية مفروشة بالموكيت،ونوم هانئ لا يقلقه فتح أبواب العنبر طوال الليل
لتصعيد المساجين إلى مكتب التحقيق. يا للراحة التي لا يعرف طعمها إلا من قست
عليه الظروف ووضعته بين يدي (أبو منصور) أو أمام عبد العزيز بن مسعود.
نعمنا بالهدوء والراحة زمناً، ثم بدأنا ندخل حالات الحزن والملل والاكتئاب،
في غرفة معزولة عن العالم، لا تسمع أصوات الآخرين، ولا يهمسون لك بالسلام في
ذهابهم إلى الحمام، وليس لديك ما يقطع الوقت: لا جريدة، ولا كتاب، ولا راديو،
ولا تلفاز. ورويداً رويداً بدأت الغرفة تأخذ شكل الزنزانة، خاصة حين يختصم
المعتقلون مع بعضهم. ولكني أذكر الآن ـ وأنا أكتب هذه الذكريات في عليشة ـ
قسوتي على صديقي (خالد)، حيث كنت أتفق في الرأي مع (أموري) ضده، وكم من الأوقات
الصعبة مرّت عليه، معزولا بين اثنين، في غرفة صغيرة في سجن عليشه. وأعتقد أن
الزمن قد أنتقم له الآن مني، حيث أجلس في السجن وحيداً فيما يتفق زميلاي معاً،
الدكتور عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح، مما سأفصل فيه في الجزء
الثاني. فهل يجدي الآن أن أطلب منك السماح يا خالد؟ كانت الأنوار مضاءة،
وجهاز التكييف مفتوحاً على مدار الساعة في الغرفة الجديدة،ولم نكن نملك إمكانية
التحكّم فيهما، ولكن عطلاً طارئاً في الكهرباء أدى إلى انقطاع التيار، فبدأنا
ندق على جدران زملائنا في الغرفة المجاورة، ونرفع أصواتنا فلا يسمعون. وهنا
لاحظنا لأول مرة وجود فتحة صغيرة فوق جهاز التكييف، فرفعني (أموري) فوق كتفيه
لكي أبلّغ الزملاء في الغرفة المجاورة بقرار الإضراب العام، للمطالبة
بمحاكمتنا، محاكمة علنية عادلة. وحين أطلّت عيناي من الفتحة، رأيت هذا
المنظر نفسه، فشهقت لرؤية الدنيا والنخل والجريد اليابس، وأبلغت الرسالة
لزملائي المجاورين، فرد أحدهم : أنتم مجانين، سوف يعيدوننا إلى الزنازين
القديمة، ورفضوا المشاركة في الإضراب. أما جيراننا في الغرفة الثانية، فقد
قالوا: دعونا نطالب بتحسين أوضاعنا، والحصول على جرائد، وفتح أبواب الغرف على
بعضها. قلنا لا: لا بد من ربط الإضراب بالمطالبة بمحكمة علنية
عادلة. أضربنا لمدة 48 ساعة، وقد حاول مدير السجن إقناعنا بكسر الإضراب،
فرفضنا مطالبين بمقابلة (أبو ناصر). وفي آخر الليل استدعانا (أبو ناصر)إلى
غرفة تحقيق ملحقة بهذا السجن، وبدأ بالسؤال: من الذي طرح فكرة الإضراب، فقلت
له: هل رجعنا إلى أيام التحقيق...؟ لقد فكرنا معاً ونفّذنا الفكرة
معاً. سبقنا في الإضراب بعض الأصدقاء، ويبدو أن هدف الإضراب قد أصبح معروفاً
لدى (أبو ناصر)، لذا لم يفاجأ بالطلب، وحاورنا بشكل ليّن حتى أبلغناه بأننا
نحمّله أمانة إيصال هذا الطلب إلى المسؤولين، وإذا لم يلب خلال شهر فإننا
سنعاود الإضراب من جديد. وعدنا خيراً وقال تفاءلوا بالخير تجدوه. دخل شهر
الصيام، وانتصف دون استجابة، وصدف أن رأيت محمد العلي يمشي في حوش التشميس بدون
العسكري، فهمست له بالفكرة من تحت الباب،فقال على الفور : دعونا نضرب جميعاً في
يوم العيد! انتشر الخبر عبر الزيارات، وقرر الجميع الإضراب في ذلك الموعد،
غير أن المطالب بقيت شأناً مفتوحاً لكل مجموعة حقها في المطالبة بما
تشاء. وفي صبيحة يوم 27 رمضان،وقد اقترب العيد،وموعد الإضراب، جاءت المفاجأة
العظيمة من (أحمد ناهر). طرق الباب ونحن نيام، فلما صحونا على صوته، فتحنا
شباك الأكل، ونظرنا إليه: كان مبتسماً وعلى وجهه فرح غامر، وقال أبشركم
سيحولونكم على محكمة علنية... ألبسوا ثيابكم. لبسنا على عجل،وفتح الباب لنا،
فوجدنا الأصدقاء يحتضنون بعضهم،ويكاد البعض أن يبكي من الفرح. سألتهم : ماذا
حدث، فقالوا : أفرج عنا بعفو ملكي...! ركضت إلى أحمد ناهر وقبلته بحرارة،
وسألته عن (أبو منصور) فقال إنه في إجازة. قلت له بلّغه تحياتنا... لقد نسينا
اليوم كل شئ، وسامحناه. شدّ على يدي بحرارة، وقال للجميع : سوف تقابلون الفريق
وبعض العلماء... عليكم بالإنصات وعدم الحديث. يا الله... كيف تغيّر
الابتسامة وجه الإنسان، فبعد أن كان وجه أحمد ناهر مقطِّباً وصلفاً، أصبح الآن
وجهاً آخر. ورأيت أنه يؤدي وظيفته فقط! التقينا في صالة غصت بجمعنا، و
أبلغنا الفريق عبد العزيز بن مسعود بقرار خادم الحرمين، بالعفو الملكي عن
الجميع، غير أن وجهه ما فتئ جهماً وقاسياً وعنيداً، وقال إنكم ممنوعون من
السفر! تحدث معنا الشيخ الفاضل صالح اللحيدان، عن سماحة
الإسلام،وعدالته،وصلاحه لكل زمان ومكان، واستغرب منا تبني
الفكرالاشتراكي. وقد تحدث معه بعض الزملاء موضحين إن الحزب الشيوعي، هو حزب
سياسي له برنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي، ويستهدف مصلحة الشعب، والسعي لإنصاف
الطبقات الفقيرة والمحرومة ومنع استغلال الإنسان للإنسان. وقال زميل يجلس
خلفي. إن كلمة الشيوعية جرى تشويهها على أنها ضد الدين، وفي الواقع فإننا لا
نهتم بالجانب الفلسفي من الفكر الماركسي، كما أن هذا الفكر من الجانب الآخر،
يؤمن بحق الإنسان في اعتناق أي دين، ولا يضع نفسه في مواجهة مع الدين، كما لا
يهدف إلى أن يكون ديناً. والشيوعية هي مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي
والاقتصادي للمجتمع ،حين لا يعود هناك استغلال أو استئثار لفئة بخيرات الوطن
دون أخرى، وقد عملت الدعاية الرأسمالية على توصيف الشيوعية بالعداء للدين، وذلك
جزء من حربها ضد دول المعسكر الاشتراكي. وقال زميل آخر: لقد عشت في الاتحاد
السوفيتي،وزرت الجمهوريات السوفيتية الأسيوية، وأقسم لك يا شيخ بأن الناس
متمسكين بدينهم الإسلامي ويؤدون شعائر الإسلام في مساجدهم كما نمارسها نحن هنا،
وليس هناك أي تدخل للدولة في الشأن الديني. كما أن عدداً كبيراً من أعضاء الحزب
هم من المسلمين ويؤدون واجباتهم الدينية على أكمل وجه. ابتسم الشيخ الفاضل،
وقال : إن كان هذا صحيحاً،فهو أمر يبشر بالخير، حيث مازال المسلمون متمسكين
بعقيدتهم،واسترسل في حديثه عن الثروات الحلال وإنها منًة من الله سبحانه وتعالى
على عباده. تشعّب الحديث، وطال، رغم توصيات احمد ناهر، وملّ بعض الشيوخ
المقام، فغادروا الصالة، أما الشيخ اللحيدان، فقد فتح قلبه وعقله للحوار،وبنى
صورة حضارية للعالم المثقف والمطلع والمتسامح، ومازال الكثيرون منا يقدّرون له
ذلك الحديث الضافي، ويتابعون كتاباته في صحفنا، بكل محبة وتقدير. ودعنا
الشيخ، ودعا لنا بالخير،وانهمكنا من جديد في التعبير عن مشاعر الفرح بالإفراج،
وعن تفاصيل ما لقيناه في تلك الأيام، ولم يكدّر بهجتنا إلا ما سمعناه من خبر
موت رفيقنا خالد النزهة، رحمه الله، في السجن، وحينها تحول المكان إلى مناحة لا
تطفئها الدموع و لا النسيان.
-
الله الله ياسي
عبدالله !! موضوع جديد وتثبيت وبشوت ومباحث ومحققين .. كلّ هذا وأنا قاعد
هناك في سالفتك مع القفطان ؟!! إسمع يابو قلنسوة .. بما أنّك قلت أنّ
جلبك للموضوع ليس معناه التأييد .. فسوف أقرأ الموضوع بعد إنتهائه ومن ثم
أشرشحه جيّدا !! ولسوف أفتري فيه .. وأخلّيك ماتجيب موضوع ثاني مرّة إلاّ
وأنت مأيّده تأييدا كاملا كنوع من الحصانة له .. . . تحياتي ..
. .
أحدٍ
رزقه الله عيون .. وما يشوف ! ** وأحدٍ بدون عيون .. شايف كلّ شي
!
-
مقالات (1)
القسم الثاني مقالات و وثائق
الكويت ....... وتداعيات
الضفاف الأخرى ! !
لازلت أذكر في طفولتي، مشاعر التعاطف الشعبي العفوي
للناس، في القرى النائية في جنوب البلاد مع قضايا الشعوب العربية في فلسطين
والجزائر ومصر، حيث أشعلت الثورة المصرية (المخيال الإجتماعي) بروافد قومية،
تتساوق مع المكونات الدينية لإبراز النزوع إلى الوحدة العربية
والإسلامية. ولعلي لا أنسى ماحييت،اهتمام أهل القرية شيوخاً وشباناً ونساء،
بمأساة الشعب الفلسطيني الذي بلغت قوافل نزوح شعبه ذرى القمم العالية في سلسلة
جبال السروات، ولا أنسى متابعة الناس عبر المذياع لأخبار حرب السويس ولثورة
الجزائر المشتعلة. وكنت أصغي لأحاديثهم ـ بعد صلاة المغرب ـ عن ثورة العراق ثم
ماتبعها فيما بعد من انتصارات التحرر من براثن الإستعمار. وحين أصبحت قادراً
على فك الحرف في الثانية الإبتدائية، صرت كاتم أسرار (الآباء) الذين يراسلون
أبناءهم في المدن البعيدة، ولعل من أهم ما تختزنه الذاكرة ما أسميه الآن (بعدوى
الحس القومي) التي كانت تتخلل رسائل الأبناء لأبائهم وتهنئتهم لهم بتحرير
الكويت من الإستعمار البريطاني، وأمنياتهم بتحرير الجزائر من الإستعمار
الفرنسي. لقد بقيت الكويت حالة أولية من حالات تكوين مشاعر الطفولة، وشكّل
معنى استقلالها مفاعيله الوجدانية، من خلال ذلك الفرح الطاغي الذي تجلى في تلك
الرسائل العائلية. وحين كنت في المرحلة المتوسطة، أخذ اسم (الكويت) مكانه
المبكر في الذاكرة الثقافية من خلال إطلاعي على مجلة (العربي)، التي كانت باباً
للتعرف على أرجاء الوطن العربي مثلما كانت منبراً ثقافياً عروبياً جامعاً
. وفي كلية البترول عام 68م، كانت نوافذ التلفاز الكويتي تفتح ضوءها الجميل
على ليالي الخليج المشبعة برطوبة الصيف، فتغدو ليلة استقبال برامجه مدعاة
للإحتفاء والنشوة . وهكذا تم تكريس اسم (الكويت) عبر الزمن في الذاكرة،
ليأخذ موقعه المتميز في (المخيال السياسي)، لمثقفي الخليج، كأنموذج لواحة
الديموقراطية والحرية ومناصرة القضايا القومية العربية منذ الستينات. وتحضر
مؤسساتها الدستورية، مساحة الحرية والتعددية التي تتوفر عليها صحافتها ووسائل
إعلامها الأخرى، كمثال تتشوّفه ومضات أحلامهم، مقابل عدم رضائهم او نفورهم، من
سيادة الصوت الواحد لثقافة سلطة الدولة الحديثة في العراق المتاخم لها شمالاً،
وفي فضاء سلطة الدولة المحافظة في الجنوب من الرياض إلى البحرين وحتى عمان
جنوباً. ولذا فإن احتلال العراق للكويت عام 90م لم يكن انتهاكاً لاستقلال وكيان
دولة مستقلة، وإنما صار دلالة على القتل الرمزي للديمقراطية، و للمكونات
الثقافية لواحة الحرية المضيئة، كنجمة وحيدة في سماء الخليج. ولقد اتفقت
حكومات الجيران، رغم اختلافاتها شمالاً وجنوباً، على مناهضة منبع التنوير
القادم من الكويت، والعمل على ممارسة كافة الضغوط المزدوجة لتحجيم دور ومفاعيل
ذلك المنبع في المجال السياسي، وبشكل جلي. ولكن الكويت التي عانت من بعض
ضغوطات دول الجوار، فتحت أرضها ومناخات حريتها للنخب الثقافية والسياسية
العربية والفلسطينية تحديداً، كما كانت منبراً لامرئياً للعديد من التنظيمات
السياسية السرية في دول الخليج، من الجبهة الشعبية لتحرير الخليج وعمان إلى
الأحزاب القومية والتقدمية في البحرين، إلى الحزب الشيوعي في السعودية، الذي
كان بعض قادته يعملون في الكويت، قريباً من حدود الوطن حتى اعتقالات عام 82م
. ومثلما قضت الإعتقالات في صفوف الحركة الوطنية لدول الخليج، على نشاط
الكثير من كوادرها، فإن الضغوطات الحكومية لدولها على الكويت، قد ساهمت في
تقليص تواجد كوادر الحركة على أراضيها، واضطرار العديد منهم للمغادرة إلى الشام
و بيروت، إلا أن الضربة القاصمة أتت على يد دبابات صدام حسين، فحرمت
الفلسطينيين من منبر سياسي، ومحضن اجتماعي وثقافي هام، وبلغت دراما المأساة
قمتها في انحياز معظم فصائل الثورة الفلسطينية إلى الموقف العراقي، ضد واحة
الحرية الكويتية . لم يكن الاحتلال استيلاء على وطن، ولكنه أصبح انتهاكاً
للقيم الحضارية التي ترسّخت في ضمير وثقافة الشعب الكويتي على مدى عقود من
الزمن، مما ضاعف من مشاعر الغبن وفقدان الثقة في كل تلك القيم، ودفع الشعب
الكويتي، نخباً وأفراداً، إلى هجير الكفر بالعروبة والفكر القومي،والارتماء في
أتون الحقد على الشعب الفلسطيني بشكل كارثي. وفي ظل هذه المناخات المأزومة،
تنادى عقلاء الحركة الوطنية الكويتية، إلى بذل أولى المحاولات الشجاعة لرأب
الصدع، وتجاوز آثار طعنة الخاصرة، ودعوا إلى أول مؤتمر للقوى الشعبية في الكويت
عام 2001 م، لعقد مؤتمر (مقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي) تضامناً مع
إنتفاضة الأقصى، ومحاولة عاقلة لترميم الجسور المحطمة بين الشعبين. وحين
تلقى مثقفوا الخليج الدعوة لحضور المؤتمر الثاني، سارع العديد من مثقفي المملكة
بالتجاوب معها، أملاً في تجاوز غبار معركة الخلافات الناشبة في الشارع العربي،
بعد الاحتلال، واستجابة لما يجمعهم بمثقفي الخليج، من اهتمامات ثقافية
واجتماعية وسياسية. ـ لا ... للتطبيع ! الطريق البري إلى الكويت لم
يعد أليفاً مثلما كان في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وما زال الجزء الطويل
منه يتيماً يسير بعينين مغمضتين من أبو حدرية حتى الخفجي، التي فاجأني اتساعها
كمدينة حديثة. وحين نقترب من ضواحي الكويت يتحول الطريق إلى مجرى نهر تحفّه
الخضرة والأشجار الأنيقة من الضفتين، لكن شيئاً في داخلك ما زال يحجب المتعة
ويذهب بك إلى عتمات صليل السيوف، وأزيز الطائرات، وأهوال فجيعة الأخ في أخيه
وما تلاها من أوزار الحرب التي انقسم كيان الأمة حولها، وما زال الشرخ غائراً
في الضمير الشقي، الذي زرعته تلك الفتنة المعاصرة. كان مثقفو الخليج على
موعد في صباح الخميس30/مايو مع خطوة هامة لتجسير الفجوة بين الأشقاء واستعادة
روح الاصطفاف المتأخرة إلى العمق الشعبي الكويتي، للتعبير عن مساندته لانتفاضة
الشعب الفلسطيني برفع شعار (لا للتطبيع مع العدو الصهيوني)، ونعم (لدعم
الانتفاضة). كثيرون هم أصدقاء الحرف و المعنى و القواسم المشتركة، من
الدكتور الخطيب والنيباري إلى أحمد الديين والقطامي، وكان لتواجدهم في ذلك
الصباح الحزين ما يشبه دفء العائلة حول فراش الفقيد. كثيرون هم أصدقاء الكتابة
والإبداع، ولكن غيابهم كان واضحاً كفداحة غياب الشارع الكويتي الذي احتضن –
مناخ الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها في منتصف الستينيات. ولكن ماذا يحدث
الآن لهذا الشارع؟ الوقت ينزلق من بين الأصابع، والمكان مؤثث للاحتفال، وبهو
الفندق المصممّ لإحالة مناخ الصحراء، إلى مصيف بديع، يستثير صور الأصدقاء في
المخيلة حتى لم يعد هناك مجال للتهرب من وجوهٍ تهلّ من الذاكرة لإسماعيل فهد
إسماعيل، ودبي الحربي، وسعدية مفرح، وليلى العثمان، ولكنها كانت تلمع في البعيد
بدون أرقام هواتف. بحثت عن وسيلة، فكانت جريدة (القبس) هي بابي للدخول، حيث
تشرف سعدية على ملحقها الأدبي، وحين ابتسم الصوت على الطرف الآخر، سألتها: هل
هذا الملحق الأدبي للقبس، فأجابت نعم، ولكنه في إجازة منذ ستة أشهر! ذهبت
(للقبس)، ولم تكن بعيدة عن موقعنا، ولكن الطريق إليها استعاد مسيرة عصية على
الاختصار، كانت فيها تلك الجريدة موقعاً متقدماً – مع جريدة الوطن ومجلة
الطليعة ـ لحرية التعبير عن الصوت والفكر العروبي والتقدمي بكافة أطيافه،
ومنبراً للقضية الفلسطينية احتضن عشرات الصحفيين والفنانين والكتاب، مثل غسان
كنفاني وناجي العلي وماجد أبو شرار و وليد أبوبكر وسواهم، وكانت الكويت تباهي
بمنبرها ذلك، مكاناً ووعياً ونظام خطاب عروبي قوموي عالي النبرة والحضور،بريق
بيروت في أزمنة الستينيات الذهبية. دخلت المبنى، وكان صمته لا يشبه إلا
الوحشة، ولم تعد الصحيفة هي تلك التي عرفناها موقفاً وعمقاً ،وكنت مثقلاً
بفجيعة تراجيديا موت فيصل الحسيني ، وبالقسوة الفجّة التي عبر بها ( ليكوديو
مجلس الأمة) عن غضبهم – حسب تعبير داوود الشريان ـ وبأشياء لا حصر لها، ولم
يخفّف عني جزءاً من ذلك العناء، إلا حديثي مع الشاعرة سعدية مفرِّح، التي
وجدتها تحمل من الألم حيال ما يجري ما يجعلنا نشترك في لحظة مصارحة ثقافية
وحقيقية كادت أن تصل إلى حد البكاء ! 2 ـ فيصل الحسيني كانت الصحف
الكويتية الصادرة صباح ذلك الخميس الحزين تفرد عناوينها البارزة في الصفحة
الأولى، على طاولة سعدية، للهجوم العنيف الذي قوبل به فيصل الحسيني في مجلس
الأمة، وكانت أشد الكلمات قسوة ما تفوه به أحمد السعدون، رئيس مجلس الأمة
السابق حيث قال : يا فيصل الحسيني .. لا أهلاً ولا سهلاً .. عُدْ من حيث
أتيت. كان الحزن ثالثنا، وكانت سعدية تشاركني الاشمئزاز من تلك العبارات،
وتنظر معي إلى تراجيديا الحدث الأسطورية ثم تسألني عن مناخ الجلسة الافتتاحية
لمؤتمر مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني . قلت لها،بكل أسف كان مكان الحسيني
شاغراً بشكل فاجع، ولم يكلف أحد من أعضاء الأمانة العامة،القابعين بحياد بارد
على مقاعدهم،نفسه بالحديث عن الفاجعة، بل استمرت الجلسة الأولى وكأن شيئاً لم
يحدث! تذكرت ليلة البارحة أننا – مجموعة من المثقفين السعوديين المدعوين
لحضور المؤتمر ـ قد كنا آخر من قابل الحسيني في بهو الفندق، وقد سلمنا عليه
وأبلغناه رغبتنا في لقائه بعد ساعة، للاستماع إلى وجهات نظره حيال الانتفاضة
وخياراتها الحاسمة، وكنا نود التعبير له عن الضمير الواعي في منطقة الخليج الذي
يستهجن ردود الفعل القاسية من البعض في الكويت، وأن نوضح له وقوف الشعب العربي
في الخليج مع إخوته الفلسطينيين في هذه الساعة الحاسمة من ساعات نضاله. ولكننا
تأخرنا في نقاش مقترحاتنا للتوصيات الختامية، فلم يعد الوقت مناسباً لإيقاظه،
ولم نعلم أنه قد نام إلى الأبد إلا ضحى الغدِ . غاب الحسيني عن الجلسات
الرسمية، لكنه حضر وبقوة في اللقاءات الجانبية، مجللاً بالسواد ومتشحاً بلمعان
قبة الصخرة، وكان الخوف من تعميق الهوة بين الكويتيين والفلسطينيين طاغياً على
الوجوه، سيما وأن حرب التصريحات الفضائية والرسمية قد استلت رصاصها الأخير من
ذاكرة حرب الخليج واقتتال الإخوة. وقد نبّه بعض المثقفين إلى أن على عقلاء
الكويت تجاوز ردة الفعل المدمرة، والعمل على الخروج من لذة استذكار الألم إلى
شجاعة الغفران وتحكيم العقل، وتغليب مصالح الشعب الكويتي الإستراتيجية، فمنطق
الجغرافيا والجوار واحتمالات نضوب البترول سيحيل الكويتيين إلى غرباء في محيط
مضاد. وقد أمّن بعض العقلاء من القيادات الوطنية التاريخية في الكويت على
صحة الملاحظة،ودان الحسابات الضيقة لبعض نواب مجلس الأمة، الذين عملوا على
المزايدة على تطرف الشارع، لضمان إعادة الانتخاب، دون الالتفات إلى مصالح
الكويت الإستراتيجية، وأوضحوا أن هذا المؤتمر في حد ذاته هو محاولة جريئة صوب
الخروج من مأزق ( القيتو )، لكنهم نبّهوا إلى أن الكويت بلد ديمقراطي ويتمتع
بمناخ تعددي، وأن هناك أصوات كثيرة لا تتفق مع مواقف العداء التي أبداها بعض
النواب أمام فيصل الحسيني له وللشعب الفلسطيني، وأكدوا أن الصحف الكويتية ستحمل
الرأي الآخر في اليومين القادمين. تشعّبت الأحاديث، ولكن فاجعة الموت بقيت
مسيطرة على المكان، وقد قادت البعض للبحث في احتمالات أسباب الوفاة، فعزى البعض
ـ في ضوء ما يعرفه الناس عن تجربته الحوارية الطويلة مع كافة الأطراف و تمتعه
برحابة الأفق والتسامح مع الآخر ـ تلك الوفاة إلى احتمال تسميمه من قبل إسرائيل
قبل مجيئه إلى الكويت، ورأى آخرون أن بيت الشعر الذي سكّ حكمته طرفة بن العبد
(وظلم ذوي القربى اشد مضاضة / على المرء من وقع الحسام المهنّدِ)، سيجد تجسيده
المعاصر في هذه التراجيديا العنيفة. ولكن تصريحات الرئيس عرفات المتكررة فيما
بعد والتي دانت إسرائيل بشكل علني وواضح لأنها تسببت في وفاة الحسيني من خلال
الغازات التي كان يتعرض لها في المواجهات اليومية مع الجنود الإسرائيليين،
وكذلك لمعاناته المزمنة من حالة الربو، قد أراحت الأذهان من كدّ التفكير
والتأويل، وخفّفت من غلواء التصريحات الفضائية القاتلة، ويمكن أن يعدها – ذوو
البصيرة العاقلة – رسالة تقارب مع الكويتيين، يمكن تفهمها على أنها شكل من
الدعوة لتجاوز مستنقع الأحقاد، ومساهمة عاقلة لإخماد الحرائق المحتملة في
مهدها! 3 ـ ذاكرة الأمكنة الأليفة ! دعانا أحد الأصدقاء للعشاء، وفي
الطريق الطويل إلى منزله، عبرنا شارع الصفاة، وكان فندق (كارلتون) الصغيرالقابع
في تقاطع الشارع، ما زال يحتل موقعه القديم على يسار النازل من الطريق العام.
وبعد أن تجاوزناه بقليل، رأيت الحديقة التي بقيت على حالها، بسياجها الأخضر
المزهر بالأبيض، وكنت قد حفظت تفاصيل هذا السياج، من كثرة طوافي حوله بإنتظار
موعد لقائي مع أحد قادة الحزب الشيوعي في السعودية، الذي يعمل في الكويت. وفي
التاريخ المحدد وعند العاشرة صباحاً، وقفت أمام ( فاترينة ) محل بيع الساعات،
حسب الترتيب الذي أبلغني به رئيس الخلية. انتظرت بوجل المستجد حتى اقترب
مني رجل مربوع القامة حليق الذقن والشنب، ويلبس بنطالاً أسود وقميصاً أبيض،
ونطق الجزء الأول من سؤال كلمة السر،ولم يتركني أجيب عليه، بل أخذ بيدي، ومضينا
نتحدث ونحن ندور حول سياج الحديقة. وفي المساء زارني في الفندق لترتيب سفري
إلى (بازل) في سويسرا للمشاركة بإلقاء كلمة تضامنية مع نضال الشعب الفلسطيني
باسم (لجنة أنصار السلم) التابعة للحزب، وفي الصباح غادرت إلى روما، ومنها إلى
سويسرا حيث قضيت فيها خمسة أيام رائعة،تعرّفت خلالها على شاب فلسطيني و زميلته
الألمانية. وقد نشأت بيني وبين تلك الفتاة علاقة تعاطف، كدت معها أن أرافقها
إلى ميونخ بألمانيا. وفي حفلة الوداع كنت أحدثها عن ظروف المرأة في بلادنا، وعن
العمل السري المحفوف بمخاطر الإعتقال، وحين حدثتها عن إحتمال دخولي السجن بعد
عودتي، بدأت بالنحيب وتشبثت بصحبتي تلك الليلة. وفي الصباح كان وداعنا باكيا،ً
ورافقتني حتى دخلت صالة المغادرة في المطار، ووعدتها بالبحث لها عن عمل في
أرامكو، حيث أنها كانت تعمل كممرضة متخصصة في أجهزة الأشعة. عدت إلى الكويت،
وهاتفت رفيقي القيادي، وحين استقبلني، كانت علامات القلق تطغى على ملامح وجهه،
وأبلغني أنه تلقى معلومات من الرفاق تفيد بأن (المباحث) فتشت منزلي في
أرامكو. كان المنزل خالياً من السكان بعد إنفصالي عن زوجتي الأولى ـ التي ما
زلت أذكرها بكل خير ـ، وكان بيتي وباستمرار، صالة رحبة وذراعين مفتوحتين
للأصدقاء، من الحزب الشيوعي وحزب العمل الإشتراكي، ومن الوسط الأدبي، وكانت
الحوارات الساخنة والمشادات السياسية تشعل لياليه، وبالتالي ليس مستغرباً أن
يكون وقع تحت رقابة (المباحث). وقال لي (موسى) : للإحتياط الأمني وحفاظاً على
سلامتك وسلامة الرفاق، رأينا بقاءك في الكويت ريثما نتأكد من صحة هذه المعلومات
من رفاقنا لاحقاً)، و اصطحبني إلى شقة في أحد الأحياء خارج العاصمة، وكان
يقطنها قيادي آخر اسمه (سلمان)، فمكثت في ضيافته لمدة عشرين يوماً، وقد اكتشفت
في هذا الرفيق ميولاً أدبية وتذوقاً عالياً للشعر، كما بهرني بما يتمتع به من
طلاقة التعبير عن أفكاره بلغة فصحى لا تملّ الإنصات إليها . وبالرغم من كل
إمكانيات الراحة التي وفّرها لي، إلا أنني أحسست أن تلك الشقة الجميلة، مجرد
سجن صغير، حيث لم يسمح لي بالخروج منها، وقلت لنفسي بأسى : (يا مجنون، لو أنك
رحت مع البنت الألمانية إلى ميونخ، كان أبرك لك من هذا السجن مع (سلمان)، أما
موسى فلم يعتقل في عام 82م معنا، وعرفت من المحقق أنه أبن الأديب والمربي
والمستشار المعروف في الخليج وفي المملكة على السواء، كما فهمت أن موسى كان قد
تقلد منصب وكيل وزارة المالية، في زمن الوزارة الوطنية خلال عهد الملك سعود،
التي كان قطبها الرئيسي سمو الأمير طلال بن عبد العزيز، في مطلع الستينيات، و
التي ضمت عدداً من الكوادر الوطنية المتميزة، مثل عبد العزيز المعمر وعبد الله
الطريقي. وبعد أن كادت أن تضيق عليّ الدنيا في الشقة الصغيرة، أتى الفرج
بتأكيد من الأصدقاء أن الأمر مجرد نكتة أطلقها أحدهم، لكي يقلّل من السهرات
التي كانت تتم في منزلي خلال غيابي، لأنني تركت المفتاح،للاحتياط، مع واحد منهم
. عدت إلى المنزل، ولست من الحريصين الذين يعرفون مواقع الأشياء، والكتب،
والأثاث، فلم ألحظ شيئاً ذا بال، وقلت لنفسي : لعلها تجربة للتمرن على السجن،
ولكن ما دمت لم أطق العيش في شقة مزودة بكل شيء في الكويت، فكيف أحتمل السجن في
غياهب المعتقلات السعودية ؟ 4 ـ كانت السماء زرقاء...! حين تثاءب مساء
الخميس، كان جثمان فيصل الحسيني قد وصل إلى عمّان، وكنا نحاول تعويض غيابه
الفادح بتبني بعض ما كان يحمله في وجدانه، وقد ابلغنا الدكتور الشطي بأسفنا
العميق لعدم قيام أمانة المؤتمر بواجب العزاء واحترام لحظة الفقد العنيفة،
ولكنه أجابنا بلباقته المعروفة، بأن الأمانة قد أعدّت كلمة تأبين ستقرأ في
بداية الجلسة الختامية، وقد طالبناه بإرسال برقيتي عزاء باسم المؤتمر، لعائلة
الفقيد وللسلطة الفلسطينية، فوعدنا بالوفاء بالأولى وتجاوز الثانية! تشعّبت
الحوارات والاجتهادات وكان واضحاً أن مسودة البيان الختامي لم تعبّر عن الحد
الأدنى من القواسم المشتركة لمختلف المشاركين، وبدت مثل كلمات غسلت من مضمونها،
فضخّمت بعض الأمور الشكلية مثل تحريم استخدام كلمة إسرائيل واستبدالها بالكيان
الصهيوني، فيما خلت من عناصر أساسية مثل إدانة الموقف الأمريكي المنحاز
لإسرائيل ودعوة الحكومات العربية إلى الضغط عليها لاتخاذ موقف منصف من القضية
الفلسطينية. كانت النبرة الكويتية، التي تراعي الشارع الكويتي وتتحاشى
التعرض لأمريكا، واضحة البصمات على خطاب البيان، ولذا فقد قوبلت التوصيات
بتعليقات مطولة وغنية، أسهمت فيما بعد في تعديل صياغتها النهائية بشكل جذري،
وشجعت البعض من البحرين للمطالبة بزيادة أعضاء الأمانة ونقل مقر المؤتمر إلى
دولة خليجية أخرى، تتسع لمساحات التعبير عن الضمير الشعبي، في لحظته التاريخية
وفي رؤيته الإستراتيجية معاً. وقد اختارت الأمانة الدكتور توفيق القصيّر من
المملكة لعضوية أمانة المؤتمر، و رغم اعتراض البعض على أسلوب التعيين دون
استشارة إلا أن غالبية الموجودين لحظتها أمّنوا على الاختيار، وكلفوا الأستاذ
محمد سعيد الطيب والدكتور عبد الخالق عبد الحي والأستاذ نجيب الخنيزي بمهام
اللجنة الاستشارية للدكتور القصيّر،والعمل معه على الحصول على الترخيص الرسمي
من الجهات المعنية في المملكة، لإشهار لجنة أهلية تعنى بدعم الانتفاضة ومقاطعة
التطبيع مع الكيان الصهيوني. مضى عام كامل دون أن تنجز اللجنة الاستشارية
شيئاً، وعزونا ذلك إلى رئيسها الدكتور القصيّر، فقررنا الإطاحة به . وحين
التقينا في البحرين لحضور المؤتمر الثالث، كان الكثيرون يجدون حرجاً كبيراً في
تغيير الرئيس بدون مفاتحته في ذلك، ولكن تأخره عن الحضور ليلة الافتتاح شجعنا
على ممارسة حقنا الديمقراطي ـ المتواضع – لتغيير رئيس اللجنة، وانتخاب لجنة
جديدة، وحين وصل الدكتور القصيّر إلى البحرين صباح يوم المؤتمر، تحاشيت
الالتقاء به محرجاً، ولكنه فاجأني بعد الغداء بابتسامته العذبة، قائلاً : أرجو
عدم مؤاخذتي للتأخر عن حضور اجتماعكم ومبروك اختياركم للجنة الجديدة، فازددت
إعجاباً بهذه الروح الديمقراطية بعد ليل طويل من اختلافنا على ترشيح رئيس جديد
. أغلقنا كتاب الملتقى على حلم صغير برأب الصدع الذي أحدثته كارثة حرب
الخليج الثانية، والذي تجاوز احتلال الأخ لأخيه وويلات الحروب، إلى غرس بذور
الأحقاد بين الشعوب العربية، وتبقى لنا من هذا المؤتمر أمل لا نخاله مستحيلاً،
في الالتزام بدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني المعمّدة بالدم والتضحيات . وفي
الأوقات الجانبية، سعدت بلقاء عدد كبير من المدعوين، ومنهم الفنانة المصرية
الكبيرة (محسنة توفيق ) عضو لجان مقاطعة التطبيع في مصر، والتي كان حضورها
وشجاعة مداخلاتها محل التقدير والإعجاب من الجميع، كما أبهجتني رؤية الصديق
(دبّي الحربي)، الذي حضر جلسات المؤتمر الثانية، وقد بدا في كامل لياقته
الثقافية، حيث أشعل الحوار مع الكثيرين فاحتمله البعض وتهرّب منه البعض! ولعل
الظروف الحالية تسعفني بمساحة من حرية التوضيح، لإضاءة ما أعنيه بتهرّب البعض
من الحوار معه. لقد التحق (دبي) بأرامكو في نهاية عام 1980 م، فقادتنا الصدف
للعمل معاً في مجلة (قافلة الزيت) التي تصدرها أرامكو، ومن خلالي تعرف على
العديد من الأدباء ومن كوادر الحزب الشيوعي ولكنه لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك
الحزب، وقد أتانا معبأً بتجربة الشخصيات الوطنية في الكويت، وبثراء عمله في
إتحاد طلاب جامعة الكويت، وكان شغوفاً بالاسهام في حركة سياسية مماثلة في
المملكة، ولكنني، للحذر الشديد الذي كان يتبعه الحزب، أبقيته بعيداً خارج
الدائرة. وإذ أشير إلى ما أوردته في أول الكتاب عن ظروف ليلة اعتقالي، وما
بذلته من جهد لتجنب توريطه في اعتقال سياسي لا علاقة له به، فإنني قد وجدتني –
بعد خروجي من السجن ـ أشعر بالأسف الشديد لما قمت به، لأن صديقي (دبي) قد
انتابته حالة من الاكتئاب والإحباط أدخلته في جو من المشاحنات مع الأصدقاء من
مختلف المنحدرات، ولعله كان يستشعر ألما دفيناً وإحساساً بالخداع، إزاء عدم
مفاتحته في موضوع الحزب، أو الانتماء إليه، رغم مشاعره الوطنية والتقدمية
الصادقة، ولذا وجدتني بعد الإفراج عني في عام 83 م أتمنى لو أن المباحث اعتقلته
معي لكي لا يتكرّس ذلك الشعور المدمّر في أعماقه، ولكن الأمر مضى (ولا يصلح
العطار ما أفسده الدهر) . وفي فراغات الوقت التي أتاحتها جلسات المؤتمر
تسنّى له الحديث مع بعض المثقفين السعوديين – ممن لم يتهربوا منه – وأتذكر أن
أطول حديث جرى بينه وبين الدكتور توفيق القصيّر، وقد شرق الحديث وغرب حتى توقفا
أمام كلمة ماركس (الدين أفيون الشعوب) وكم أسعدني ـ وكنت ثالثهما – أن اتفقنا
على أن المقصود بذلك ليس (وصم الدين كعقيدة) بالأفيون، وإنما يحدث ذلك حينما
يستخدم الدين لتخدير الشعوب، إما بالتركيز على مظاهر الزهد والانغلاق، أو
باحتمال قسـوة الحكـام باعتبارها (جبراً)، كما سوغته فلسفة الحكم عند الأمويين
والعباسيين. سعدت بأجواء الحديث واكتشفت في الدكتور القصيّر ـ الذي لم أكن
أعرفه شخصياً من قبل – سعة في الإطلاع وسماحة آسرة وروحاً منفتحة على الحياة
والأمل . كان لا بد لي من لقاء إسماعيل فهد إسماعيل، الروائي والمسرحي
الكويتي الكبير، لكي يكتمل عقد الشوق بلقاء الأصدقاء القدامى، فحصلت على رقم
هاتفه من (دبّي). اشترطت على إسماعيل المجيء إلى الفندق لننعم بلحظات حميمة
قرب النافورة ودخان المعسّل، وكنت لم أره منذ عام 78م، لكنه حين أطل من بوابة
المكان، أحسست وكأنني رأيته ليلة البارحة.هدوءه وبياض شعره ومسحة الحزن القديم
على الوجه، ونحول الأصابع، مازالت علامات على ابتسامة تقترب من نهايات الستين
من العمر والأحلام . وينك يا إسماعيل فقال:وينك يا علي سنوات لا
تعدها الأصابع، ومخاضات ثقافية وفكرية عصفت بالعالم وبالخليج تحديداً، لا يعلم
أحدنا أين يقف الآخر منها، لكننا أدرنا حوارنا بلباقة تعمدت الابتعاد عن
الجراح، وحامت حول الكتابة و الإنتاج الإبداعي. ودعته بحنو بشبه القبض على
مشارف الغروب، ورأيتني أمتلئ بهذا اللقاء القصير بما يكفي لاحتمال نسيانه،
ولكنه يحضر في اليوم التالي في جمارك الخفجي وتحضر روايته (كانت السماء زرقاء)،
التي تعدّ، من أهم روايات نهاية الستينيات في العالم العربي. وبعد صلاة
الجمعة، أخذت، مع الأصدقاء، الطريق عائدين للوطن، محمّلين بمتعة الحوارات،
وتوصيات المؤتمر، وبكرتون كبير من الكتب . لم أكن قلقاً، كما كان يحدث في
الزمان البعيد، حيث يغدو الاقتراب من منفذ الخفجي جحيماً لا يعلم المرء إن كان
سيعبر سراطه الطويل أم سيهوي بين قبضة مفتشيه . يا لها من أيام قاسية،
تتكبّد فيها مشقة السفر لأربعمائة كيلومتر ذهاباً ومثلها إياباً، من أجل إدخال
رسالة، أو خطاب أو بيان من الحزب لا تزيد صفحاته عن الأربع، فلم يكن الفاكس قد
ظهر في سماء التقنية، ولا البريد الإلكتروني العجيب، وكانت مخاطرة تهريب بيان
كهذا كفيلة بإدخال العضو وتنظيمه إلى غياهب السجون . سافرت مرة للكويت
لإحضار تقرير اللجنة المركزية للحزب، وقد أكّد لي رئيس الخلية بأن المسئول هناك
سيضعه في مخبأ سري في السيارة، لاتصل إليه أعين المفتشين، ولكن المسئول فاجأني
بمظروف سميك، ونصحني بأن أضعه تحت الفرشة الصغيرة الواقعة تحت أقدام سائق
السيارة، ولم أكن مرتاحاً لهذا الترتيب، وبعد توديع الرفيق فتحت الظرف ووزعت
أوراقه في جيوبي، وحين وقفت أمام المفتش طلب مني النزول، وذهب مباشرة لرفع تلك
الفرشة البلاستيكية الصغيرة ! يا للمخاطرة التي مرت بسلام ! أما اليوم فإنني
أعود برفقة الأصدقاء، أتجاذب معهم سوالف الأيام الخالية، ومغامرات عبور هذا
المركز، وترتفع ضحكاتنا حتى تلامس سقف الوقوف العالي، فلا ترمش العين، و لا
تخفق الأعماق، وحين فتحت شنطة السيارة، تطلّع المفتش في عناوين الكتب، فقلت له
: هذه الأعمال الكاملة لروائي كويتي كتب سبع روايات عن أيام الغزو العراقي
للكويت، فقال لم أفهم من هذه العناوين شيئاً، وسننتظر مراقب المطبوعات ليفتينا
فيها. بقينا لمدة ساعة ننتظر المراقب ولكنه لم يصل، فقررت إهداء أعمال إسماعيل
الكاملة، والتي تنيف على ثمانية وعشرين كتاباً، لموظفي الجمارك لعلهم يتذكرون
هذا الاسم الذي ودعته بأسى شفيف ليلة البارحة. رفضوا الهدية، ووعدوني
بإرسالها على عنواني بعد فسحها، وها هي السنوات تمرّ، ولم تهدأ الانتفاضة، ولم
نصنع شيئاً لدعمها، ومازالت السماء الزرقاء محتجزة في الخفجي تتأمل قسوة
الحدود، ورتابة الرقابة التي يبدو أنها قد تبنّت شعار المؤتمر بعد تعديله ليصبح
( لا للتطبيع مع الكتاب العربي مهما كان مصدره أو كاتبه)! 5 ـ من يحمي أرض
الطفولة ؟ بقي كيس صغير ذو شكل مهمل في (شنطة السيارة) لم تقع عليه عينا
المفتش، ولم أحرص على فتحه بعد العودة من رحلة الكويت، وحين فتّشته لاحقاً،
فرحت للمصادفة واستمتعت بالغنيمة التي ضمت متفرقات لا تجتمع إلا في كيس نسيه
أحد الأصدقاء في الفندق. ثلاثة كتب لإسماعيل هي آخر ما صدر له، وديوان
سعدية الأخير، وتوصيات الوفد البحريني لمؤتمر مقاطعة التطبيع مع الكيان
الصهيوني، وكتاب جميل وأنيق يحوي نصوصاً أدبية ولوحات فنية لكتّاب وفناني
وأطفال من البحرين بعنوان (من يحمي أرض الطفولة)، أما آخر المحتويات فكان مسودة
تصور أولي وضافٍ للمرحلة السياسية والحقوقية والاجتماعية والثقافية في البحرين،
أعدها نخبة من مثقفي تيار الحركة الاجتماعية الديمقراطية . ويهمني الآن ـ بعد
ما قطعه الشعب البحريني وحكومته من خطوات على طريق الديمقراطية ـ أن أشير إلى
التطور الموضوعي في رؤية معدي الورقة، والتي تنتقل بأساليب العمل والنشاط
الفكري والسياسي من موقع العنف المضاد ورد الفعل والشعار البرّاق إلى منطقة
البناء والإسهام في معركة التطور الحضاري، حيث تقول في إحدى فقراتها( يؤمن
التجمع بحق التعددية والتنوع والاختلاف والائتلاف بين القوى السياسية في
المجتمع البحريني، وبإقامة التحالفات السياسية على أسس المصلحة الموضوعية،
والتي تجد تعبيراتها في تحقيق أهداف ومصالح الوطن والمواطن، وفي إطار الإيمان
بالشرعية الدستورية،ٍ ممثلة في (رأس الدولة سمو أمير البلاد). وفي هذا
التوصيف لطبيعة العلاقة الدستورية بين القوى السياسية في البحرين (ورأس الدولة
أمير البلاد)ما يدعو للتوقف أمامه بعمق وتأمل للفوارق الجذرية بين مخرجات القمع
ومخرجات الحرية في أي (مجال سياسي)، تتجاذب فيه قوى المجتمع صراعها حول السلطة
و شرعية القانون. ففي سنوات القمع التي مارستها الحكومة، طرحت القوى
السياسية في البحرين وسواها من دول الخليج، برنامجاً سياسياً راديكالياً يجعل
الإطاحة بالسلطة الحاكمة، والاستيلاء على مقاليد السلطة، والاستئثار بها، على
رأس أولوياتها، ولكن الأمر اختلف جذرياً حين وعت الحكومة أن استقرارها
واستمراريتها مرهونان بإقامة نظام دولة المؤسسات والقانون،التي ترتكز على
الدستور والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار. وحين نستذكر الأحداث القريبة
منذ عام 95م، فإن الحركة الشعبية العريضة التي شاركت فيها الجماهير في البحرين،
تعبيرا عن الإحباط واليأس، الذي وصل إلى أعماق المجتمع وشرائحه الواسعة، قد
تجاوزت عملياً الأطروحات الراديكالية النظرية للأحزاب السياسية، وبادرت إلى
تحقيقها بوسائل العنف، حيث عبّرت عن حركتها بشعار: (العودة إلى دستور عام 72م،
أو المضي في تبني خيار العنف). وقد تأمّل (أمير البلاد) (الجديد) معادلة
مخرجات القمع ومخرجات الحرية، وتعاطى مع ضرورات التغيير ببصيرة ثاقبة، فطرح
مبادرة الدستور والمشاركة الشعبية، ولذا عمت الفرحة أبناء الشعب الذين التفوا
حول أمير البلاد في تظاهرات عارمة، واستجابت قيادات الأحزاب السياسية إلى هذه
المبادرة الهامة، فصاغت أطروحتها الجديدة وفق متطلبات النهج الجديد، وأقرت
بحقها في العمل السياسي (في إطار الإيمان بالشرعية الدستورية ممثلة في رأس
الدولة سمو أمير البلاد). تلك تجربة حية ومثال معاش، لما ينبغي للحكومات
الخليجية الأخرى أن تأخذه بعين الاعتبار، وهي مثار تفاؤل غمر مثقفي الخليج
ببروق الأمل والأحلام المشروعة لشعوب المنطقة في أن تتبنى حكوماتها وشعوبها
وقواها السياسية، نهج الحياة الدستورية، وسيادة القانون، والمؤسسات
الديمقراطية. وأمام ما يتملّكني من فرح واغتباط، لما تحقّق على ثرى (دلمون)
من تطور، فإنني سأذهب، بابتهاج عميق، لتصفّح كتاب (من يحمي أرض الطفولة) الذي
أهداه القائمون عليه إلى (روح الشهيد محمد الدرة وكل شهداء الانتفاضة
الفلسطينية الباسلة). وقد حوى الكتاب قصائد وكتابات ورسوم وملحق كاريكاتير
متميز للفنان خالد الهاشمي، وتم إخراجه في شكل بالغ الرهافة والجمال وفي طباعة
متميزة، كما خُصص ريع بيعه لأبطال الانتفاضة. ومن قصائد الكتاب الموجهة
للأطفال يقول الشاعر علي الشرقاوي، الذي حرر معظم نصوصه الشعرية في قصيدة (بنات
الشهيد): (لا تقولوا أبوكم مضى وابتعد نحن نعرف أن البلد
كالجسد لا يعيش بدون دماء) و هكذا، لم تعد الكويت واحة وحيدة للحرية
والديمقراطية على ضفاف الخليج، بل سار على طريقها، المناخ الثقافي والسياسي
الولود في البحرين، الذي ما زال نابضاً بحسه الإنساني والوطني والقومي،
ومتمكناً من أسرار لعبته السياسية و الفكرية والفنية باقتدار. وبقدر ابتهاجي
بكتاب (من يحمي زمن الطفولة)، إلا أنني كلما تأملته تذكرت بألم وقور ما كنا
ننوي – نحن بعض المثقفين في المملكة ـ القيام به من عمل مماثل منذ بدء
الانتفاضة، وأتساءل بمرارة : هل نام مشروعنا في النسيان، أم أنه قد مضى وابتعد،
مثل كل أحلامنا الإنسانية والوطنية الأخرى التي ما زالت عصيّة وبعيدة، في هذا
البلد؟
المطالب الوطنية للإصلاح (1) الحراك الاجتماعي..........
يدوّن خطواته! عند الخامسة مساءً، دخلت صالة المسافرين في مطار جدة، متجهاً
إلى الدمام بعد أسبوع عمل طويل في البنك، وكانت الصالة كثيفة الازدحام لا تكاد
تميز فيها صوتاً أو وجهاً، ولذلك لم أسمع (رنات) الجوال الطويلة، وبعد أن وجدت
كرسياً نائياً في صالة المغادرة، تطلّعت إلى شاشة الجوال، فوجدت مكالمات عديدة
من زميلي في العمل، فأوجست خيفة أن يكون هناك أمر طارئ سيجبرني على إلغاء
سفري. اتصلت بالرقم، فجاءني الصوت مختلطاً بأصوات صخب عالٍ تتخلله رنات
سيارات الشرطة، وقال لي: هل سمعت الأخبار...؟ لقد ضربت طائرتان برجي مركز
التجارة العالمية في نيو يورك ! ويقال أن إرهابيين عرباً فجروا الطائرتين في
المركز. أصابني ذعر الضحايا بانقباض وحيرة، منعتني من التعقيب، وقال: الله
يستر ! ودعته، وركبت (باص) نقل الركاب إلى الطائرة. كان الخبر قد انتشر
بين الركاب، و بدأوا في التعليق على الحادث، وعلى وجوههم أمارات الفرح
والتشفّي، فاضطررت للحديث مع جيراني المبتهجين، وقلت ما ذنب الضحايا؟.. تخيّل
أن لك قريباً أو صديقاً في هذه الطائرات أو المركز، و أزهقت روحه في حادثة لا
دخل له فيها. بدا كلامي مستهجناً، وانطويت على خوف يلازمني من حوادث
الطائرات، وأحسست أن ما يتعرض له شخص واحد من رعب، خلال هذه العملية، كفيل
بتجريمها مهما كانت الأسباب أو المبررات، وسمعت أحد الجارين يقول لصاحبه:
الليلة لن ينام كبار مسئولي وزارة الداخلية في الرياض! وحين وصلت البيت،
وجدت الفضائيات تشتعل بالصور الفاجعة التي لا يمكن لخيال سينمائي توليفها،
واستمعت إلى تقارير عاجلة عن تسعة عشر شخصاً، منهم 15 راكباً، كانوا على متن
الطائرات الأربع، يحملون الجنسية السعودية، فاستعدت كلمات جاري عن وزارة
الداخلية، لكنني نفيت بقناعة تامة، أن يكون للعرب أو المسلمين قدرة على اختراق
الحواجز الأمنية في المطارات الأمريكية، وتنفيذ مثْل هذه العملية، بالدقة
الخرافية التي تمت بها. وبقيت على يقيني لمدة يومين، نافياً إمكانية تنفيذها
إلا بواسطة منظمات غربية، لا يخضع أفرادها للتفتيش الدقيق، ولا يقعون ضمن دائرة
الشكوك التي تحوم حول وجوه غريبة، لها (لحى طويلة) وملامح عربية من صحراء
الجزيرة، ولكن، وكما يقال، (خرجت جهنم من التفاصيل)، حيث تجمّعت المعلومات
والتحليلات و رنّة الأسماء، وتفاصيل الأدوات المستخدمة، والتدريبات على
الطيران، وقيل (أن عدداً من الانتحاريين كانوا يعملون طيارين في الخطوط
السعودية، فاستدعيت ملامح موظفي الخطوط، وعلامات موجة التدين الكاسحة التي
اصطبغت بها واجهات (الكاونترات)، و وجوه الطيارين، فأصابني الرعب من احتمال
تنفيذ عمليات مشابهة في مبنى البنك الأهلي بجدة، أو الفيصلية بالرياض، وقررت
تجميد رحلاتي العملية إلى المدينتين حتى تنجلي الصورة. ويبدو لي، أن بعض
كبار المسئولين في وزارة الداخلية السعودية، كانوا يشاركونني نفس درجات التشكك
في انتساب الانتحاريين للسعودية أو للعالم الثالث، ولكن الفرق بيننا يكمن في
إنصاتي لما تضخّه الوسائل الإعلامية، ولما تحمله الإشاعات الشعبية، من تفاصيل
تؤكد اتصال بعض الانتحاريين من الطائرات بأهلهم، مما جعلني أميل إلى التصديق،
خلال ثلاثة أيام، بصحة تلك المعلومات، بينما تمسك المسئولون في وزارة الداخلية
- بصلابة - بآرائهم، وبرفضهم لاحتمالية صحة تلك التفاصيل، لمدة طويلة! وحين
يعود المرء إلى تحليل أحداث العنف والإرهاب المتواصلة من باكستان، إلى المدمرة
(كول)، إلى السفارتين الأمريكيتين في شرق أفريقيا، ثم يربطها، بحلف الظواهري
وابن لادن من خلال (الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين) المشكّلة في
فبراير من عام 1998م، فإنه سيجد في كل ذلك دليلاْ واضحاً ومعلناً، على احتمال
انتساب حوادث 11 سبتمبر، إلى الحركات الإسلامية المتطرفة، وسوف تدلّه معرفته،
بمظاهر التشدد الديني في بلادنا، والمسيطرة على كافة مفاصل الحياة الاجتماعية
والدعوية والإعلامية، إلى أن شبابنا يمكن أن يكونوا، حطباً لذلك الوقود
الملتهب. خرج (بوش الإبن)، من تحت غبار تساقط أجزاء المركز المهيب، وأعلن
خيار (الفسطاطين) قبل أن يهتدي إلى سكّه (بن لادن) فيما بعد، وليقرر(بوش) (أن
من ليس معنا في محاربة الإرهاب فهو ضدنا)، ثم انزلق لسانه ليخرج بعض ما عبأته
به ثقافة اليمين المحافظ المهيمن على توجهات (البيت الأبيض) قائلاً: إنها حرب
صليبية جديدة. اتضحت الرسالة، وتبلور التوجه واستهدافاته، وتبعه سيل من
التحليلات والمخططات التي وجدت فرصتها سانحة للتطور، وكانت رائحة البترول
والغاز ومناطقه الإستراتيجية الممتدة من أذربيجان إلى الرميلة وإلى حقول (شيبه)
وإلى حقول عمان، تملأ الأفق، إلى جانب مصالح إسرائيل في المنطقة العربية. وكانت
بلادنا هدفاً واضحاً لا تخطئه العين، فالبترول والخطاب الديني المتشدد لم يعودا
حليفين ودودين للإستراتيجية الأمريكية، وإنما أصبحا مكامن ومحاضن لتفريخ
الإرهاب وتمويله، حسب وجهة النظر الأمريكية، ولذا فإن مخاطر استيلاء التيار
المتشدد على منابع النفط، أو تهديد المصالح الأمريكية في المملكة، بات موضوعاً
بالغ الأهمية للسياسة الأمريكية اليومية، مما حدا ببعض الدوائر الأمريكية، إلى
بدء ممارسات الضغط وإلصاق التهم بالمملكة، وما محاولة اختلاق تهمة تمويل
الإرهابيين بزوجة سفير المملكة في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، إلا الرسالة
الأولى في هذا السياق.
-
حراكٌ يدوّن خطواته !
وفي معمعة هذه التحليلات ومزامنتها لتسريب خطط تقسيم بلادنا التي
نشرتها مؤسسة (راند)وسواها، غدت أحداث (11/9) وتداعياتها، هاجساً مقلقاً
للمثقفين والمهتمين بالشأن العام، وأصبحت الوحدة الوطنية في مهب احتمالات
الخطر، فتنادى الوطنيون من مختلف منحدراتهم الفكرية والمناطقية، في المنطقة
الشرقية، للتشاور حول متطلبات اللحظة واستحقاقات المرحلة فيما يخص ثوابت الوحدة
الوطنية، وتصليب الجبهة الداخلية، إزاء ما يتهدد بلادنا من أخطار. ولأن
المنطقة الشرقية تتوفر أكثر من غيرها على خصوصية (البترول، والشارع الشيعي)،
ولأن هذا الشارع يئن تحت نير مظالم طويلة من التمييز ضد مواطنيه، في الوظيفة
والتعليم والسلك الإداري والنشاط التجاري، بل ومما يعانيه ذلك (الشارع) من
محاربة الخطاب الديني المتشدد لعقيدته، و يصل إلى تكفيره أيضاً، فقد تركزت
حوارات النخب الوطنية، من كافة التيارات، حول مركزية التمسك بثوابت الوحدة
الوطنية، والاتفاق على أن حل المشكلة الطائفية لا يتمّ إلا من خلال مشروع إصلاح
وطني يشمل كافة الشرائح والفئات والمناطق في بلادنا. وقد استشعر المثقفون
مسؤوليتهم التاريخية في تعزيز خطاب الوحدة الوطنية، والتركيز عليه في كافة
الملتقيات والديوانيات والمنابر، وتفتقت الحوارات عن رأي طرحه عبد المحسن
الخنيزي، يقترح كتابة خطاب مطلبي شامل، يتصدى لتحديد الأزمات والاختناقات
والتهديدات التي تعيشها بلادنا، يتضمن كيفية معالجتها، من خلال تعزيز دولة
المؤسسات والقانون. وقد أمًن المشاركون في الحوار على هذا الرأي، ورأوا فيه
أداة هامة لفتح باب الأمل للمواطنين ولا سيما الشارع الشيعي وتشجيع الخط
الإصلاحي في القيادة السياسية، للبدء في عملية الإصلاح السياسي الشامل. وقد
حمل بعض الحاضرين هذه الفكرة معهم، وطرحوها على طيف واسع من مثقفي وأكاديمي
المملكة المشاركين في أعمال (المؤتمر الشعبي الثالث لدول الخليج العربي لمقاومة
التطبيع مع اسرائيل) الذي انعقد في البحرين، حيث لاقى ذلك المقترح صدى جيداً
واستجابة صادقة، من جميع الذين أطلعوا على الفكرة، وكان محمد سعيد طيب، ونجيب
الخنيزي، والمرحوم سيد علي العوامي، والدكتور عبد الله الحامد من أكثر
المتحمسين لهذا الرأي. أما أنا فإن مشاعري قد تفتقت عن حماس لا حدود له،
لأنني من دعاة العمل الوطني العلني مهما كانت الفاتورة التي ينبغي دفعها، للمضي
فيه وترسيخه كنهج حانت ساعته، كما أنني شديد الاقتناع بمضامينه الداعية إلى
التمسك بثوابت الوحدة الوطنية، لا انطلاقا من همٍ ثقافي وطني أو وحدوي عروبي
وحسب، ولكن لأسباب ذاتية أخرى لا تقل أهمية، أعرفها فيما تحقق للمنطقة الجنوبية
من مكتسبات مهمة تحت سقف الوطن الواحد، ولذا مضيت في العمل في هذا النشاط بكل
طاقاتي المتواضعة، ولكن المخلصة والدءوبة أيضاً. وقبل أن ندوّن سيرة
الخطابات والبيانات المطلبية التي أعقبت أحداث سبتمبر، يجدر بنا استعادة جنين
هذا الحراك المطلبي، والذي حملت به أحداث احتلال النظام العراقي للكويت عام
90م، ونجم عنه تدفق مئات الآلاف من القوات الأمريكية إلى المملكة مع نهاية ذلك
العام. وحين غدا الوطن مهدداً من عدة جهات وبأكثر من أسلوب، فانه لا يبقى أمام
عشاق الوطن سوى تلمّس جذور المشكلات، والمبادرة إلى الإسهام بتقديم المقترحات
والحلول. وقد أتضح للجميع، بأن أبرز ما طرحته أزمة احتلال الكويت،
وتداعياتها يكمن في المرض العضال الذي أصاب الحكومات العربية التقليدية
والحديثة على السواء، والمتمثل في ديكتاتورية التفرد بالقرار كنتيجة لتغييب
المشاركة الشعبية في صناعة القرار المؤسساتي، في كل من العراق والمملكة
معاً. ونتيجة لكل تلك التداعيات والإشكالات الملازمة لبنية هذه الأنظمة،
بادر عدد من مثقفي المنطقة الغربية، ومنهم أحمد صلاح جمجوم، ومحمد سعيد طيب،
والدكتور عبدالله مناع، والدكتور محمد عبده يماني، وأحمد محمد جمال، وآخرون
معهم، إلى صياغة خطاب مفتوح إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، يطالبون فيه
بضرورة تشكيل مجلس شورى بالانتخاب، ووضع نظام للحكم يجنب البلاد مخاطر تعدد
مراكز القوى والخلافات الناجمة عنه داخل العائلة المالكة، إضافة إلى المطالبة
بالانفتاح على المذاهب الفقهية الأربعة، وفتح باب الاجتهاد للتعاطي مع مستجدات
العصر وتحدياته. كما تضمّن الخطاب، المطالبة بضمان حرية التعبير وحرية
الصحافة، ومواجهة الإشكالات المتفاقمة في المجالات الاقتصادية والتعليمية
والاجتماعية. وقد شارك في الصياغة والتوقيع على هذا الخطاب، نخبة من الكتاب
والمثقفين والشخصيات الوطنية، في كل من المنطقتين الوسطى والشرقية، مثل فهد
العريفي والدكتور إبراهيم المديميغ، وصالح الصالح، والدكتور راشد المبارك،
ومحمد العلي، وإسحاق الشيخ يعقوب،و علي الدميني، ونجيب الخنيزي وآخرون. ومنذ
الستينيات، التي اضطر خلالها الخطاب المطلبي العلني، إلى التحول إلى تنظيمات
أحزاب سياسية سرية، نتيجة للضربات القمعية التي تعرض لها الوطنيون، فإن ذلك
الخطاب المفتوح إلى خادم الحرمين، يعتبر خطوة تأسيسية وهامة على صعيد بلورة
العمل المطلبي السلمي في بلادنا، كما أنه ضمّ ولأول مرة تنوعاً في الشخصيات
الموقعة عليه تعبيراً عن تنوع ألوان الطيف الثقافي والديني والمناطقي في
المملكة،حتى وإن تم تداوله على نطاق محدود، حرصاً على وصوله إلى المقام
السامي. وضمن حرص القائمين على فكرة الخطاب بأن يكون تعبيراً رمزياً للإجماع
الوطني، فقد تم عرضه على بعض الشخصيات التي تمثل الصحوة الإسلامية في الرياض،
مثل الدكتور أحمد التويجري. لكنهم لم يتجاوبوا مع الدعوة للمشاركة في التوقيع
عليه و أبلغوا محاوريهم بأنهم سوف يعدون خطاباً يعبر عن مشروعهم الخاص بهم.
وبعد ذلك أقفل باب التوقيعات على الخطاب، وتم تحديد أسماء الوفد الذي سيقدمه
إلى خادم الحرمين، غير أن الأجهزة الرسمية (إمارات المناطق، والمباحث) استدعت
عدداً من الموقعين عليه من كل المناطق، وأبلغتهم أن الرسالة وصلت، وطلبت منهم
عدم نشره أو تقديمه إلى المقام السامي، وكنت من ضمن الذين استدعتهم مباحث
الدمام، لهذا الغرض. ويبدو أن فكرة تقديم خطاب جماعي إلى المقام السامي، قد
حفزت رموز الصحوة الإسلامية للتنادي لصياغة (مذكرة النصيحة) الشهيرة، والتي
تحلّى القائمون على إعدادها، بالشجاعة الكافية لنشرها في وسائل الإعلام
الخارجية، بعد أن تم رفض استلامها من قبل الديوان الملكي. وبالرغم من عدم
ارتياح التيار الليبرالي والإسلامي المستنير لهذه المذكرة، لأنها لم تعرض عليهم
أولاً، ثم لأن برنامجها المطلبي ينطوي، في كثير من منطلقا ته واستهدافاته، إلى
ترسيخ الأنموذج الديكتاتوري للدولة الدينية، و أنظمتها الشديدة المحافظة
والانعزال، إلا أن كل تلك الملاحظات لم تحجب وهج التعاطف مع الخطوة الجريئة،
التي أقدموا عليها بنشرها في الخارج، كما أن مشاعر التقدير والتضامن معهم قد
ارتفعت في أوساط الليبراليين، جراء ما نال بعض كوادر الصحوة من عقوبات،كالسجن
أو الإحالة على التقاعد، أو الفصل من العمل، أو المنع من السفر. أما الخطوة
الجريئة الثالثة في سياق الحراك المطلبي العلني، فقد تمثلت في إعلان تشكيل
(لجنة حقوق الإنسان الشرعية) في المملكة في مايو عام 93م، وقد ضمت قائمة
المؤسسين كلاً من الشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالله المسعري والدكتور
عبدالله الحامد والدكتور عبد الله محمد التويجري والدكتور حمد الصليفيح والشيخ
سليمان الرشودي. وقد سوّغت اللجنة مشروعية عملها باعتباره من وظائف الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن آليات المساومة والقمع طالت عدداً من
مؤسسيها وأعضائها، وتم اعتقال البعض منهم مثل الدكتور عبدالله الحامد، والدكتور
محمد المسعري، والدكتور سعد الفقيه،والشيخ سليمان الرشودي، والدكتور محسن
العواجي، والدكتور أحمد التويجري، وغيرهم، وبذلك تم القضاء على اللجنة منذ
يومها الأول. وبالرغم من أن عدداً من لجان حقوق الإنسان، المرتبطة بأنشطة
التيارات السياسية الوطنية، قد مارست عملها منذ السبعينات، إلا أن الظروف
القاسية التي كانت تعمل فيها تلك اللجان وأحزابها، قد استدعت إبقاء أسماء
أعضائها داخل المملكة سرياً. ومن أجل ذلك فإنه يمكننا أن نعتبر إعلان تشكيل
(لجنة الحقوق الشرعية) بالمملكة، واحداً من أبرز الأنشطة التي حاولت تدشين
مشروعية عمل جمعيات المجتمع المدني، كما أنها أول مشروع علني للجان حقوق
الإنسان في بلادنا. * * * و يمكن القول بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر
2001م قد خلقت مناخاً سياسيا جديداً على وجه الكرة الأرضية، و نتج عنها تطورات
واصطفا فات سياسية جديدة، تمحورت في أبعادها الآنية والمنظورة على تبلور
الأحادية القطبية - في ضوء انهيار المعسكر الاشتراكي لتفرّد الولايات المتحدة
الأمريكية بالهيمنة على العالم، وقيامها بتنفيذ بعض بنود أجندتها الاقتصادية
والسياسية والعسكرية المؤجلّة. وقد مكنّتها تلك الأحداث من استعراض مكامن
قواها، والمضي منفردةً في نقل ما أسمته بالحرب الاستباقية على الإرهاب إلى
مواقعه الأمامية في الشرق الأوسط الكبير. وفي ضوء هذه المعطيات، أصبح الوطن
العربي وثرواته البترولية، ومصائر شعوبه، وخرائط أوطانه، مسرحاً مفتوحاً
لاحتمالات تنفيذ المخططات الأمريكية الآنية والاستراتيجية، ومن ثم اتسع المجال
أمام إسرائيل لممارسة أقسى أشكال العنف والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني، كما تفردت
أمريكا باتخاذ قرار الحرب ضد العراق. أما فيما يتعلق بالمملكة، فإن رمزية
الخصوصية السعودية (الموقع الديني والموقع النفطي) قد أصبحت عرضة للمواجهة مع
الحليف التاريخي (أمريكا)، نظراً لما تنطوي عليه الحاضنة الدينية المتطرفة،
التي اختطفت العقيدة الإسلامية في بلادنا، من إمكانيات لتهديد المصالح
الأمريكية في المنطقة، لا سيما وأن بلادنا وبالذات في المنطقة الشرقية تنام على
أكبر مخزون احتياطي للبترول في العالم، ولذلك فقد بدأت بالتلويح بعد أحداث
سبتمبر بتفكيك كيان وطننا إلى دويلات صغيرة. وبأخذ هذه العوامل (التي صادفت
تدشين دخول العالم إلى الألفية الثالثة) بالاعتبار، فإن المخلصين من أبناء
الوطن، رأوا أن وحدة الكيان وتمتين جبهته الداخلية، هو المهمة المركزية لكل
المهتمين بالشأن العام، وأن المدخل الصحيح القادر على تعزيز التلاحم والالتفاف
حول القيادة السياسية، لابد أن يبدأ بالإصلاح السياسي الشامل. وانطلاقاً من
هذه القناعات فقد تبلورت حركة مطلبيه ذات طابع سلمي، رأت أن بلادنا تجابه عدداً
كبيراً من المخاطر، منها: تعدد مراكز صنع القرار السياسي، البطالة، الإرهاب،
والتهديدات الخارجية، وقد انتظمت الحركة مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية
والمناطقية، وأسهم في هذا النشاط المطلبي مثقفون ينتمون إلى التيار الإسلامي
المستنير (بتشكيلاته المذهبية السنية، والطائفية الشيعية والإسماعيلية)،
ومثقفون ينتمون إلى قطاعات واسعة من التيار الليبرالي، الذي يضم في إطاره
كتاباً وأكاديميين ورجال أعمال، وشخصيات منحدرة من تجربة الحركة الوطنية، كما
شاركت فيه فعاليات نسائية من الأكاديميات والطبيبات، والكاتبات والمهتمات
بالشأن العام، (وينتمي بعضهن إلى تجربة(نوفمبر) عام 90م، حيث شاركن في تظاهرة
شجاعة لقيادة السيارات في شوارع الرياض إعلاناً، عن مطالبتهن بتشريع ذلك الحق.
وقد تم قمعهن وفصلهن من أعمالهن ومنعهن من السفر، وبلغ الأمر إلى درجة التشهير
بهن والتشكيك في عقيدتهن الدينية). وقد انطلقت رؤية الحراك الاجتماعي
المطلبي في هذه المرحلة، من ضرورة معالجة المشكلات التالية : 1. غياب
المؤسسات الدستورية، و القانون. 2. التصدي للأزمات المعيشية المتفاقمة
للمواطنين. 3. خطورة غياب الحريات العامة ومكونات المجتمع المدني. 4.
مخاطر استمرار انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات المذهبية
والطائفية. ويمكن التوقف أمام ذلك العدد الكبير من البيانات والخطابات
السلمية التي عبرت عن آراء المهتمين بالشأن العام المرتبط بأوضاع بلادنا، وأيضا
بالشأن القومي في محيطه العربي، وسوف نقسمها بحسب مركزية موضوعاتها إلى ثلاثة
أقسام. أولاً : البيانات المساندة للقضايا العربية والقومية : حفرت
القضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، موقعها العميق في وجدان
وثقافة وضمير الشعوب العربية، وما برحت المظالم التي تعرضت لها تعمر وجدان
المواطن والمثقف من مختلف المنحدرات الثقافية والمناطق في المملكة، وقد عبّر
الشعب السعودي وفعالياته الوطنية، عن هذا الحس المتجذّر، وقامت عدة مظاهرات
تعبيرا عن ذلك الحس القومي وكان آخرها في فبراير عام 2002م، تضامناً مع انتفاضة
الشعب الفلسطيني الثانية، في كل من الظهران أمام القنصلية الأمريكية وفي صفوى
والقطيف والدمام. وقد اعتقل على أثرها عدد كبير من منظميها ومنهم الشيخ عبد
الحميد المبارك ومهنا الحبيل من الأحساء وعبدالله عبد الباقي وعاصف هاشم الحسن،
ومنير هاشم السادة وياسين مكي أسعد وآخرون من صفوى والقطيف. كما عبّرت
البيانات ذات الصلة بالتضامن القومي، عن مساندتها للشعب الفلسطيني في استمرار
انتفاضته، وفي نضاله العادل لنيل حقه في إقامة دولته المستقلة، على ثرى وطنه
وعاصمتها القدس الشريف. كما أعلنت بعض هذه البيانات عن تضامنها مع الشعب
العراقي، واستنكارها للمخططات الأمريكية الرامية إلى احتلال وطنه وإذلاله، وذلك
من خلال البيانات التالية :
أ) بيان استنكار انتهاك شارون للمسجد
الأقصى: وقد صدر هذا البيان المعبّر عن إدانة شارون والحكومة الإسرائيلية،
لانتهاك حرمات المسجد الأقصى في أكتوبر عام 2000م، ونشرته جريدة الحياة، ويمكن
اعتباره أول بيان تضامني علني يصدر عن المثقفين والوطنين السعوديين في داخل
المملكة. وقد وقعه عدد من الشخصيات الوطنية التاريخية، مثل: عبدالكريم
الجهيمان، و عبد العزيز السنيد، وإسحاق الشيخ يعقوب، وعبد الله الفاران، وصالح
الصالح،وصالح الصويان، وحمد الحمدان، ونجيب الخنيزي، و يوسف الشيخ يعقوب.
ب- بيان تضامني مع انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية : تم التوقيع على
هذا البيان في مناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الرمز الوطني الكبير المرحوم
سيد علي العوامي، الذي أمضى في المعتقلات أكثر من عشر سنوات مستمرة، لمشاركته
في الحركة الوطنية. وقد حضر المناسبة المقامة في القطيف، عدد كبير من
المثقفين والكتاب والشخصيات الوطنية، من مختلف أرجاء الوطن، ودشن البيان جماعية
التوقيع، حيث ناف عدد الموقعين على 150 شخصاً. وقد حفلت تلك المناسبة
بالكلمات التأبينية، والقصائد الشعرية المعبرة عن الدور التاريخي للمناضلين
الوطنيين، وفي طليعتهم الفقيد(أبو كامل)، وقد تزامنت تلك الاحتفالية مع مظاهرات
عمّت شوارع القطيف عصراً ومساءً، وكنت أتحرق شوقاً للمشاركة فيها، ولكنني كنت
مكبلاً بالتعهد بعدم مشاركتي في المظاهرات، الذي وقعته في مباحث الخبر، وظل
جرحاً نازفاً في قلبي لا تعرفه إلا زوجتي، التي رضخت هي الأخرى، بمرارة تفجرت
شجاراً بيننا، حين منعتها من المشاركة في تظاهرة النساء في الدمام المتضامنة مع
انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية، وأتمنى أن تكون (فوزيه) قد غفرت لي تلك
القسوة، التي فرضها علي ذلك التعهد، لأنني كنت أؤجل كسر التعهد، لقضية أكبر
تمثلت في قناعتي بانخراطي في نشاط الحراك الاجتماعي المطلبي، الذي بدأ بتوقيع
البيانات المطلبية منذ عام 90م، واستمر حتى اعتقالي الأخير في
16/3/2004م. أما المناضل الوطني (محمد سعيد طيب)فقد ارتجل كلمة مؤثرة أشاد
فيها بنضالات الراحل الكبير ودوره في الحوار حول القضايا الوطنية المعاشة، وقال
فيها ((ظننت أننا في الحجاز، نجيد الخطابة والكلام، وأنكم في الشرقية تجيدون
الحركة والنضال، ولكنني هذه الليلة، أدركت بأنكم من خلال هذا الاحتفاء بالفقيد،
وبأصوات المظاهرات في الشوارع، تجيدون الكلام والنضال معاً)) أما أنا فقد
قلت: من أين أنزع رمح الشعر يا أبتي من آخر السطر، أم من أول التعبِ؟
رحلت يا أجمل الباقين، واشتعلت جراحنا، مثل ليلٍ، ضجّ بالشهبِ وقد
ختمتها بالأبيات التالية : من أين يبدأ هذا الليل يا أبتي من صرخة القدس
أم من ساحل الذهبِ؟ من قسوة الصمت إذ نحسوا حرائقها أو فارق الوقت، بين
الجدِّ، و اللعبِِ عشرون سيفاً على الأعناق صاهلةً لكنها، يوم جاء الحق
لم تجبِ رحلت يا سيدي عنّا، فمكرمةً لن تبصر اليوم، مثلي، ذلّة
العربِ والله إنا هباءٌ لا يُرى أبداً قد سُمّلت أعين الأحياء
بالهُدُبِ فيا فلسطين عذراً، إننا جربٌ و هل يُداوى عليلُ الروح
بالجربِ فاستمسكي بالدمِ القاني وصرختهِ إن الدم الحر موعودٌ بنصر (
نبي) ج) بيان يستنكر حالة الاستخذاء العربية إزاء الانتفاضة الفلسطينية
الثانية وتم توقيعه من قبل عدد من الأدباء، والكتاب، وقد اعتقل على أثر نشره
القاص، زياد السالم، وطال الاعتقال الأديب المعروف جارالله الحميد. د) بيان
يعارض شنّ الحرب على الشعب العراقي : وقد وقعه عدد كبير من الأكاديميين
والمثقفين من مختلف أرجاء المملكة. هـ) رسالة إلى الرئيس بوش تعارض إعلانه
الحرب على العراق: وقد تضمنت الرسالة المكتوبة باللغة الإنجليزية إدانة
لانتهاكات أمريكا للأعراف والقوانين الدولية، وطالبته بعدم الإقدام على شن
الحرب على العراق. وقد وقعه عدد كبير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في
المملكة. ثانيا : خطابات وبيانات تتضمن مطالب (دعاة المجتمع المدني والإصلاح
الدستوري) بضرورة الإصلاح السياسي الشامل، وهي كالتالي : أ) (معاً.. في خندق
الشرفاء): وقد صدر هذا البيان في 6/5/2003 مركزاً على تعرية الأطماع
الأمريكية في المنطقة، وفضح خططها الاستراتيجية لاحتلال منابع النفط، ومخططاتها
الأخرى الهادفة إلى إعادة رسم خرائط المنطقة ومنها بلادنا، وقد عبّر البيان عن
رفضه لتلك الاستهدافات، وعن تمسكه بوحدة وطنه والتفافه حول قيادته السياسية،
ومطالبتها بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل. ويعدّ هذا البيان
تدشيناً مؤسساً لما تلاه من خطابات وبيانات علنية، تطالب بالإصلاح بالطرق
السلمية، حيث استفادت من تجربته، ومن العدد الكبير الذي وقع عليه، الخطابات
المطلبية اللاحقة. ب) خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) : ولدت فكرة
الخطاب ضمن سياقاتها التي أسلفت في الحديث عنها، وقد كانت الفضائيات قد اهتمت
بالحوار مع العديد من المثقفين السعوديين، ومنهم محمد سعيد طيب، والدكتور عبد
الله الحامد، من محطة الجزيرة إلى المستقلة، عن الأزمات والتهديدات التي تجابه
الوطن و ضرورة الأخذ بآليات بناء الدولة الحديثة وإشراك الشعب في صناعة القرار،
وامتد التفاؤل إلى التوقعات، بأن نرى انتخابات مجلس الشورى، خلال خمسة
أعوام. وفي مناسبة احتفائنا في الشرقية بزيارة محمد سعيد طيب وعدد من مثقفي
المملكة من الغربية والوسطى، وضع بين أيدينا مسودة خطاب (رؤية)، واقترح بأن
يكون مشروعاً مؤجلاً للوقت المناسب، و ناقشنا ما تضمنته المسودة، و أجرينا بعض
التعديلات عليها، و بقيت فكرة مختمرة تنتظر نضج الظروف. ولقد ظلت حزمة
الأفكار، جنيناً في حاضنة الديوانيات، وبؤرة حوار، تمخضت عن طرح بديل آني يمهد
تالياً، لخطاب (رؤية)، وقد رأى الأصدقاء في الشرقية والرياض أن الوقت ملائم
لرفع خطاب مطالب أساسية عامة تتركز حول الحريات العامة، وجمعيات المجتمع
المدني، وانتخابات مجلس الشورى، وشرعوا في بلورة صياغته، وبعد مداولات عديدة،
مال الغالبية إلى اعتماد الصيغة المعدلّة لخطاب (رؤية)، وتم إخراجه من قبو
الانتظار، إلى مخاض ضرورة اللحظة. وفي الرياض تمّت الموافقة على الخطاب، ثم
عرض على الدكتور الحامد، وقام بإجراء بعض التعديلات مركّزاً على ضرورة
الاختصار. وقد أخبرني محمد سعيد طيب - في لقائي معه - أنه قد استدعي من قبل
المباحث العامة في الرياض، وتم إلزامه بالتعهد بعدم المشاركة في البرامج
التلفزيونية، و إلا فإنه سيدخل السجن، فاختار أهون الشرّين. ورأيت أن نجنّبه
الإحراج مع المباحث، فاقترحت عليه أن يترك مشروع خطاب (رؤية)، لي وللدكتور عبد
المحسن هلال، وألا يوقّع عليه. وافق (أبو الشيماء) على الاقتراح على مضض،
ونسّقت مع الدكتور هلال لاعتماد الصيغة النهائية، وأرسلناها للرياض لكي يطّلع
عليها الدكتور الحامد. طال صمت الدكتور الحامد، فزرته في منزله بصحبة نجيب
الخنيزي، و فوجئنا بأنه قد أجرى بعض التعديلات على النص، رغم موافقته على
الصيغة الأولى، وعزا ذلك إلى محاولته التوفيق بين رؤية الوطنبين الليبراليين
والإسلاميين. وكان من أبرز الإضافات تفاصيل الفقرة الخاصة باستقلال
القضاء. ومن خلال معرفتي بالدكتور الحامد قبل السجن وأثنائه، تسنّى لي
متابعة اكتشاف تعلّقه باستقلال القضاء، وكنت أرى أنه مصاب ب(فوبيا القضاء)،
ولكن ما حدث بعد ذلك،خلال محاكمتنا في الرياض، مما سأفصِّل فيه في الجزء الثاني
من هذا الكتاب، سيجد الأعذار لصاحبي حيال أزمة (استقلال القضاء في
بلادنا). قرأت النسخة المعدّلة من خطاب (رؤية) مع نجيب الخنيزي، وبالرغم من
بعض النقاط المضافة أو المحذوفة، فقد رأينا أنه ملائم للتوقيع، إذا ما وقعه عدد
مناسب من الإسلاميين المستنيرين. حملنا (الخطاب) إلى الأصدقاء في الشرقية،
واعترض بعضهم على تلك التعديلات، التي من أهمها: أ- النص على اختيار مجلس
الشورى من أهل (الحلّ والعقد)، لأنه مصطلح فقهي يحصر المشاركة في رجال الدين أو
المتخصصين في العلوم الشرعية. واقترحنا إضافة (أهل الرأي والخبرة) إلى تلك
العبارة. ب- تعديل حقوق الإنسان إلى حقوق الإنسان الشرعية، وهذا يخل بمفهوم
توقيع المملكة على مواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها المملكة. ت- إلغاء كلمة
(الطائفية) من عبارة إزالة كافة أشكال التمييز..، و أصررنا على أضافتها. ث-
حصر حقوق المرأة في مصطلح الحقوق الشرعية، وذلك لا يشمل الحقوق السياسية
للمرأة، وكذلك إلغاء ما ورد في الخطاب بشأن ضرورة العمل بما تضمنته وثيقة (عدم
التمييز ضد المرأة) من قائمة المواثيق الدولية التي وقعتها حكومة
المملكة. ج- إلغاء المحاكم الخاصة وربطها بالقضاء، ومن المعروف أن القضاة لا
يمتلكون المعارف الكافية للحكم في القضايا التجارية والمالية، بل يرفضون الفصل
في المنازعات البنكية، مما حدا بالدولة للخروج من المأزق، باستحداث هذه المحاكم
الخاصة المستقلة عن هيمنة القضاة. وقد عملت كل هذه الملاحظات على تأجيل
التوقيع على الخطاب في الشرقية، مما استدعى حضور بعض الأصدقاء من الوسطى لحل
هذه المشكلة. وقد حضر اللقاء عدد كبير من المهتمين بالشأن العام، وحاولنا
اقتراح تعديلات الحد الأدنى، لا سيما وأن التوقيعات قد بدأت في الرياض. وكان
رأي محمد العلي حاسماً حين علم بالأسماء الموقعة من الغربية والوسطى، وقال :
أرى أن هذه الوثيقة تمثل مشتركات إجماع وطني وتستحق التوقيع، فوقعنا على بركة
الله بعد إضافة شرط تضمينها مقترحات الحد الأدنى. وبعد يومين اتصل بنا
الدكتور الحامد ونحن نوقع الوثيقة في القطيف، وطرح علينا رأي بعض الإسلاميين في
ضرورة استبعاد تركي الحمد من التوقيع عليها، فعرضت الأمر على المجتمعين، وكان
منهم الشيخ محمد محفوظ، فتم رفض الطلب فوراً من الجميع، لأن من يستبعد تركي
الحمد في هذه المرة، سيعمد إلى إقصاء أطراف أخرى في المرات القادمة. وعلى
الصعيد الشخصي، كان يعني لي الدكتور الحمد رمزاً ثقافياً مهماً، وبالرغم من عدم
اتفاقي مع كثير من أطروحاته السياسية، إلا أنني أحترم شجاعته النادرة في
التعبير عن رأيه و اجتراحه ملامسة المناطق الثقافية الخطرة ولا سيما ثالوث
(التابوه المحرم). وتركي لم يكن يحضر لقاءات الأصدقاء في الشرقية، الخاصة
بمناقشات الشأن العام، ولكنني كنت أطلعه بالبريد والهاتف بالخطوات المهمة،
وأستمع بانتباه لرأيه الذي بدأ متحمساً لمشروع خطاب (رؤية)، حيث أجابني حين
أطلعته بالبريد على النسخة الأولى للخطاب بالقول : إذا لم نبدأ الآن فمتى
نبدأ؟) ويوم أطلعناه على الصيغة النهائية بعد تعديلها من قبل الدكتور
الحامد، رفض التوقيع عليها، وقال : سوف تندمون في المستقبل على اعتماد هذه
الصيغة! وبعد جدال ودي طويل، وقعها مجاملة لنا! وقد أدّت نقاط الاختلاف
إلى التأخر في اعتماد النسخة النهائية، حيث احتجنا لمدة أسبوعين لإنهاء
التعارضات واستكمال التوقيعات في الشرقية. أما مثقفو المنطقة الغربية من
المهتمين بشؤون الوطن، فقد غدوا مضرب المثل في المرونة وتحقيق أعلى درجات
الانسجام بين مختلف مكونات المجتمع، وهذا ما سهّل التقاء الليبراليين وخط
التنوير الإسلامي في الغربية، على المشتركات الوطنية، وأفضى إلى وجودهم ككتلة
ثابتة ودائمة في التوقيع على كل المشاريع المطلبية، لاسيما بعد اقتناع محمد
سعيد طيب بتجاوز حرج التعهد للجهات الأمنية، فحرر نفسه منه، ووفّرت مشاركته
آلية لتسريع عملية التوقيع على (الخطاب) في الغربية. وإلى الرياض كانت وُجهة
الخطاب الأخيرة، حيث وقعها المثقفون الوطنيون وحملتها إلى الدكتور الحامد، الذي
بدا غاضباً من تأخرنا لمدة أسبوعين في إيصالها إليه، فبادرني قائلاً : يا خوي
وين أنت.. لك أسبوعين ما جيت، مدانا نودي ذي للحكومة ويسجنون مجموعة، ثم نجهّز
مجموعة ثانية للسجن)! فسألته كم توفّر لك من الموقعين من تيار التنوير
الإسلامي، فأجاب أربعة، وكان منهم الدكتور عبد العزيز الدخيل ! وفي المساء
التقينا في منزله ببعض من يتوسم فيهم الشجاعة للتوقيع على الخطاب، ومنهم
الدكتور محسن العواجي، الذي كال التهم الكبيرة للعريضة، وتوقف أمام عبارة
(والمحافظة على المكتسبات)، ساخراً، فطلبنا منه تعديل ما يشاء لتقويتها لكي
نضمن توقيعه، غير أنه في آخر الحديث اعتذر لأسباب أمنية تمنعه من التوقيع
عليها، ولا سيما وأن مشروع مجلته (الوسطية) ينام على مكتب أجهزة الأمن منذ ستة
أشهر!! لم يوقع الدكتور العواجي على الوثيقة، وبدأنا نبحث عن سبيل لإيصالها
للقيادة. و ليلتها، أبلغنا الدكتور الحامد بأنه والدكتور الفالح، قد أجريا
التعديلات الضرورية على النسخة النهائية، و زارا الشيخ عبد العزيز التويجري-
مستشار ولي العهد -، لإقناعه بإيصال النسخة إلى سمو الأمير عبد الله، فرفض،
محتجاً بالأزمة المتوقعة جراء اعتزام الولايات المتحدة غزو العراق. و أنهما
قاما ثانيةً بالاتصال بالشيخ التويجري، فلم يستجب، وأبلغاه خوفهما من تسرب
النسخ، لأنها وُزّعت على عدد كبير من الموقعين، فلم يغير رأيه. اقترح أحدنا
أن نقدمها لسمو ولي العهد في مجلسه العام يوم الثلاثاء، ولكنهما لم يرتاحا لهذا
الرأي، واقترح الدكتور الفالح، إرسالها بالبريد، وكان رأياً صائباً ومناسباً
أيضاً، فولدت فكرة إرسال الخطاب ونسخه الثلاث عشرة بالبريد الممتاز. وفي
مساء اليوم التالي، ركبت الطائرة من مطار الرياض إلى جدة، لحضور ملتقى (قطاع
خدمات الأفراد) الذي ينظمه البنك الأهلي لمسئوليه كل أربعة أشهر، وحين كنت
أتناول العشاء في فندق (الهيلتون) الفخم داهمني قلق التساؤل عن مصير الخطابات،
وتأمّل أوجه الاحتمالات، وحين أجبت على مكالمة الجوال، جاءني صوت أبو بلال
الدكتور عبد الله الحامد، ملعلعاً: لقد فرجت، حيث دعاني مدير مكتب سمو ولي
العهد، وأخبرني أن سموه اطلع على الخطاب ودعا كل الموقعين عليه للالتقاء به في
الواحدة من نهار الغد. شاركته مباهج الفرحة، وترسّخ ما كان الكثيرون يميلون
إليه، من أن ولي العهد عازم على المضي في طريق الإصلاح، وأنه رجل المرحلة بدون
جدال. كنت أعرف الكثير من خصال سموه مما يردده الناس، وتثبته المواقف، وقد
صنعت الظروف مناسبة خاصة، التقيت خلالها بسموه في عام 87م مع عدد من أصدقائي
الممنوعين من السفر، على خلفية اعتقالنا في عام 82م. وفي ثنايا حديثه المطول
لمسنا بيقين المشاهد، ما يتمتع به سموه من خصال التواضع وسعة الصدر والأفق، ما
جعلنا نستبشر به خيراً، ليس على صعيد موضوعنا وحسب، ولكن على صعيد تقديره
للمثقفين ومواقفهم السياسية، حتى التي يمكن أن نطلق عليها مواقف المعارضة. وقد
امتد حديثنا الخاص معه، في حضور الشيخ عبد العزيز التويجري، أكثر من ساعة،
واختتم حديثه بأن وعدنا ببذل جهوده للسماح لنا بنيل حقوقنا في السفر. كنا
نجلس مع سموه في صالة ملحقة ببهو ديوانه، وكان بابها الواسع مفتوحاً على الفناء
الخارجي، ولفت انتباهنا تكرار مرور بعض الأشخاص، من أمام الباب، وكأنهم يسترقون
السمع لمعرفة ما يدور بيننا وبينه من حديث. وبعد أن ودعنا سموه وخرجننا من
الصالة، أشار بعض مرافقينا إلى أن الأشخاص الذين يتنصّتون على اللقاء، ينتمون
لأجهزة المباحث والمخابرات. دهشنا لذلك، وبقيت ذكراه علامة استفهام كبيرة في
أقاصي الذاكرة، وتأكد لنا الآن، بعد اعتقال عدد من المهتمين بالشأن العام، أن
هناك تداخلات في موقع صنع القرار، وأن سمو ولي العهد لا يملك وحده إمكانية
المضي في طريق الإصلاح في ضوء تأثير تلك التعارضات، والتي من أبرزها دور صناع
القرار الأمني، الذين يساوون بين الإرهابيين المنخرطين في طريق العنف المسلح ضد
الدولة، وبين دعاة الإصلاح السياسي الذين ينتهجون الطريق السلمي
للإصلاح! ومن فندق (الهيلتون) بجدة، اتصلت بعدد من الأصدقاء في الشرقية
والغربية، وشجعتهم على حضور اللقاء، ولكنني اعتذرت شخصياً عن الحضور لضرورة
تواجدي في ملتقى البنك. والآن، وأنا اكتب هذه الكلمات،أحسّ بخسارة مضاعفة،
لغيابي عن ذلك اللقاء التاريخي، وتأمّل ما دار فيه جهة، ولتدوينه في هذا الجزء
من الجهة الأخرى،غير أن الذين حضروا اللقاء بسمو ولي العهد، مازالوا يقبضون على
تفاصيله بقوة،وعلى تسمية سموه للخطاب (بالوثيقة)، ويتمسكون جيدا،ً بما ردده على
مسامعهم من تجاوب مع مطالبهم حيث قال : (إن مشروعكم هو مشروعي)، وذلك ما عزز
تفاؤل الوطن والمواطنين بأن القيادة تحمل وعوداً صادقة، بالإصلاح السياسي
الشامل. ج) (دفاعاً عن الوطن): مضت عدة أشهر على تقديم خطاب (الرؤية) إلى
سمو ولي العهد، ولم يصدر عن القيادة أي خطوة عملية أو رمزية للتعبير عن
التزامها بالإصلاح السياسي المأمول، كما تلقت خلال هذه الفترة بلادنا، رسالة
الإرهاب الأولى، التي طالت تفجيراتها ثلاثة مجمعات سكنية شرقي الرياض.
ولذلك جرى الحوار ساخناً بين العديد من الأطراف والأطياف الثقافية والدينية
في بلادنا، حول ظاهرة الإرهاب، وأسبابها، والموقف الصائب منها. فاتفقت الآراء
على تحديد العديد من العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة، وأنها نتاج بيئة وتاريخ
وظروف محلية، وليست وليدة مؤامرة خارجية، وأن أحد أنجع الوسائل لمعالجتها يكمن
في شجاعة الاعتراف بأسبابها، والمبادرة إلى تبني برنامج الإصلاح السياسي
الجذري، القادر على الحد من تفاقم الظاهرة، والقضاء التدريجي على أسبابها
ومظاهرها، مع مضي الوقت. وفي الواقع، فإن طيفاً واسعاً من المواطنين
الموقعين على وثيقة (رؤية)، فد أحسّوا بشيء من الغبن بعد نشرها، ومرد ذلك يعود
إلى قلة عدد الموقعين عليها من تيار (التنوير) الإسلامي، رغم التنازلات الكثيرة
التي قدمها التيار الوطني من خلال الموافقة على التعديلات التي تعرضت لها
الوثيقة، وقد دفعهم ذلك إلى المبادرة لصياغة بيان يدين الإرهاب ويطالب القيادة
بالإصلاح، بلغة واضحة تعبر عن فكر وثقافة الطيف الوطني الليبرالي، دون الحاجة
إلى الدخول في مفاصلات استرضاء التيار الإسلامي التنويري، مما أشعل حدة الحوار
وأساليب التعبير عنه، وأفضى ذلك إلى اختلاف المواقف من إدانة لإرهاب، إلى ثلاثة
مواقف. أولها ينطلق من أن العوامل المولّدة للإرهاب تكمن في ثقافة الإقصاء
السائدة في حياتنا، وفي ظروف الواقع المعاش، و مع ذلك فلابد من إدانة الإرهاب،
من أي جهة كانت، والمطالبة بالإصلاح السياسي، ولا سيما وأن هذا العنف الدموي لا
يمتلك برنامجاً إصلاحياً، ولا يعبر عن حركة شعبية، وإنما يعبر عن مجموعة مسلحة
خارجة عن القانون، وتستحق الإدانة الواضحة. أما الرأي الثاني فقد رأي ضرورة
الاهتمام بالبعد الخارجي وتأثير المظالم الأمريكية في استثارة مشاعر الشعوب،
ومن ثم إدانة العنف المسلح للجماعات و العنف المضاد من الدولة. أما الفريق
الثالث ويعبّر عن الأقلية فكانت لديه أسباب مغايرة للطرفين الآنفين. وفي مثل
هذه الظروف صدر بيان (دفاعاً عن الوطن)، بعد نقاشات لم تخل من حدة، عملت على
توسيع الشقة بين بعض الأطراف، إلا أن البيان قد تميز بالعدد الكبير من الموقعين
عليه، وبالمشاركة البارزة للمرأة، وبكونه صياغة واضحة تعبر عن التيار الليبرالي
العريض، حيث تجاوز عدد الموقعين عليه ثلاثمائة أسماً. وبالرغم مما انطوى
عليه البيان الذي أُرسل بالبريد إلى القيادة السياسية -من موقف وطني شجاع، بادر
إلى إدانة العنف والإرهاب الذي تتعرض له بلادنا، إلا أن سمو الأمير سلطان بن
عبد العزيز قام باستدعاء محمد سعيد طيب والدكتور عبد العزيز الدخيل والدكتور
تركي الحمد، وطلب منهم عدم نشر البيان؟! لماذا ؟ لأنه يتعرض لأسباب ظاهرة
الإرهاب، ويطالب بالإصلاح، ولكن الاستدعاء وصل متأخراً، حيث كان البيان قد أخذ
طريقه إلى وسائل الإعلام دون علم الوفد. وهكذا يتم تضييق باب الأمل أمام
المطالب السلمية وبقفاز حريري هذه المرة ومن أعلى مستويات السلطة، وينطفئ
التفاؤل الذي خامر موقعي وثيقة (رؤية) عقب لقائهم بسمو ولي العهد. د) نداء
إلى القيادة.. نداء إلى الشعب: يعتبر هذا الخطاب واحداً من أهم أشكال تأصيل
الجانب الدستوري الوارد في وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)، حيث رأى
القائمون عليه، بأن الدستور هو حجر الزاوية الذي ينتظم قانونية الالتزام بكافة
العناوين الرئيسية الأخرى، الواردة في تلك الوثيقة. وقد خطا الخطاب، بتركيزه
على أهمية الدستور، خطوة على طريق اعتباره قضية مركزية، في سياق القضايا التي
ينبغي تأصيلها، وحشد طاقات (دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري)
حولها. وقد اشتمل الخطاب على المرتكزات الأساسية الخمسة للدستور، والمطالبة
بالملكية الدستورية. وفي الواقع، فإن موضوع الملكية الدستورية، قد كان أحد
بنود وثيقة (رؤية)، ولكن الغالبية رأت تأجيله، لعدة أسباب منها: أن هذا البند
يمنح الأسرة المالكة حقا دستورياً مطلقاً ودائماً، ولا يملك الموقعون على تلك
(الوثيقة) تخويلاً قانونياً من الشعب، ومنها أيضاً... التخوف من أن تنظر إليه
القيادة السياسية كمطلب استفزازي، كما أن المطالبة بالمؤسسات الدستورية يحمل
جوهر الملكية الدستورية، ولذا جرى استبعاده من الوثيقة. وقد ساعدت ظروف تفجر
الإرهاب في الوطن، والافتراق حول بيان (دفاعاً عن الوطن) في تعميق الاختلاف على
الصيغة النهائية لخطاب (نداء إلى القيادة... نداء إلى الشعب) فامتنع طيف واسع
من الليبراليين عن التوقيع عليه، إلا إذا تم الأخذ ببعض ملاحظاتهم. وكان من ضمن
الملاحظات : ضرورة تضمين بنود الدستور نصاً صريحاً يتعلق بضمان العمل على نشر
ثقافة التسامح، و قيم التعددية الثقافية و السياسية، واحترام حقوق الإنسان،
وإقرار الحقوق الكاملة للمرأة، ومن ضمنها حقها في المشاركة السياسية. كما تضمنت
المقترحات، التخفيف من الصبغة الدينية للخطاب الذي قد يفسّر على أنه يعبر عن
القوى الدينية المتطرفة. وحيث لم يتم الاتفاق على إجراء تلك التعديلات، فقد
مضى أصحاب المشروع الدكتور عبدالله الحامد والدكتور متروك الفالح في تجميع
التواقيع عليه، وقد نجحا- رغم الصعوبات - في حشد العدد الكافي لتقديم الخطاب،
حيث وقع عليه أكثر من 116 شخصاً. وبطبيعة الحال فإن الخطاب كغيره من
الخطابات المطلبية قد أثار استياء السلطة، وقام سمو الأمير نايف وزير الداخلية،
باستدعاء عشرين شخصاً من الموقعين على الخطاب، إلى لقاء في مبني وزارة
الداخلية. وقد عنّفهم على ما جاء في الخطاب، وانتقد المطالبة بالملكية
الدستورية بشدة. غير أن الموقعين أبدوا موقفاً متماسكاً وشجاعاً، وأوضحوا
للأمير نايف حرصهم على وحدة الوطن وسلامته وأمنه، وأن الخطابات المطلبية التي
شاركوا فيها، تعبر عن ذلك الحرص والولاء للوطن. كما أوضحوا له بأن الملكية
الدستورية المقصودة، ليست شبهاً بالأنموذج البريطاني، الذي وصلت إليه بريطانيا
خلال أربعة قرون، وإنما يشبه الملكيات الدستورية العربية، في المغرب والأردن
والبحرين. ولم يفوّت سمو الأمير نايف تلك المناسبة، دون أن يحذّرهم مرتين من
مغبًة الاستمرار في إصدار تلك البيانات أو الخطابات المطلبية، أو التحدث عن
الإصلاح في الوسائل الإعلامية. هـ) (معاً على طريق الإصلاح) اتضح
للمتابعين أن هناك اختلافاً ضمن إطار القيادة السياسية حول أهمية التجاوب مع
البيانات والخطابات المطلبية، حيث يميل طرف للتعاطي بإيجابية مع مضمون تلك
المطالب، بينما لا يملك هذا الطرف القدرة على التفرد بقرار تبنّي المطالب
الإصلاحية. أما الطرف الآخر فإنه لا يرغب في الإصلاح ولا السماح بالحديث عنه،
وعليه، فقد رأت بعض الأطياف الليبرالية، أن الحكمة تستدعي مساندة الطرف الأكثر
قبولا بالإصلاح السياسي.
-
حراك يدون خطواته !
وفي خضم عدة حوارات جرت في أكثر من مدينة، تم التوصل إلى إقرار صيغة
خطاب (معاً.. على طريق الإصلاح)، التي حافظت على توازنات الدعم والمساندة
للمبادرات الإصلاحية الرمزية، وعلى المطالبة بتفعيل ما ورد في وثيقة (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله)وما بعدها، والمطالبة بالبدء في تنفيذ بنود توصيات مؤتمر
الحوار الوطني الثاني المنعقد في مكة المكرمة، لا سيما وأن الدولة هي التي ترعى
ذلك النهج الحواري. وقد حظي الخطاب باستجابة واسعة من المواطنين للتوقيع
عليه، كما حظي بدعم ومباركة العديد من الرموز الوطنية التي شاركت في مؤتمر
الحوار. أما عدد الموقعين على ذلك الخطاب فقد ناف_ لأول مرة _عن ألف شخص،
يعبّرون عن مختلف أرجاء الوطن، وتعزر عبره حضور المرأة، بل وحضور التيار الوطني
و الليبرالي بأطيافه المتعددة. ولعل من المهم الآن، بعد أن عرضت للكثير من
نقاط الاختلاف، بين الأطراف المنخرطة في العمل المطلبي، التأكيد على أن
التباينات التي ظهرت، وسوف تظهر باستمرار، بين مختلف الفعاليات الثقافية
والدينية، حول تفاصيل المشاريع الإصلاحية المقدّمة للقيادة، تعتبر أمراً
طبيعياً، يعود إلى تباين المرجعيات الثقافية والسياسية، لكل مجموعة منهم. و
أعتقد أن التجربة أثبتت، أنه ينبغي على الجميع، تحقيق الحد الأدنى من قيم
احترام التعددية من جانب، وعلى ضرورة البناء على المشتركات الأساسية، وتفعيلها،
من الجانب الآخر، لكي يحظى تيار الإصلاح السياسي في بلادنا، بمصداقية القول
والعمل و الاستهدافات، في آنٍٍ معاً. ثالثا: مطالب حقوق الإنسان، وحقوق
المرأة و حقوق الأقليات: أسهم نشاط (دعاة المجتمع المدني والإصلاح
الدستوري)، الذي استمر على مدى عامين، في رفع سقف الحرية، وفي تحفيز القوى
الاجتماعية الفاعلة للتعبير عن مطالبها الإنسانية والمهنية والحقوقية
والطائفية، من خلال المناشط التالية : أ) حقوق الإنسان : حرص التيار
الليبرالي على تضمين موضوعة (حقوق الإنسان) في كافة الخطابات والفعاليات
المطلبية، وفي هذا الصدد تقدمت مجموعة من المهتمين بحقوق الإنسان والشأن العام،
من المحامين والمثقفين، يزيد عددهم عن 53 مواطناً ومواطنة، إلى الجهات الرسمية
بطلب الترخيص بإنشاء (اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان) وذلك في مارس
2003م، وقد أعددت مع بعض أصدقائي من المحامين والمهتمين بحقوق الإنسان، مسودة
أهداف الجمعية ونظامها الداخلي، وتابعنا تقديم الطلب ومراحل تنقّله، بين الجهات
الحكومية مع وزير العمل والشئون الاجتماعية، الدكتور علي النملة، حتى قيل لنا
أن المطاف قد انتهى بالطلب عند (المقام السامي) وليس أمامكم إلا
الانتظار. بيد أن الانتظار قد تمخّض عن إعلان موافقة الجهات الرسمية في
المملكة، بالترخيص لعمل (الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان) في المملكة، ولم تضم
تلك القائمة أحداً من مؤسسي (اللجنة) الآنفة الذكر. ولعل من سوء طالع
(الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان) المرخّص لها، أن تفشل مع أول أيام ولادتها،
حيث لم تستطع الوفاء بالحدود الدنيا للدور المناط بها حيال قضايا المعتقلين من
(دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري)، الذين أعتقلوا في 16/3/2004م. و بذلك
انكشف الغطاء عنها، كواجهة حكومية لحقوق الإنسان، هدفت الحكومة من إنشائها إلى
تضليل الرأي العام، وخداع لجان حقوق الإنسان في العالم بمصداقية واستقلالية تلك
الجمعية! ب)حقوق المرأة: تعاني المرأة في بلادنا من اضطهاد مزدوج تلعب
فيه سلطوية مفاهيم الذكورة المغلوطة، ومفاهيم العادات والتقاليد الملتبسة
بالدين أو المشرعنة خطأ باسمه، دوراً سلطوياً يكرّس استلاب كرامة المرأة
وكينونتها. وفي هذا الإطار، بادرت عدد من الأكاديميات و المثقفات والكاتبات،
في صياغة خطاب يمثل مطالب المرأة في بلادنا، وتقديمه إلى سمو ولي العهد. وقد
وقّعته أكثر من 350 امرأة، من مختلف التخصصات والمناطق، ولكنهن حرصن على عدم
نشره في حينها، إذ مضى على توقيعه أكثر من عام ونصف،(التاريخ اليوم هو
15/10/2004م). ج) حقوق الأقليات الطائفية: سعى الفكر الأحادي الإقصائي،
إلى ضرب المختلفين عنه في المذهب عقائدياً، ولم يكتف بذلك بل حاول التشكيك في
انتمائهم الوطني، استنادا على التعارض بين الانتماءات الطائفية، ولذلك فشلت
كثير من المعالجات الحكومية للمشكلة، بحكم وقوعها تحت تأثير ذلك الفكر
الإقصائي، ولو أن الحكومة رفعت الحجاب عن ضرورات المنطق، لرأت أنه يمكن القضاء
على التعارض بين الهويات الفرعية والانتماء إلى الوطن، إذا ما تم تشريع
الاعتراف بحق المنتمين إلى تلك الهويات بالوجود، لأن أهم مقومات الوحدة تكمن في
الاعتراف بالتنوع. ونتيجة لهذه الأسباب، تكرّس الشعور بالغبن والظلم لدى
أبناء الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية، وعمل ذلك على توتير الأوضاع، وتحرّك
الشارع الشيعي للمطالبة بحقوقه، في هبّات جماهيرية كثيرة، ولعل أبرزها أحداث
عام 80م،التي قتل في فصولها الدامية عدد من المواطنين في القطيف والعوامية
وصفوى وسيهات. وقد اشتعل غضب الجماهير- جراء تلك الدماء التي سالت حارة و
حانقة، على الطرقات- فرفعت شعارات المطالبة بالانفصال،حيث ردّدت الجماهير (يا
ابن سعود شيل إيدك..ترى إحنا ما نريدك).. و في الواقع فإن شعار الانفصال لم
يخف الحكومة وحدها، وإنما أثار مشاعر الشعب في كل مكان، وشغل الوطنيين من
الشارع الشيعي الذين شكّلوا الرافعة الأساسية لمعظم التيارات السياسية، بمختلف
مرجعياتها الأيديولوجية، فأصبحوا كمن يحمل وعيه الشقي على ظهره. ولذا فإن تلك
الأحداث الدامية، قد دفعت هؤلاء المثقفين الوطنيين، إلى بذل جهودهم للتركيز على
ثوابت الوحدة الوطنية، ومطالبة الحكومة بإيقاف كافة أشكال التمييز الطائفي ضد
الشيعة، والتنبيه إلى أن الاستمرار في القبول بذلك النهج الإقصائي، سوف يهدد
وحدة الوطن ومستقبل أبنائه، في كافة أرجاء البلاد. و لذلك، فقد حرصت
الشخصيات الفاعلة في تيار دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري، على إشراك
كافة مكونات المجتمع، في صياغة خطابات الإصلاح السياسي، حيث أسهمت الفاعليات
الدينية والثقافية والاجتماعية من الطائفة الشيعية بالمنطقة الشرقية،
والإسماعيلية في نجران، بنصيب وافر من الجهد البناء في صياغة المطالب، وتشجيع
المهتمين بالشأن العام للتوقيع عليها. وقد شجعت المناخات المطلبية
الإيجابية، رموز الطائفتين، إلى صياغة خطابين منفصلين يعبّران عن المظالم
الاجتماعية والسياسية التي تعرّض لها أبناء كل طائفة، ويطالبان القيادة
السياسية بتطبيق مفاهيم حقوق المواطنة والعدل والمساواة، على أبناء كل من
الطائفتين. وقد رفعت الفعاليات الشيعية في الشرقية خطاباً بعنوان (شركاء في
الوطن)، و وقّعه أكثر من 450 شخصاً، ضمت كافة الرموز والشخصيات الدينية
والثقافية والاجتماعية، من الرجال والنساء. أما الطائفة الإسماعيلية في
نجران، فقد صاغت خطاباً مطلبياً شاملاً مزوداً بالحوادث والأسماء، لتحديد مواطن
القصور والتجاوزات بحق أبناء الطائفة، ومطالباً برفع الحيف عنهم، وتمكينهم من
ممارسة حقوقهم الدينية والاجتماعية المكفولة لهم، حسب اتفاقهم مع جلالة المغفور
له الملك عبد العزيز. وقد وقّع على هذا الخطاب عدد كبير من شخصيات ومشايخ
الطائفة الإسماعيلية بنجران. في الختام : رغم كل الظروف، لا ينبغي
للمهتمين بالشأن العام أن يملّوا من طرق الأبواب أو الاستسلام لليأس والإحباط
جراء انسداد الأفق أو بسبب ممارسة أدوات القمع لبعض أدوارها البسيطة. وعليهم
الاستمرار في التعبير عن قناعاتهم الراسخة من خلال تفعيل وتحفيز مكونات المجتمع
المدني الاجتماعيه والثقافية والمهنية والسياسية، وإيصال صوت الجماهير إلى
القيادة، والتأكيد على أن المدخل الصائب والعملي للتعاطي مع كافة الاختناقات
والتحديات الخارجية ومظاهر العنف المسلح التي يعيشها الوطن والمواطنون، لا يمكن
اختزالها في تصنيع وهم الأمن والاستقرار أو بسببه، لاستخدام عصي القمع ومصادرة
الحريات، ولكن المخرج يكمن في اقتناع القيادة السياسية بالمضي في طريق الإصلاح
السياسي الشامل. وينبني هذا الطريق الذهبي على قيام دولة المؤسسات والقانون
والشفافية والمحاسبة للسلطة التنفيذية، والعمل على إيجاد الحلول الناجعة
للمعضلات الخانقة التي يعانيها
المواطنون.
-
نقاط شائكة !
المطالب الوطنية للإصلاح (2) سيرة طويلة.. وباب واحد! الإصلاح
والمنظور الأمني: تخطئ الحكومات، ومن منظور أمني بحت، حين تتعاطى بعنف مع
تجليات التعبير المطلبي السلمي، الذي تتوسل به الجماهير والنخب المثقفة للتعبير
عن آرائها. وذلك، لأن تشريع الحكومات لأجهزتها الأمنية باستخدام أدوات القمع،
تعمل من حيث تدري أو لا تدري على تشريع العنف للجماهير، بل و أنها تدفعهم إليه
حين لا يبقى أمامهم باب للأمل سواه. ولو أن هذه الحكومات وأجهزتها الأمنية
قد أمعنت النظر في رسائل المطالب السلمية لقرأت فيها ما يسكت النص عنه، ألا وهو
ما تضمره هذه الرسائل من انتماء وحب للوطن واعتراف بشرعية الحكومات ذاتها.
فالخطاب المطلبي ذو الصبغة العلنية السلمية، يستهدف إصلاح البيت من الداخل، ولا
يضمر رسالة (راديكالية) تسعى إلى إقامة نظام بديل، وإلا فإن منتجي ذلك الخطاب
سيعمدون إلى فاعلية العمل السري المنظم، لحشد المحازبين، وانتظار ساعة
المواجهة. وحين تغرق الحكومات في استخدام كافة وسائلها القمعية لإسكات صوت
المطالبة السلمية، فإنها تنشغل بالهامش الأمني المحدود عن النظر إلى البعد
الاستراتيجي، الذي يتضمنه متن الخطاب المطلبي السلمي وهوامشه على السواء. وأنها
بذلك تركن إلى وهم أو استيهام المحافظة على الأمن الاجتماعي والرضا الجماهيري
الآنيين، وتغفل عن عمد أو لقصر النظر، عن المخاطر البعيدة المدى المرافقة
لعمليات تحقيق ذلك الوهم، وتنسى أن تراكم الأزمات المعيشية، وتفشي ظواهر الفساد
والرشوة واستغلال المال العام، و مصادرة الحريات العامة و حق المشاركة الشعبية
في اتخاذ القرار، لا تجد في الزمن إلا عاملاً مساعداً على تفاقمها، بما يكفي
لسد باب الأمل، وتوتير الأوضاع، وإتاحة المجال للمشجعين على رفع وتائر العنف
والإرهاب، ودفع أصحاب المشاريع الراديكالية لنيل مشروعية العمل على تغيير
النظام ذاته. إن المطالب السلمية التي يرفعها (دعاة المجتمع المدني والإصلاح
الدستوري)، تنطلق من قراءة تحليلية لحاضر بلادنا، ومن استشراف استراتيجي
لمستقبلها، وترى أن الاستحقاقات المتراكمة على صعيد الإصلاح السياسي، والأزمات
الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، والتحديات الداخلية والخارجية التي تهدد أمن
الوطن ووحدته واستقراره، لا يمكن معالجتها بالحلول الأمنية ولا باللعب على
التأجيل، وإنما ينبغي مواجهتها بكل شفافية وشجاعة، وتستدعي القيادة السياسية
لاتخاذ المبادرة الجريئة المرتقبة في مواجهة التحديات، والبدء في عملية الإصلاح
السياسي الشامل التي تتصدى لمهام تشييد دولة القانون والمؤسسات
الدستورية. وبطبيعة الحال فإن للإصلاح كلفته، التي قد تكون مؤلمة للقيادة
والشعب، أو لأحد منهما، ولكن ضرورة البدء الفعلي بتنفيذ مطالب الإصلاح
واستحقاقاته، باتت في حكم الضرورة التي لا مناص من الدخول عبر أبوابها، للتعاطي
مع كل هذا التراكم المعقّد من الأزمات، والذي ينذر إن تباطأنا في مواجهة
متطلباته بأعنف العواقب وأفدح التبعات. * * * بلادنا... والخصوصية: لا
تشهد بلادنا وحدها حراكاً اجتماعياً مطلبياً، ولكنه أصبح يشكل ظاهرة تسم مرحلة
ما بعد انتهاء توازن القطبين، بيد أنها تأخذ أهميتها بالنسبة لبلادنا كنتيجة
(لخصوصية) هبة الثروة النفطية ورمزية القداسة الدينية. وإذا كنا سئمنا إفراغ
مصطلح الخصوصية من محتواه حين يتم توظيفه كذريعة لتكريس بقاء الأوضاع كما هي
عليه، فإننا هنا سننظر إلى الخصوصية من زاوية مغايرة، لتوضيح أنه، وبسبب هذه
الخصوصية المعمّرة ومن أجلها أيضاً، نحتاج لإجراء عمليات جراحية أشد إيلاماً من
غيرنا من الدول العربية، التي وضعت (الخصوصية) كمرادف للقمع بحجة (أن لا صوت
يعلو فوق صوت المعركة). وقد نجح النظامان العربيان صاحبا المشروع السياسي
الحداثي والمحافظ على السواء- في توظيف هذين الصنمين لسنوات طويلة، تم تبديد
الثروة النفطية والقومية خلالها بدون طائل، فيما تم تكريس مشروعية حرمان الشعوب
من ممارسة حقوقها في الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية البشرية. وقد
اكتشفنا معاً حكاماً وشعوباً - بعد سنوات الخديعة والقمع وتبديد الثروة، أن كلا
الوجهين (المحافظ و الحداثي) قد فشل في تطبيق مفهوم (خصوصيته)
وشعاراتها. وحيث أن الحديث هنا يخص بلادنا وحسب، فإننا نرى أن هذه الخصوصية
الدينية قد قامت على العديد من المكونات ذات الطابع المحافظ، والتي تشكّلت من
تحالف الديني المتشدّد مع السياسي الطامح إلى بناء دولة قوية، تحت راية دينية،
تعينه على القيام بمهام توحيد البلاد. وقد لعبت البيئة الصحراوية القاسية
والمعزولة دورها الهام في تبني المتحالفين (الديني والسياسي) لقراءة فقهية
متشددة للدين، وللأنظمة القيمية المرافقة لعادات وتقاليد البيئات المحافظة،
لتقوم بفرضها على بقية أرجاء الدولة، التي كانت تتميز بتعدد مذاهبها الفقهية،
وبتنوع مكوناتها الاجتماعية والثقافية، وانفتاحها وتعايشها مع الآخر، مثل مناطق
الحجاز، والأحساء، والقطيف، وجازان. * * * توظيف القراءة المتشدّدة
للدين: وإذا كانت الظروف الموضوعية، قد استدعت توظيف قراءة وحيدة متشددة
للدين(في شقيه العقدي والفقهي)، لتوحيد القبائل والحواضر المختلفة، حول رؤية
وحيدة، ترى فيما عداها خروجاً عن الملّة، فإنه كان من الصائب بعد استكمال بناء
الدولة، العمل على الخروج من (أسر) أحادية الخطاب المذهبي المتشدد، ومن ربقة
النظام القيمي الاجتماعي المحافظ، إلى سعة تعددية المذاهب، والطوائف الدينية،
والنظم الاجتماعية والثقافية المتنوعة. إلا أنه، وباسم هذه (الخصوصية) تم
القضاء التدريجي على ذلك التعدد والتنوع المذهبي والثقافي والاجتماعي والمدني،
و تم تعطيل ما ورثته الحواضر المدنية في الحجاز، من مؤسسات سياسية ونقابية، وتم
تغييب كافة مكونات المجتمع عن المشاركة في التنمية السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وباسم هذه (الخصوصية) المبنية على أسلمة السياسة والاجتماع، جرى
تكريس الطابع المحافظ والمتشدد والإقصائي لمذهب فقهي وحيد بصيغته المتمترسة خلف
(باب سد الذرائع)، دون الأخذ بتأثير عوامل الزمان والمكان، التي كان الفقهاء
المؤسسون للمذاهب المختلفة يأخذون بها. وبالرغم من الحاجة التاريخية لقائد
المشروع السياسي، الذي أنجز مفخرة الوحدة الوطنية لبلادنا، إلى عقيدة دينية
تسند طموحه في إقامة الدولة، إلا أن طابع ديكتاتورية الأيدولوجيا المذهبية،الذي
أحتكر الحقيقة والتأويل الديني، وأقصى ما عداه، قد أسهم بشكل رئيسي في تنامي
مشاعر الغبن لدى شرائح مذهبية / فقهية وطائفية واجتماعية عديدة، وعمل على عرقلة
تبلور الحس الوطني ومشاعر الانتماء العميقة للوطن. ولكن الأخطر من ذلك يتمثل في
نتائج تبني السلطة السياسية لهذا التيار المتشدد ورعايتها له، وإفساح المجال
أمامه لاحتكار منابر الخطابة والإعلام والمناهج وصياغة المحتوى الاجتماعي
والثقافي والأيدلوجي لعقول أبناء الوطن خلال رحلته الطويلة، بل ومساندتها له في
حربه القاسية ضد كافة المذاهب الفقهية والطائفية، والثقافية الأخرى. وقد نجم
عن ذلك ما تشهده بلادنا اليوم من نتائج ما زرعناه طوال العقود الماضية، من
تديين قسري لكافة مظاهر الحياة، ولنجني ثمرات التكفير والتبديع والتطرف
والإرهاب الذي عمّ الوطن من أدناه إلى أقصاه. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا
قلنا بأن بلادنا في غياب الاستراتيجية السياسية المتوازنة لم تنجح في توظيف أهم
مقومين من مقوماتها، وهما: الثروة النفطية، والموقع الديني. ويمكن القول بأنها
قد أسرفت في توظيف الدين داخلياً وخارجياً، للتغطية على كافة الاختلافات
البنيوية، التي نجم عنها العديد من الأزمات التي تعيشها بلادنا، ومنها العجز عن
الاستفادة من الثروات النفطية الهائلة لوضع أسس التنمية البشرية والاقتصادية
المستدامة. أما في جانب التوظيف الديني والموقع المقدس، فلم تستطع قراءة
المعنى الواقعي والرمزي، لكون بلادنا مهبطا للوحي وأرضا للحرمين الشريفين، ولم
تلاحظ دلالة ما تنطوي عليه مظاهر وفود حجاج بيت الله الحرام ومعتمريه وزواره،
من تعدد وتنوع واختلاف مذهبي وطائفي، لا يمكن التعبير عنه إلا باحترام مكونات
ذلك التعدد، وتعميق الإفادة منه في مختلف مجالات الحياة، وتعميمه، للتدليل على
تسامح (الخصوصية) وليس على انغلاقها الذي عمل على الاستسلام لكوارث رؤية مذهبية
أحادية ومتطرفة. * * * توقيت المبادرات : لا ينبغي النظر إلى توقيت
مبادرات الخطابات والبيانات المطلبية إلى القيادة السياسية، على أنه ضرب من
انتهازية نخبوية تستغل الظروف والتحديات الداخلية أو الخارجية، التي تواجهها
البلاد أو تجابهها القيادة، وإنما يجب أن تتم قراءتها ضمن شروطها المتشابكة،
التي تطال بتأثيراتها وحدة الوطن واستقلاله وسيادة قراره وحاضره ومستقبله،
والتي ينبغي أن تشارك فيها كل الخبرات المتراكمة للفعاليات السياسية والثقافية
المختلفة. وضمن هذه القراءة كان ينظر المهتمون بالشأن العام، من المثقفين،
والأكاديميين والكتاب والشخصيات الوطنية من الرجال والنساء، إلى اعتبار تلك
التحديات المتشعبة مخاطر لا تستهدف القيادة السياسية وحدها، وإنما تمسّ الوطن
والمواطنين بنفس الدرجة، لأن ما سيتولد من رحم تلك اللحظات المفصلية من خيارات
قسرية، سينال من الجميع، وسيفرض عليهم تقاسم نتائجة المرة على حد سواء. وقد
تميّز مثقفو الحجاز المتحدرين من بيئات مدينية ذات إرث ثقافي وسياسي عريق
بتقديم مبادراتهم الهامة في اللحظات العصيبة، حيث يحفظ لهم التاريخ مبادرتهم
التي قام بها أحرار الحجاز وأعضاء الحزب الدستوري في العهد الهاشمي، حين تقدموا
خلال زحف جيش الملك عبدا لعزيز على مكة المكرمة بمطالبة الملك حسين بالتنازل عن
العرش لابنه علي، شريطة إقامة نظام ملكي دستوري، مقيّد بدستور ومجلس نيابي
منتخب من المواطنين يشرف على شؤون البلاد الداخلية والخارجية، ومن مجلس آخر
لعموم المسلمين. كما أنهم بادروا، في بداية حكم الملك عبدا لعزيز للحجاز،
وعقب القضاء على حركة(الشريف) ابن رفادة، إلى الإعلان عن تأكيد التفافهم حول
الكيان الجديد، وأبرقوا للملك عبدا لعزيز بذلك، مقترحين تسمية هذا الكيان باسم
(المملكة العربية السعودية). وقد استجاب لهم جلالته وأطلق التسمية المقترحة
إيذاناً بتوحيد البلاد ورفع راية الوطن الكبير بتاريخ 21 جمادى الأولى 1351هـ
الموافق 1932م. وقد استمر مثقفو الحجاز، عبر صحفهم وكتاباتهم، في بث الوعي
واستنهاض همم الأمة، والمطالبة بتطوير مؤسسات الدولة التعليمية والصحية
والإدارية. وحين يتسع فضاء الحرية، فإن أساليب المطالبة السلمية الساعية إلى
استكمال مقومات النهضة، تتبلور عبر برامج إصلاحية تساند عمل الأجهزة الحكومية
وتغني مساراتها. و نتيجة لتلك الانفراجات النسبية، فقد امتدت نسمات حرية
التعبير من جدة ومكة إلى الرياض والقصيمٍ، وإلى الدمام والخبر، وانتشرت الصحافة
(في عهد الأفراد)، وانبرت الأقلام النيرة، أفراداً وجماعات في لعب دور السلطة
الرابعة. ومن أبرز ما حفلت به مطالبات فترة الخمسينيات والستينيات
الميلادية، التوسع في نشر التعليم، والمطالبة بتعليم المرأة، ورفع حصة الدولة
من دخل البترول الذي احتكرته الشركات الأمريكية، وإغلاق القواعد العسكرية
الأمريكية، وبناء جيش وطني قوي قادر على حماية البلاد، وتحسين أوضاع العمال
السعوديين العاملين في أرامكو بعد سلسلة الإضرابات التي نفذوها، وإتاحة المجال
لهم للتدريب والتطوير. ولعل من أبرز ثمرات تلك المطالب العمالية التي ضربتها
الحكومة بشدّة -ما نراه اليوم، من تحقيق أفضل نماذج التدريب و السعودة في
بلادنا، حيث تدار اكبر إمبراطورية لإنتاج النفط في العالم (أرامكو السعودية)،
بأيادي أبناء الوطن، من أعلى كرسي إداري وفني إلى أقل وظيفة. كما أن مفاعيل
تلك المطالبات العلنية والسلمية،هيأت المناخ الملائم لتبلور أول مشروع جذري
للإصلاح السياسي في المملكة، يقوم على وضع دستور دائم للبلاد يتضمن المشاركة
الشعبية في اتخاذ القرار، وكذلك بحث إمكانية الاستغناء عن القواعد العسكرية
الأمريكية في بلادنا. وقد اختمرت الظروف المناسبة لتنفيذ ذلك المشروع، في فترة
تولي الوزارة الوطنية لمهامها، بقيادة قطبها الفاعل الأمير طلال بن عبدالعزيز،
وفي عهد الملك سعود، في أوائل الستينيات، ولكن الصراعات داخل العائلة المالكة،
قضت على ذلك الحلم في مهده. * * * سياسة الباب الواحد: تلك هي
نتاجات الحرية، أما ثمرات القمع فقد عبرت عنها، ما اتخذته الحكومة من إجراءات
لاعتقال المثقفين الوطنيين، و قيادات الحركة العمالية، و لجنة الإصلاح الوطني،
ودعاة تعليم المرأة. واضطرت شخصيات الحراك المطلبي السلمي، أمام انسداد
الأفق، إلى الانتقال إلى العمل السري، كما خسرت البلاد جهود كوكبة إصلاحية
مستنيرة من أبناء الأسرة المالكة، الذين دفعهم اليأس من إصلاح الأوضاع إلى
مغادرة المملكة إلى القاهرة وبيروت، حيث عرفوا بعد ذلك باسم (حركة الأمراء
الأحرار)،وكان على رأسهم الأمير طلال بن عبدا لعزيز. ومع الأسف، فإن طبيعة
هذه السيرة السريعة للمطالب الإصلاحية، وغياب المصادر والشخصيات عني خلال
كتابتها، لن تسمح لنا بالتوسع في التطرق إلى دور الحركات الوطنية السرية، وما
قدمته من تضحيات، وما تبنته من مواقف وأسهمت به من تحليلات وقراءات نقدية
لمظاهر التخلف، وما طرحته من برامج شاملة تمس الجوانب السياسية، والاقتصادية،
والثقافية، والاجتماعية في بلادنا. بيد أن القمع باب الحكومة الوحيد قد
طالها باستمرار، وغيّب المئات من كوادرها في المعتقلات والمنافي، كما أعاق
تبلورها كحركة جماهيرية واسعة تسهم في التطور الثقافي والاجتماعي، وتشكيل حواضن
القوى الحديثة، القادرة على الخروج من تقوقع البنى التقليدية، إلى غنى مكونات
المجتمع المدني، كما حرم البلاد من ثمرات خبرات و إخلاص كوادرها
الفاعلة.
-
إدعاء !
الإدعاء العام (لائحة دعوى عامة) المملكة العربية السعودية
هيئة التحقيق والادعاء العام بسم الله الرحمن الرحيم
لائحة دعوى
عامة الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد فبصفتي مدعيا
عاما في هيئة التحقيق والادعاء العام أدعي على كل من : 1 - عبدا لله بن
حامد بن علي الحامد ، السعودي الجنسية بموجب بطاقة الأحوال المدنية (
1009462522 ) 2 - متروك بن هايس بن خليف الفالح ، السعودي الجنسية بموجب
بطاقة الأحوال المدينة (1030460776) 3 - علي بن غرم الله بن أحمد الدميني
الغامدي ، السعودي الجنسية بموجب بطاقة الأحوال المدنية (10213098422)
الموقوفين بتوقيف المباحث بتاريخ 25/ 1 /1425 هـ لقيامهم بتبني بين
الحين والأخر إصدار بيانات وعرائض والسعي بطريقة أو بأخرى إلى الحصول على
تواقيع أكبر عدد من المواطنين والحث على تبنيها والمطالبة بها حتى أصبح هذا
التوجه أشبه ما يكون بمضمار يتنافس فيه هؤلاء وكأنهم أوصياء على المواطنين وهم
فئة قليلة وأصبحت هذه العرائض تشكل ظاهرة مسيئة للأمة والشعب والدولة وجعلت
المملكة عرضة بين الحين والأخر لوسائل الأعلام ولتشبيهات لا تليق بوعي هذا
البلد وأهله ، وقيامهم بعقد اجتماعات ومنتديات وإصدار وثائق لاجتماعاتهم ، ومن
ذلك الاجتماع الذي عقد مؤخرا في فندق الفهد كراون بمدينة الرياض في 5/1/1425 ،
وعزمهم على عقد اجتماع لاحق في 8/4 - 2004 م ، للحوار فيما بينهم وتهيئة الحلول
لأنفسهم في التأثير على حكومة هذه البلاد وحملها على تحقيق مطالب وأهداف ومصالح
قاموا بتحديدها مسبقا ويزعمون بأنها من الإصلاح ومحاولة ألزام ولي الأمر بها
وحث الناس على ذلك تتضمن في مجملها تهميش دور ولي أمر هذه البلاد والاعتراض على
ما نص عليه النظام الأساسي للحكم في المادة (44) ( من أن الملك هو مرجع سلطات
الدولة الثلاث التنفيذية والتنظيمية والقضايئة )ويعتبرون هذا النص تدخلا في
استقلالية القضاء والاعتراض على المبدأ الشرعي في أن ولي الأمر هو القاضي الأصل
وأن القضاة هم وكلاء عنه والادعاء بأن الأزمات والقمع التي مرت بها العصور
الإسلامية لم تتح للعلماء آنذاك لتقرير مبدأ يخالف هذا التوجه الشرعي في أن
منبع الولاية هو ولي الأمر ومدى قولهم بهذا نزع يد الطاعة. وقد ساهم المعنيون
في إصدار بيانات وطرحها للتداول للرأي العام الدولي والمحلي ورفعها لولي الأمر
رغم ما تحويه من تشكيك في نهج الدولة وتضليل وإثارة الفتنة وتجاهل لولي الأمر
في أمور تتعلق بمسائل عامة ومصالح كبرى للأمة استغلالا منهم للضر وف الدولية
والداخلية الخطيرة والحساسة واتصال الأول والثالث بوسائل الأعلام الخارجي
والتحدث أليها باعتبارهما من زعماء الإصلاح السياسي وزعمهم بأن بلدنا تفتقر
الإقرار بحقوق المواطنين الأساسية ، وتضمن حديثيهما الطعن والتشكيك بنظام الحكم
ونزاهة القضاء ومؤسسات الدولة ، ويشيرون في تلك البيانات بما مؤداه وجوب النهوض
لتحقيق هذه الأهداف واتخاذها كوسائل للضغط على ولي الأمر لتحقيق ما يسعون له ،
كما تضمنت تبرير العنف والإرهاب من أجل غايتهم ، ويظهر ذلك جليا فيما يزعمه
المدعى عليهما الأول والثاني بأن الثقافة السعودية على حالين أما الصمت المطبق
أو العنف المنفلت والاستدلال بأن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كان فيها خمسة عشر
سعوديا من أصل تسعة عشر ، وقولهما في بيان أسماه ( دعوة الإصلاح الدستوري
السعودية ) سداد المعد من الأول والثاني : بأنه لن يأبه كثير من الناس بمشروع
الإصلاح مالم توجد أزمة اجتماعية أو سياسية أو قومية ... إلى غير ذلك مما ورد
في تلك البيانات والعرائض المرفقة ، ويدعون إلى المطالبة بالإصلاح المزعوم وحث
غيرهم من أطياف واتجاهات مختلفة عبر المنابر والمجالس والمساجد والجوامع
والنوادي لدعم هذه العرائض وجمع تواقيع المشاركين وإعلانها عبر الوسائل المتاحة
ليكون النداء عريضة شعبية مما يدل على أن الغاية ليست الإصلاح بل التأثير على
الرأي العام لدعم هذا التوجه ، كما أنه من لازم تحركاتهم وبياناتهم أن ما تقوم
عليه بلادنا من مبادئ شرعية ونظامية غير صالحة وأن هذه المبادئ لاتصلح لقيام
دولة حديثة وهم بذلك يشابهون التكفيريين من جانب أخر في التطرف والسعي في زعزعة
الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية . وباستجوابهم كان مما أفاد به المدعي
عليه الأول قيامة بالمشاركة في أعداد وتبني إصدار بيانات وعرائض وقيامة بالسعي
لجمع تواقيع عدد من المواطنين عليها وأن فكرة أعداد خطاب ( رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله ... ) بدأت أثناء لقاء في مملكة البحرين حيث جرى نقاش بين عدد من
الأطياف الثقافية منها أسلامية وليبرالية وعلمانية واتفق بينهم على أسسه وشارك
هو في أعداده ثم قام بعد ذلك بأعداد البيان المسمى ( نداء إلى القيادة والشعب
معا ) حيث أسند له ذلك من قبل زملائه ، وهذا البيان توسيع لما ورد من أفكار في
خطاب ( رؤية ) وقام رفق زملائه بجمع التواقيع عليه كلا من طرفه وقيامه بعد ذلك
رفق الثاني بمراجعة عدد من التواقيع كما تضمنت أقواله ما يفيد اعتراضه على ما
تضمنه النظام الأساسي في الحكم في المادة (44) بأن الملك هو مرجع القضاء وقوله
بأن هذه الفقرة تجسيدا لاتجاه فكري قديم يرى أن الحاكم القاضي الأصل وأن القضاة
ليسوا إلا وكلاء وأنه أدرى بالمصلحة وأنه الحكم عند التنازع ومطالبته بفصل
القضاء عن سلطة ولي الأمر وادعائه بأن الفقهاء القدماء في ظل الاستبداد القديم
لم يتمكنوا من بناء منظومة دستورية متكاملة تحدد مركز ولي الأمر ، كما أفاد
بمشاركته في الدعوة والأعداد للاجتماع الذي تم في فندق الفهد كراون وأن إيصال
الدعوة قد كتب باسمه وأنه تم هذا الاجتماع مناقشة أمور عامة تتعلق بالإصلاح في
البلاد ، كما زعم بأن غياب المجتمع المدني هو الذي أدي إلى الصراعات الدموية ،
وأن عدم الأخذ بما يطالب به ورفاقه من إصلاح مزعوم قد يؤدي إلى الفتن أو الفوضى
أو الحروب الأهلية ، كما أقر بأجراء مداخلة مع قناة أل بي سي بتاريخ 9- 10/
1/1425 وقد تضمنت هذه المداخلة إعلانه الرفض لأي إصلاح تقوم به حكومة هذه
البلاد بما في ذلك قيام الدولة بإقامة هياكل التجمع المدني الأهلي على نطاق
تدريجي والتوجه إلى المشاركه الشعبية بالانتخابات في المجالس البلدية ومن ثم
مجلس الشورى وهذا يدل على أن الغاية التي يسعى لها المتهمون المذكورون ليس ألا
مناهضة ولي الأمر ويتضح ذلك بجلاء خلال هذه المداخلة والتي سعى فيها المتهم
الأول إلى إثبات هذا المقصد علنا عند مشاركته في البرنامج الحواري وموضعه مسيرة
الإصلاح في المملكة العربية السعودية حيث أخرج المذكور الحوار عن موضوعه
الأساسي فبدأ حديثه بالتشكيك بالخطوات الإصلاحية القائمة اليوم في هذه البلاد
لإثارة الناس ضد ولي الأمر وحاملا عبر حديثه مضامين باطلة في دعوة الناس لتأييد
الأحداث الإرهابية كأداة من أدوات الإصلاح ذلك لأن الإصلاح –بحسب زعمه ورأيه
المستشف من عباراته وأسلوب حديثه - الذي تقوم به الدولة ليس هو الإصلاح
المرتضى لديه فبدأ حديثه مشككا في كلمة الإصلاح التي تستخدم لتصحيح أوضاع
نظامية من قبل الدولة وركز – من خلال عباراته – إلى أن المراد لديه من الإصلاح
بما مؤداه نزع يد الطاعة وقد أورد هذا المضمون مغلفا بمصطلحات سياسية غريبة
كقوله بتطوير آلية الحكم إلى ملكية دستورية ، ثم يربط في حديثه بين مشكلة الفقر
ونظام الحكم الشرعي في هذه البلاد ممهدا في ذلك لفكرته غير الشرعية في ضرورة
نزع يد الطاعة من أجل الإصلاح ، ويشير المتهم الأول خلال حديثه أيضا أن التفاهم
مع الحكومة وصل إلى خط مسدود طالما أن الملك هو المرجع للسلطات الثلاثة وأن
الحكم في هذه البلاد لن يكون ملكية دستورية ، وكان خلال حديثه لا يألو جهدا في
تأليب وإثارة الناس ضد توجهات ولي الأمر الإصلاحية فيرفض الإصلاح في مجال
التعليم لمجرد أن الحكومة من وضع الخبراء مطالبا بأن يكون الإصلاح للأمة ،
بعبارة عامة تدل على عدم الرضا على توجهات الدولة الإصلاحية ومحاولة السعي في
إثارة الرأي العام بتأييد العمليات الإرهابية كخطوة تمهيدية للإصلاح حسب زعمه
. وكان مما أفاد به المدعي عليه الثاني إقراره بالاشتراك مع المدعي عليه
الأول في التوقيع على بياني ( رؤية لحاضر .. ونداء للقادة ) وأنه قد تم توقيع
بعض الأشخاص بناء على مشورته وقيامه بمشاركة المدعي عليه الأول وآخرين ومراجعة
التواقيع التي جمعت من مدينة الرياض وأنه أحد الداعين للاجتماع الذي عقد في
فندق الفهد كراون للاجتماع والتباحث في أمور الإصلاح العامة وقد تضمنت أقواله
ما يفيد تبنيه لما ورد في البيانين المشار لهما والذي قام بالتوقيع عليهما وبما
يطالب به رفاقه ومما أفاد به المدعي عليه الثالث قيامه بكتابة عدد من الخطابات
والبيانات بعضها بنفسه ويعضها بمشاركة آخرين منهم المدعى عليه الأول والتوقيع
عليها وجمع التواقيع عليها من المواطنين ونشر بعض منها في وسائل الأعلام فقد
قام بالمشاركة في أعداد خطاب رؤية وجمع التواقيع عليه بمشاركة المدعي عليه
الأول وكذلك قيامه هو بإعداد البيان المسمى ( دفاعا عن الوطن ) والبيان المسمى
( معا في خندق الشرفاء ) وساهم مع آخرين في جدة والرياض والدمام وجمع التواقيع
عليهما كما قام بالمداخلة في منتدى الساحل الشرقي – واحة سيهات بتاريخ
2/11/2003 و 6//11//2003 م والأتصال بالإذاعة الفرنسية وإذاعة مونت كارلو وقد
تضمنت هذه العرائض والبيانات ومع المداخلة عبر الانترنت والمحادثة الهاتفية
للإذاعة المذكورة وأقواله أثناء التحقيق بما مجمله أن من أهم أسباب انتشار
العنف في المملكة هو احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة ونفي ما عداه
من مذاهب وطوائف أدى إلى تغلغل هذا التيار في كافة مفاصل النظم التعليمية
والتربوية والاجتماعية والسياسية وأنه تم استقطاب الشباب وتجنيدهم ضمن رؤية
أيدلوجية تكفر المجتمع وأن مجتمعنا أصبح مجتمع الرأي الواحد المغلق بالإضافة
إلى عوامل معيشية تتمثل في أزمات صحية وإسكانية وتعليمية والفقر والبطالة ، كما
تضمنت التشكيك في نهج الدولة والطعن في كيانها القائم على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وتبرير العنف والإرهاب واستغلال العمليات الإرهابية للنيل
من نهج البلاد والطعن في مرتكزاتها الدينية ، وزعمه أن نهج الدولة وسياستها
ساعدا في نشأة الفكر الإرهابي والتكفيري وزعمه بأن هذه الآراء والمطالب التي
يطالب ورفاقه بها تعبر عن تطلعات مختلف فئات الشعب السعودي – رغم أنهم فئة
قليلة – وتعرضه وطعنه بأنظمة الدولة الاقتصادية والسياسية والثقافية والسعي إلى
إثارة الفتن وبث بذور الخلاف بين أبناء الشعب وإثارة التحزب المذهبي والطائفي
واتهامه أن مؤسسات الدولة هي المنتج للقائمين بقيادة تفجيرات الحادي عشر من
سبتمبر الى جروزني إلى قلب الرياض وأنهم نتاج مناهجها وبرامجها الثقافية
العتيدة والجديدة وأن هذه المؤسسات لا تستجيب – على حد زعمه – لضرورة التغيير
وحثه على استغلال المرحلة الدولية الحالية والمعارضة المطلبية في الخارج في
الضغط على الحكومة للتغيير – بما يخدم مصالحهم – وكذلك الحث عل استغلال السياسة
الأمريكية الحالية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في المنطقة والتي ترفع
شعارات مكافحة الإرهاب والخطر الإسلامي والدفاع عن حقوق الإنسان والجماعات
الاثنية والدينية وحقوق المرأة حيث يمكن – على حد قوله – أن تتقاطع مصالح تطوير
البلاد مرحليا مع تلك الشعارات وأنه يجب الاهتمام بها والسعي بكل السبل في
تعزيز فعاليات تطبيقها في البلاد وناقش به بعض قضايا الشأن العام للبلاد
والتصريح لأحد المصادر الإعلامية للترويج لما يطلب به .وانتهى التحقيق إلى
توجيه الاتهام لهم: بالضلوع في المشاركة في تبني أصدار العرائض المشار أليها
وتزعم الموقعين عليها وحث غيرهم على توقيع هذه العرائض المتضمنة التشكيك في
منهج ولي الأمر وكيان الدولة القائم على الكتاب والسنة ، وفي إثارة الفتن
وتبرير الإرهاب والتشكيك في استقلالية القضاء والتدليس على الناس بهدف التشويش
على أرائهم وتأليبهم على ولي الأمر والتشكيك في المبادئ الشرعية التي تقوم
عليها بلادنا ، وتشكيل جماعات ضغط على الدولة وتزعمها وعقد الاجتماع لهذا الغرض
ومن ذلك ماعقد بفندق الفهد كراون بتاريخ 5 - 1 - 1425 ه وكل هذه الأمور تؤدي
إلى الإساءة إلى سمعة الدولة وعصيان ولي الأمر والخروج عليه . وذلك للأدلة
التالية : - 1 - ما ورد في أقوالهم واعترافاتهم المدونة في محاضر التحقيق
المرفقة المعلقة بكل منهم ، الأول على ملف (1) والصفحات ( 7 إلى 16 ) وملف (2)
الصفحات ( 1 الى 12 ) ، والثاني على الصفحات ( 7 الى 14 ) والثالث على الصفحات
( 3 الى 10 ) 2 - إعداد الأول للعرائض ( رؤية لحاضر الوطن ومستقبله ، ونداء
إلى القيادة الشعب معا ، دعوة الإصلاح الدستوري السعودية (سداد)) ، إعداد
الثالث للعريضتين ( دفاعا عن الوطن ، ومعا في خندق الشرفاء)، والمشاركة في
إعداد ( رؤية لحاضر الوطن ومستقبله ) والتوقيع عليها بمشاركة الثالث ، وقيامهم
بجمع التواقيع على هذه العرائض المرفق منها صور بملف القضية ، ومراجعة الثاني
لبعضها وتأييده لها . 3 - ما اتضح من خلال أقوالهم من إصرار على الاستمرار
في هذا النهج . 4 - ما ورد في العرائض المشار إليها المرفقة . 5 - ما
ورد في أقوال الثالث في موقع الانترنت المسمى منتدى الساحل الشرقي - واحة
سيهات - المرفق بأوراق القضية. 6 - البيان المرفق لنص الحوار الذي أجرته
قناة ( ال بي سي ) الفضائية مع الأول ،وقد تبين من خلال أوراق القضية أن الأول
سبق سجنه ثلاث مرات ومنع من السفر ثم وجه وزير الداخلية بتسليمه جواز سفره وأخذ
عليه تعهد بتاريخ 22 /10 /1420هـ وأفهم بأن العودة إلى شئ من مسببات الحظر
يستدعي عقوبات أشد ، لكنه لم يلتزم بما تعهد به ، والثالث سبق توقيفه بتاريخ 14
/3 /1403 هـ لانتمائه لما يسمى بالحزب الشيوعي في السعودية ولأن ما قام به
المذكورون مخالف لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب
الطاعة لولي الأمر والنصح له والنهي عن إثارة الفتن أو ما شأنه أحداث الفرقة
وتمكين الآخرين في النيل من الأمة في دينها أو وحدتها أو الطعن في قيمها
وثوابتها ويتنافى مع ما نصت عليه المادة الثانية عشرة من النظام الأساسي للحكم
وحيث أن ما أقدم عليه المذكورون فعل محرم ومعاقب عليه شرعا ونظاما فأنني أطلب
أثبات ما أسند أليهم من جرم والحكم عليهم بعقوبة شديدة تتلاءم وخطورة ما أقدموا
عليه ، مع ربطهم بالتعهد بعدم العودة لهذه الأمور وما شابهها. وبالله
التوفيق المدعي العام : عوض بن علي الاحمري 17 - 6 -
1425
-
عمر بك
جهد متميز جداً متابعين... بوركت
الجهة الخامسة ... فم كسوته
صوتي!
مدونتي
-
مرافعة ! (1)
المجتمع المدني ودوره في الحد من العنف والإرهاب (مرافعـة أولى
)
أولاً: المجتمع المدني تقديم : من ضمن التهم الضحمة التي اثقلت
صياغتها قلم الادعاء العام،ما ورد في اتهامه لي(بالسعي إلى إثارة الفتن وبث
بذور الخلاف بين أبناء الشعب وإثارةالتحزب المذهبي والطائفي)،وهذا الجهد
التأويلي العجيب يستدعي أن نقرأ منطلقاته وفق ما يلي: 1 - إن المطالبة
بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان،فتنة ينبغي القضاء عليها،وأنها،بحسب كلمات
الادعاء العام،فعل محرمٌ،ومعاقب عليه شرعاً ونظاماً! 2 - إن إقامة المؤسسات
الدستورية،وتمكين الشعب من المشاركة السياسية في إتخاذ القرار،وتشريع عمل
جمعيات المجتمع المدني المعبرة عن تطلعات كافة الشرائح،والتشكيلات الإجتماعية
في كافة ميادين الحياة،يعتبر من وجهة نظر الإدعاء العام عملاً يبذر الخلاف بين
أبناء الشعب . 3 - إن إزالة المظالم الاجتماعية بكافة أشكالها الفئوية
والطائفية والمناطقية،وتطبيق مبدأ التوزيع العادل للثروة بين كافة الشرائح
والمناطق،وتمكين جميع المذاهب والطوائف من ممارسة حقها الطبيعي في اتباع قواعد
مذاهبها،سوف يعمل على إثارة التحزب المذهبي والطائفي . كما أورد المدعي
العام في تهمة أخرى قولي (إن من أهم أسباب إنتشار الإرهاب والعنف في المملكة،هو
أن احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة،ونفي ماعداه من مذاهب وطوائف،قد
أدى إلى تغلغل هذا التيار في كافة مفاصل النظم التعليمية والتربوية والاجتماعية
والسياسية،وأنه تم استقطاب الشباب ضمن رؤية أيديولوجية تكفر المجتمع،وأن
مجتمعنا أصبح مجتمع الرأي الواحد المغلق،بالإضافة إلى عوامل معيشية تتمثل في
أزمات صحية وإسكانية وتعليمية،وفي الفقر والبطالة)حيث اعتبر هذا الكلام تبريراً
للعنف،واستغلالاً للعمليات الإرهابية للنيل من نهج البلاد والطعن في مرتكزاتها
الدينية . وهذه القراءة المتعسفة لما قلته،تفسح المجال أمامنا لطرح
التساؤلات التالية : 1 - هل انبنى نهج الدولة وكيانها ومشروعيتها،على العدل
واحترام حقوق المواطنة أم على حرمان الإنسان من حقوقه في التعبير السلمي عن
الرأي،وعلى سكوته عما تشهده بلادنا من أزمات،تمثلت في الفقر والبطالة والدين
العام،وما يعيشه المواطنون من اختناقات معيشية تطال التعليم والصحة والسكن
والبيئة ؟ و هل انبنت مشروعية الدولة على إزالة الظلم وتحقيق العدالة
الاجتماعية أم على السكوت على مظاهر الفساد والرشوة واستغلال المال العام
؟ 2 - هل ترعرع الإرهاب،لأننا طالبنا بمعالجة جذوره الفكرية والمعيشية،أم
لأن هناك خللاً ثقافياً وتربوياً واجتماعياً ضخماً فشلت أجهزة الدولة في
معالجته،مما أدى إلى انتشار تيار التشدد والتكفير والعنف والإرهاب ؟ وفي
الحقيقة فإن كل هذه السلبيات والاختناقات لا تمت بصلة إلى مرتكزات الدولة
ومشروعيتها بل إنها أمراض فتاكة تهدّد أمنها واستقرارها،وحاضرها ومستقبلها
أيضاً. كما أن الصمت حيال السلبيات والأزمات الخطيرة،هو الجريمة المنكرة التي
تعتبر إخلالاً بثوابت الدولة ونهجها العادل الذي قامت أسسها عليه. ويهمني أن
أؤكد على أن من يتصدى بأسلوب سلمي وعلمي،لانتقاد مظاهر الخلل والأخطاء في أجهزة
الدولة،ليس هو العدو،بل إنه هو المحب المخلص،وهو الأكثر وفاءً للأسس العادلة
التي قامت عليها نظرية بناء الدولة،وهو الأكثر انتماءً وولاءً للدولة،وهو الأشد
حرصاً على أمنها ورخائها واستمراريتها . ولذلك فقد رأيت وزملائي الدكتور
عبدالله الحامد والدكتور متروك الفالح،أنه من الضروري العمل على تجلية المفاهيم
والمرتكزات التي حفلت بها الخطابات المطلبية،لكي تتضح على ضوء ذلك استهدافات
هذه المطالب ومشروعيتها وأهمية الأخذ بها،وقد قرّرنا أن نتحدث في جلسة محاكمتنا
الأولى حول هذه المرتكزات النظرية،حيث يقدم الدكتور الحامد مداخلته عن الأساس
القانوني والشرعي لمفاهيم الفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء،ويتحدث
الدكتور الفالح عن الدستور والملكية الدستورية،وأن يتركز كلامي حول مفهوم
المجتمع المدني ودوره في الحد من العنف والإرهاب،ولذا أعددت هذه الورقة لتجلية
هذا الموضوع،وللرد على تهمة تبرير الإرهاب والعنف والتشكيك في نهج الدولة .
ثوابت : لعله من المهم التأكيد على الثوابت التي استندت إليها كافة
أشكال الحراك المطلبى الاجتماعي في بلادنا،والتي أنطلق منها دعاة المجتمع
المدني والإصلاح الدستوري وهي : 1. مرجعية الشريعة الإسلامية السمحاء في كل
ما تصدر عنه . 2. تصليب الجبهة الداخلية،والتمسك بثوابت الوحدة الوطنية
والعمل على إزالة كل ما يسئ إليها . 3. الالتفاف حول القيادة باعتبارها صمام
أمن بلادنا وازدهارها،في ضوء مضيها في طريق الإصلاح السياسي والدستوري الشامل
. 4. الوقوف في وجه كافة التدخلات الأجنبية في شئون بلادنا. وإدانة العنف
والإرهاب من كافة أطرافه ومصادره،كوسيلة للتعبير عن الرأي أو عن استغلال قوة
القانون. في تعريف المفهوم : إن سؤال المجتمع المدني هو سؤال العلاقة
بين الدولة والمجتمع بشكل عام،من أجل ترشيد صنع القرار،وتحويل إرادة الدولة من
إرادة قهرية خارجية ضد المجتمع،إلى إرادة داخلية تتكامل مع حركته وقواه
ومعطياته.(1) ولتوفر مقاربات متعددة لتعريف مفهوم (المجتمع المدني)،فسوف آخذ
هنا بأكثرها وضوحاً وقرباً لما يرى فيه المهتمون بالشأن العام في
بلادنا،تعبيراً عن تصورهم،لذا فالمجتمع المدني هو كل المؤسسات التي تتيح
للأفراد التمكن من نيل الخيرات والمنافع دون تدخل أو توسّط من الدولة(2) ؛ وهو
مجمل التنظيمات (غير الإرثية)النسبية وغير الحكومية التي تنشأ لخدمة المصالح أو
المبادئ المشتركة لأعضائها،وهو مجموعة المؤسسات والفعاليات والأنشطة التي تحتل
مركزاً وسيطاً بين العائلة،باعتبارها الوحدة الأساسية التي ينهض عليها البنيان
الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع من ناحية والدولة وأجهزتها ومؤسساتها ذات
الصبغة الرسمية من جهة أخرى . وهو المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات بالمعني
الحديث ( للمؤسسة)والمكوّنة من البرلمان،القضاء المستقل،والجمعيات والنقابات
والأحزاب . (3) ولا يقوم المجتمع المدني ضداً للدولة أو نقيضاً لها،بل أنه
يسهم معها في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين،وتجذير مفهوم المواطنة وتعزيز
الوحدة الوطنية ومشروعية القيادة . كما أنه مجتمع لا تمايز فيه يضم الدولة
والمجتمع معاً. وهو مجتمع الأحرار المستقلين،الذي لا يخضع تركيبه الداخلي
للسيطرة ولا التبعية،وتتأسس العلاقات بين أفراده على ثوابت العلاقة بين أحرار
متساويين. (4) الأسس النظرية في التاريخ الإسلامي : يقوم نظام الحكم في
الإسلام على مبادئ كلية يمكن أن نجتهد في إيجاد الهياكل والإجراءات الكفيلة
بتحقيقها،وترتكز هذه المبادئ على : الشورى،الحرية والكرامة،العدالة
والمساواة،وتعددية المناهج والنظم،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن
العام (وهو ما يمكن تسميته بحق المعارضة والنقد الذاتي) الشورى: هي أهم
المرتكزات الأساسية للحكم في الإسلام،وعبرها تتحقق مفاهيم الحرية
الأساسية. قال تعالى (والذين استجابوا لربهم،وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى
بينهم،ومما رزقناهم ينفقون )سورة الشورى - آية 38 . ويمكن الاستشهاد على
أهمية الشورى،من خلال إقرانها في الآية الكريمة بالعبادات،ومن خلال تسمية إحدى
سور القرآن الكريم بالشورى (5). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما
تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم) كما قال : (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وقد
قال أبو هريرة رضي الله عنه : (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم). حرية العقيدة في الإسلام : كفل الإسلام حرية
العقيدة لغير المسلمين،من أهل الكتاب،وسواهم . قال تعالى (ولو شاء ربك لجعل
الناس أمة واحدة،ولا يزالون مختلفين)سورة هود – الآية 118. وقال تعالى :
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً،أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
سورة يونس – الآية 99. قال تعالى : (فمن شاء فليؤمن،ومن شاء فليكفر). سورة
الكهف – الآية 29 وقال تعالى : (لكم دينكم ولي دين)سورة الكافرون – الآية
6 كما قال تعالى: (ولا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ). سورة البقرة
– الآية 256. قال تعالى: ( إن الذين آمنوا،والذين هادوا والنصارى والصابئين
ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً،فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا
هم يحزنون). سورة البقرة – الآية 62. ولذلك فإن كفالة حرية العبادة في
الإسلام وحق التفكير،والتأمل تقتضي كفالة أجواء الحرية السياسية لكافة أفراد
الأمة،الذين تنطبق عليهم الآيات الكريمة السابقة. كرامةالإنسان والقبول
بتعددية المناهج: أرسى الإسلام قاعدة الكرامةالإنسانية العامة المكفولة لكل
إنسان،( ولقد كرمنا بني آدم،وحملناهم في البروالبحر،ورزقناهم من
الطيبات،وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا)،كما أقر الإسلام تعددية المناهج
والنظم لكل أمة،حيث يقول تعالى( لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً،ولوشاءالله
لجعلكم أمة واحدة)(6). ويمكن القول،بأن العقيدة الإسلامية،بما جاءت به من
أحكام تقوم على حرية العقيدة لغير المسلمين،والشورى في الحكم،والعدل والمساواة
لأفراد الأمة،وتقبّل الاختلاف،وتقبّل النقد الذاتي (7)،قد أرست قبل أربعة عشر
قرناً مرتكزات القيم الأساسية لما نسميه اليوم،بالمجتمع المدني،وحقوق
الإنسان،وقد حلّت الأمة و (الملّة)محل القبيلة والعشيرة (8)،وحلت المساواة
والعدالة بين الناس،محل الظلم والاستبداد والتمييز على أساس عرقي أو مناطقي،(لا
فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى )كما قال صلى الله عليه وسلم. كما أن
الصحيفة التي وضعها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم،لتنظيم العلاقة بين
المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة،تعتبر أول دستور تعاقدي بين المواطنين
في ذلك العهد. وقد أقرّت تلك الصحيفة أن (يهود بني عوف أمة مع
المؤمنين)،(وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)،تثبيتاً لحرية المعتقد وما
يتفرّع عن ذلك من حقوق سياسية،وأنه (لا يأثم أمرؤ بحليفه،وأن النصر للمظلوم).
وبذلك يكون كل أهل المدينة منضوين تحت لواء أمة واحدة،هي التي يرأسها الرسول
صلى الله عليه وسلم. لأنها أمة سياسية تتعايش داخلها أمم مختلفة الدين
والعقائد،وإن كانت الغلبة للمسلمين.(9) وقد أكدت سيرة الخلفاء الراشدين
رضوان الله عليهم،تطبيق هذه المبادئ لضمانة حقوق المواطنة حيث يقول عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً.) كما أن الإمام علي رضي الله عنه،كفل حقوق الخوارج الذين خرجوا
عليه حيث يقول : (لكم علينا ثلاث،لا نمنعكم مساجد الله تذكروا فيها أسم
الله،ولا نبدأكم بقتال،ولا نمنعكم الفئ). وهذا يؤكد على ضمانة حقوق المعارضة
السلمية. ولذا تطورت تجمعات المجتمع الأهلي في عهد الخلفاء الراشدين وفي
عهود خلفاء الدولة الإسلامية،وهي الشكل الموازي لجمعيات المجتمع المدني اليوم.
وقد تمثلت تلك الجمعيات والتكوينات الأهلية التقليدية في صيغ متعددة،من أهمها
ما يعرف (بأهل الحل والعقد)،والذين يشكّلون مجلس الشورى،الذي يستعين به الخليفة
على معالجة مختلف القضايا الدينية والمدنية. كما تشكّلت جماعات
الفقهاء،والقضاة،والعلماء،وبرز دور الحلقات الدينية والفكرية في المساجد،وتطورت
نقابات الحرفيين وأهل الصناعات،ولعبت مؤسسات الوقف الإسلامي دوراً مهماً في
توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية للمحتاجين،واستمر شيوخ
الطوائف،والعشائر،والقبائل في لعب دورهم الاجتماعي لحماية أفراد الطائفة أو
القبيلة. ويمكن القول بأن حرية الاجتهاد الفقهي،التي أنتجت المذاهب الفقهية
الأربعة لأهل السنة،كانت مثالاً للقبول بمبدأ الاجتهاد والإقرار بحق
الاختلاف،حيث يقول في هذا المعني،الإمام الشافعي رحمه الله (رأيي صواب يحتمل
الخطأ،ورأيك خطأ يحتمل الصواب). وقد أرسى هذا الباب المفتوح بضوابطه
للاجتهاد،مبدءاً مهماً لمشروعية الاختلاف وهو ما يعرف اليوم بمبدأ (التعددية)في
الشأن المدني. وقد غدت القيم الإسلامية التي جاء بها رسول الهدى محمد
صلىالله عليه وسلم،قبل أربعة عشر قرناً قيماً إنسانية مشتركة في مختلف الحضارات
والبلدان،تتفق على ضرورة تبنّي المجتمعات المختلفة لقيم الحرية،والمساواة
والديمقراطية والتعددية،وحقوق الإنسان،كمقومات لما يسمى (بالمجتمع
المدني)المعاصر. وقد اجتهد العديد من المهتمين بالشأن العام في بلادنا من
الأكاديميين والباحثين والمثقفين في البحث عن الصيغ الملائمة لتبيئة مفهوم
(المجتمع المدني )في بلادنا،بحيث يتم عبرها المحافظة على الهوية الإسلامية من
جهة،والعمل على تطوير آليات عمل المجتمع،بما يؤدي إلى تحقيق مقومي الحرية
والعدالة الاجتماعية،وهي الآليات الكفيلة بتطوير بلادنا،وتعزيز السلم
الاجتماعي،والأمن الوطني وتصليب الجبهة الداخلية،وتعزيز مشروعية الدولة
الإسلامية،التي تأخذ بآليات بناء الدولة الحديثة،ولكي يتضّح هذا المعنى في ضوء
الثوابت التي ذكرناها آنفاً،فإنه يمكن تقسيم مفهوم المجتمع المدني إلى ما يلي
: أولاً : المرتكزات النظرية: (10) أ - العلاقة بين القيادة والمجتمع:
هي علاقة تعاقدية،وهي ميثاق،أو عقد وتقوم على الرضا والاختيار،والتعاون وتوزيع
الأدوار. ب - حقوق المواطنة: الناس متساوون في الحقوق والواجبات أمام الشرع
والقانون،وتقتضي العدالة الاجتماعية للمواطنين،عدالة في توزيع الثروة،وتكافؤاً
في فرص العمل والإدارة والتجارة،وتمكين المرأة من نيل حقوقها المشروعة في
الحياة الاجتماعية والمشاركة في اتخاذ القرار. ج - إقرار حرية التفكير
والتعبير والإبداع،والتجمع بطريقة سلمية لا تخل بالنظام العام. د - إشاعة
ثقافة التسامح،وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر الموجود في الوطن،والتكافل
والتعاون،وقبول الاختلاف والالتزام بحل الخلاف بأسلوب سلمي،وهذا ما يُعبّر عنه
بقبول (التعددية). هـ - إقرار مشروعية تأسيس الجمعيات والمنظمات
المدنية،النقابية والمهنية والسياسية،في مختلف مجالات الحياة. و - الأمة هي
المخولة بتقرير مصالحها،ويتم ذلك عبر ممثليها المنتخبين من أهل الرأي والعلم و
الخبرة و الحنكة والنزاهة والشجاعة،الذين يخوّلهم الشعب لبلورة
إرادتها،ومرجعيتها في اتخاذ القرار. ز - وظيفة الأجهزة الحكومية تتركز في
تطبيق ما يراه الشعب عبر ممثليه في السلطة النيابية،وسعيها لتحقيق مصالح
الشعب،في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية. ح - تحريم استخدام العنف للتعبير عن
الرأي من أي قوة اجتماعية،وقوة العنف الوحيدة التي يتم تشريع استخدامها،هي
القوة التي تحمى القانون بواسطة أجهزة الدولة المختصة،وفق أحكام الدستور،ورقابة
ممثلي الأمة عليها في ذلك(11). ثانياً : الهياكل الشعبية تتشكّل هياكل
المجتمع المدني على صيغة جمعيات ونقابات،وروابط وأحزاب،تعبّر عن مصالح
التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمهنية في البلاد،ومن
خلال عمل هذه المكوّنات،يتم ترسيخ مبدأ الحوار السلمي بين كافة قوى المجتمع لحل
الاختلاف،والاحتكام إلى رأي الأغلبية،والتمرّس على اختيار القيادات الأكثر
كفاءة ونزاهة،لتولي المناصب القيادية،وتطوير الأداء من خلال وضع اللوائح والنظم
الداخلية القابلة للتعديل بحسب رأي الأغلبية،وتطبيق مبادئ المراقبة والمحاسبة
من قبل أعضاء الجمعيات لسير عمل جمعياتهم وقياداتها المنتخبة،وهذا ما يكفل
ممارسة العملية الديمقراطية بحسب المصطلحات الحديثة. وينقسم نشاط جمعيات
المجتمع المدني إلى قسمين رئيسيين (الأول)منظمات خاصة مهنية ونقابية وتضم أصحاب
المهنة الواحدة، كالقضاة،والمعلمين،والمعلمات،والأكاديميين،والطلاب،و
العمال،والمزارعين والتجار،والأطباء،والمهندسين،وسائقي السيارات وأصحاب الحرف
والهوايات والإبداعات المختلفة وسواهم،ويتركز عمل هذه المنظمات على: أ -
تطوير المهنة. ب - المحافظة على شرف المهنة ومحاسبة منتهكي أعرافها
وتقاليدها ونظمها الداخلية. ج - الدفاع عن مصالح المنتمين إليها . د -
المساهمة بالرأي في قضايا الشأن العام . القسم الثاني : منظمات عامة في
مجالات الصالح العام الاجتماعي والسياسي،ويشمل الوجه الأول منها جمعيات حقوق
الإنسان،التي تتكون من المختصين القادرين على مراقبة تطبيق قيم الحرية
والعدالة،والمساواة،كما يشمل أيضاً،جمعيات الاحتساب المكونة من المؤهلين
والمختصين في مجالات إرشاد الناس في أمور دينهم ودنياهم،والحفاظ على الأخلاق
والآداب العامة،والدعوة إلى مكارم الأخلاق. أما الوجه الآخر من المنظمات
العاملة في سبيل المصلحة العامة،فيشتمل على منظمات وجمعيات سياسية،تهتم بالشأن
العام،وتعزيز الحريات العامة،و عمل آليات المجتمع المدني،والمشاركة الشعبية في
اتخاذ القرار،وإقرار مبدأ التعددية،وحقوق الإنسان والسعي لتطبيق مبادئ العدالة
الاجتماعية،وكشف التجاوزات التي تطال حقوق المواطنين أو المال العام،و تسمى
الجمعيات السياسية. ثالثاً: الإطار القانوني والسياسي لا يتحقق وجود
المجتمع المدني إلا في ظل توفر الإطار القانوني والسياسي،الذي يضمن حرية أنشطتة
وحماية حركته،من خلال الضمانات الدستورية الأساسية التي تتكون من: أ - وجود
دستور يستند إلى الشريعة الإسلامية السمحاء،والذي يقره الشعب في استفتاء عام
ويتضمن الإقرار بالتعددية الثقافية و السياسية،وحرية تكوين منظمات المجتمع
المدني السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية،ويكفل تطبيق العدالة
الاجتماعية وقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان،لكافة المواطنين
والمواطنات. ب - أن ينص الدستور على تطوير نظام الحكم من دولة الملكية
المطلقة إلى دولة المؤسسات الدستورية. ج - إقرار مبدأ الفصل بين السلطات
الثلاث (النيابية والقضائية والتنفيذية). د - احترام النظام
القضائي،واستقلاله،لحماية الشرعية الدستورية والحريات الأساسية للمواطن. هـ
- ضمان المشاركة الشعبية لكافة المواطنين والمواطنات في اتخاذ القرار،من خلال
ممثليهم المنتخبين في مجلس نواب الشعب. فاعلية المجتمع المدني: ويمكن
تحديد فعاليات عمل المجتمع المدني فيما يلي : 1 - الحد من احتكار الدولة
للسلطة والقرار وقوة القمع،وقيامها بممارسة دور الحياد النزيه إزاء مختلف القوى
الاجتماعية . 2 - ترسيخ القناعات والممارسات بأهمية احترام الاختلاف وإقرار
مبدأ التعددية،وتيسير إمكانية اندماج الأفراد المنحدرين من مناطق وشرائح
مختلفة،في إنجاز أعمال ومشاريع ذات أهداف مشتركة،والقضاء على ترسبات التفرقة
المناطقية والطائفية والفئوية. 3 - توسيع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة،و
القضاء على مشاعر اللامبالاة أو اليأس وعدم الجدوى،وفتح المجال للتعبير عن حرية
الرأي، والمساهمة في صناعة القرارات المصيرية للوطن و للمواطنين. 4 - امتصاص
حالات الغضب والاحتقان الاجتماعي والسياسي،وفتح الباب للتنفيس عنها سلمياً
بالتعبير عن الرأي العلني،وتعميق مفاهيم العمل المؤسسي، وتأكيد مقدرة المجتمع
على التنظيم الذاتي والعمل الجماعي،والقدرة على اتخاذ المبادرات وتدعيم النهج
السلمي في الحوار بين الأطراف المختلفة،والعمل على تقليص تأثير النزعة الفردية
والتسلطية في اتخاذ القرار. 5 - حماية مصالح الأفراد والجماعات وكافة
المنتمين للمهن والتخصصات،والدفاع عن حقوقهم إزاء الأجهزة الحكومية
والأهلية،التي تهدد تلك المصالح. 6 - تلبية الاحتياجات المتعددة والمختلفة
لكل أفراد المجتمع،من خلال انخراطهم في النشاطات النقابية التي تعبر عن
تخصصاتهم وميولهم وتطلعاتهم،وفتح الباب أمام كل مكونات المجتمع بدون تمييز
للانخراط في العمل المؤسساتي،وذلك ما سوف يحد من احتكار أي تيار أو فكر للعمل
الثقافي والاجتماعي والسياسي في الوطن. 7 - وبالنسبة للأجيال الشابة،فإن
جمعيات المجتمع المدني سوف تعمل على استيعاب طاقاتهم،وتوفير أسباب الأمان
الاجتماعي والثقافي والنفسي لهم،وتلبية احتياجهم لتحقيق الذات،وتوفير البيئات
العملية الكفيلة بتعميق روح العمل الجماعي والمؤسسي المنظم في نفوسهم،وتيسير
اندماج الأفراد المنحدرين من مناطق وشرائح مختلفة في انجاز أعمال ومشاريع
مشتركة والقضاء على ترسبات التفرقة المناطقية والفئوية. 8 - تطوير المهارات
القيادية،وتأهيل الكوادر،وتعزيز القبول برأي الأغلبية واختيار الأفراد الأكثر
كفاءة لقيادة أعمال جمعياتهم،وتعزيز آليات المراقبة والمحاسبة
والمساءلة،والتعود على العملية الانتخابية،وتطبيق مبادئ تكافؤ الفرص وتداول
السلطة . 9 - تحقيق بعض المكتسبات المادية كالرعاية الصحية،أو التمتع
بالبرامج الترفيهية،والثقافية التي تقدمها الجمعيات،أو بالإعانة المادية
للمحتاجين. وخلاصة القول،أن تشريع عمل جمعيات المجتمع المدني وتوفير شروط
ممارستها لمهامها،سيتيح المجال أمامها للإسهام بآرائها وأنشطتها في حل الكثير
من الأزمات والمشكلات الاجتماعية،للعمل على تعزيز حرية الرأي وترسيخ ثقافة
التسامح،وحقوق الإنسان،و تدعيم تماسك الجبهة الداخلية والانتماء الوطني،كما أن
فاعلية تبك الجمعيات ستفضي إلى الحد من ظواهر التشدّد والتكفير والعنف
والإرهاب. ثانياً: العنف و الإرهاب العنف ظاهرة بشرية لا يختص بمكان أو
زمان دون غيره،ولا يختص بدين،أو جنس أو فكر أو ثقافة دون سواها،ولكنه يترعرع
ويبلغ أوج التعبير عن قسوته،في البيئات التي تفتقر إلى العدالة والمساواة
وكفالة حرية التعبير للأفراد والجماعات،وفي المجتمعات التي يسودها الاستبداد
السياسي والفكري و الاجتماعي،وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية
للمواطنين. والعنف أسلوب تعبير عن تراكمات اليأس والغضب أو الانتقام،يمكن أن
يقوم به الفرد أو الجماعات كما يمكن أن تمارسه الدولة أيضاً. ويتجلّى من خلال
شكلين هما : العنف الرمزي والعنف المادي. ويتمثل العنف الرمزي في ادعاء
احتكار الحقيقة،وإقصاء وتهميش الآخر،وفي تكفيره أو تبديعه بدون وجه حق. أما
العنف المادي فيتمثل في استخدام الأساليب والأدوات المادية كالسلاح ضد
الآخر. ويمكن أن يكون العنف بشكليه مشروعاً،للشعوب المضطهدة الساعية إلى نيل
حريتها واستقلالها كالشعب الفلسطيني،ويمكن أن يكون محرماً،عندما يستهدف أمن
وسلامة الأبرياء كما يحدث هذه الأيام على أراضي بلادنا وهو ما نعبر عن تسميته
(بالإرهاب). أما عنف الدولة فإنه يأخذ الشكلين معاً،ويستمد العنف المسموح به
مشروعيته من تفويض الشعب عبر ممثليه لأجهزة الدولة باستخدام العنف لتطبيق
القانون وفق ضوابط الدستور،وتحت مراقبة ومحاسبة ممثلي الشعب. وفي بلادنا -
مع الأسف -،فإن الأجهزة الأمنية تمارس الكثير من العنف غير المشروع سواءً تمثّل
في شكله الرمزي أو المادي،وليست ملومة في ذلك نظراً لغياب المؤسسات الدستورية
القادرة على ضبط ذلك العنف وفق القانون. ولعل أبرز مثال على ذلك ما رافق
ظروف إلقاء القبض علينا والتحقيق معنا واعتقالنا لمدة خمسة أشهر،قبل مثولنا
أمام المحكمة بتهم باطلة،وفيما تعرضنا له من ضغوط ومراوغات للتحايل على علنية
جلسات المحكمة،والبحث عن المبررات غيرالقانونية لتحويل المحاكمة من علنية إلى
سرية. كما أن الإفراج عن عدد من المهتمين بالشأن العام من زملائنا الذين
اعتقلوا معنا،بعد اضطرارهم إلى التوقيع على تعهدات جائرة،بعدم الاستمرار في
المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري في بلادنا،ثم منعهم من السفر حتى
الآن،تعتبر أمثلة صارخة على انتهاك حقوق المواطنة وحقوق الإنسان،واستخداماً
للعنف الرمزي ضد المهتمين بالشأن العام في بلادنا. وأما العنف المادي الذي
تمارسه الدولة ضد المواطنين،فأعتقد أنه لو توفرت الحرية للمواطنين،للتعبير عما
لحق بهم من أذى،أمام لجنة وطنية لحقوق الإنسان،تتمتع باستقلاليتها عن الأجهزة
الحكومية في المملكة،لحصلت على وثائق كثيرة موثّقة تثبت هذا الأمر. ولتأكيد ذلك
سأحصر استشهادي بقضية أعرفها،وقد حدثت أثناء اعتقالي السابق في عام 1403هـ حيث
توفي أحد زملائي في سجن وزارة الداخلية،الكائن في مبناها القديم على طريق
المطار،خلال فترة التحقيق معه،وهو المرحوم خالد النزهة،ويمكنكم التأكد من ذلك
بالإطلاع على ملفات التحقيق في وزارة الداخلية،أو بالاستماع إلى شهادة
أهله. ومن قبل خالد النزهة،مات محمد ربيع في سجن العبيد بالإحساء في
الخمسينات الميلادية . أسباب تفشي ظاهرة العنف والإرهاب في بلادنا ليس
هناك ظاهرة اجتماعية يمكن تفسيرها بالاعتماد على عامل أو سبب واحد،مهما كانت
أهميته،ولذا فإن هذه الظاهرة منتج مركَب من بيئة يتوفر فيها اختلالات واختناقات
في المجالات الاقتصادية والسياسية ولاجتماعية والثقافية(12)،وحين نبحث عن
الأسباب التي أشعلت مظاهر العنف والإرهاب في بلادنا،فإننا لا نسعى إلى تبريره
ولا تبرئته،وإنما نجتهد مع غيرنا في دراسة الظاهرة من كافة جوانبها بغية الوصول
إلى الحلول الجذرية التي لا يمكن اختزالها في الجانب الأمني – رغم أهميته – وقد
دان دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري في بلادنا، - كلٌ وفق قراءته - كافة
مظاهر العنف والإرهاب،وذلك في خطابي (دفاعاً عن الوطن)،و (نداء إلى القيادة ..
ونداء إلى الشعب) ويمكننا تقسيم أسباب مظاهر العنف يشقيه إلى قسمين : 1 -
الأسباب الداخلية أ - في ظل ممارسة الدولة لتغييب حواضن ومكونات تنظيمات
المجتمع المدني في كافة مجالات الحياة،وفي ضوء تقلّص دور تنظيمات المجتمع
التقليدية التي كانت توفر الحماية ومشاعر الانتماء للجماعة،والأمان لأفرادها،من
العائلة إلى الحي إلى العشيرة والقبيلة،فإن هذه العوامل قد أوجدت خللاًَ
اجتماعياً كبيراً،أدى إلى تعميق مشاعر اغتراب الفرد عن محيطه،وإلى تأزيم إحساسه
بفقدان الهوية والأمان النفسي والاجتماعي،وإلى تنامي مشاعر الإحساس
بالضياع،لعدم وجود الجماعات المعبرة عن رغباته وميوله وآلامه وتطلعاته ب - .
كما عملت مظاهر الاستبداد والتفرد بالقرار السياسي،وغياب المؤسسات
الدستورية،وانعدام المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار،وغياب حرية التعبير
والتفكير والإبداع،وسوء توزيع الثروة،وتفاقم ظاهرة الفساد الإداري
والمالي،وسواها من العوامل،مجتمعة على تعميق مشاعر الإحباط والغضب وانسداد
الأفق أمام المواطنين وخاصة فئة الشباب منهم،الذين يشكّلون أكثر من 70% من عدد
السكان في المملكة. ولذا فإن التجمعات والتنظيمات الدينية،عبر قنواتها
الثقافية والدعوية والسياسية،وبدعـم - غير مقصود - من الدولة التي كرّست حضور
ومشروعية تلك الجمعيات دون غيرها،حتى أصبحت مراكز استقطاب وحيدة للشباب
الباحثين عن تحقيق الذات،والشعور بالأمان،وتعزيز الهوية الجمعية. وهذا الأمر قد
أدى بالطبع إلى إضعاف مشاعر الانتماء الوطني،وسهل التفاف هؤلاء الشباب حول
قيادات وزعامات متطرفة في الداخل والخارج. 2 - استطاع الخطاب الديني
المتشدّد أن يكرّس منهجا أحادياً لاحتكار الحقيقة الدينية،وتهميش المذاهب
الأخرى بما فيها تيار الوسطية والاعتدال،مما ساعد على بروز ظواهر الغلو والتطرف
التي صبغت الحياة الثقافية والاجتماعية والإعلامية بألوانها. كما تمكن هذا
الخطاب المتشدد من ترسيخ أسلوب التلقين والحفظ والتوجيه بدون مناقشة أو حوار،في
كافة مراحل التعليم ومناهجه،لتغدو ثقافتنا ثقافة انغلاق ونفي لكل قيم التسامح
والحوار وقبول الآخر. وقد ساهمت الاجهزة الحكومية في تعزيز هذا التوجه من
جانبين: أولهما،اعتبار هذا التوجه معبراً عن نهجها،وثانيهما،السماح لهذا الخطاب
المتشدد بإقصاء وتهميش وقمع كافة التيارات الفقهية والثقافية الأخرى. كما أن
الأجهزة الحكومية قد مارست أساليب التضييق على المثقفين لمنعهم من القيام
بأنشطتهم الثقافية في داخل البلاد وخارجها،بما في ذلك المنع من المشاركة في
البرامج الفكرية والثقافية والسياسية في القنوات الفضائية(13)،كما مارست
الأجهزة الحكومية كافة أشكال الرقابة والتضييق على الوسائل الإعلامية الحديثة
كالإنترنت،والقيام بإغلاقها،خاصة إذا كان القائمون عليها من أبناء الوطن،مثلما
حدث لموقع (طوى) الذي فتح الباب للمواطنين للتعبير عن مساندتهم لمطالبنا
الإصلاحية والمناداة بإطلاق سراحنا بعد الاعتقال،كما أغلقت ملف (قضايا الإصلاح
السياسي)،ودعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري،على موقع (دار الندوة). كما
أنها مارست ومازالت،إيقاف الكتاب والصحفيين عن الكتابة،واستدعاءهم
للمباحث،واعتقالهم أو منعهم من السفر إلى الخارج. 3 - قامت المملكة،ومنذ
إعلان توحيدها على يدي المغفور له الملك عبدالعزيز في عام 1351هـ،بدور الحكم
والوسيط،القادر على حسم الخيارات الصعبة حين يعارض الخطاب الديني المتشدد مصلحة
تطوير البلاد بالأخذ بمقومات التحديث . وقد كانت الدولة قادرة على تطويع العنف
الرمزي للخطاب المتشدد بالحوار أو فرض الأمر الواقع،مثلما حدث في تعاطيها مع
أجهزة التلكس والهاتف والتلفون والتلفزيون،وتعليم المرأة،وسوى ذلك. كما أنها
استخدمت القوة في القضاء على العنف المادي والإرهاب،الذي قاده رموز التشدد
والعنف المسلح ضد الدولة،منذ معارك الإخوان إلى احتلال الحرم المكي الشريف عام
1399هـ،ولكن الدولة كانت تقضي على تيارات العنف ثم تتبنى برامجهم،ظناً منها،أن
ذلك سيقضي على أسباب الغلو والتطرف والعنف. وبالرغم من النجاحات الظاهرية
التي حققتها الدولة في هذا المجال،إلا أن عدم السماح لمكونات المجتمع المدني
بممارسة حقها في النشاط، قد هيأ الأرض وباستمرار،لثقافة الغلو ومظاهر التشدد
والانغلاق بالانتشار،واحتكار الفضاء الثقافي دون منازع أو رقيب. إلا أن
تطور المجتمع وتعدد احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،إضافة إلى ما
وفره عصر التقنية والاتصالات من وسائط وممكنات حديثة، - في ضوء عدم الاستجابة
إلى تطوير المؤسسات الدستورية وإشراك الشعب في اتخاذ القرار – قد ضاعف من تفاقم
ظواهر الإحباط والغضب،لدى مختلف الشرائع الاجتماعية،ولم يعد محتكراً لتيار
التشدد وحسب. ولذا فإن الأساليب القديمة في معالجة هذه الاحتياجات ومقاربة
هذه الظواهر،ومنها ظاهرة العنف،لم تعد مجدية،وهذا ما يستدعي ضرورة البحث الجدي
في الأخذ بآليات بناء الدولة الإسلامية الحديثة،لتحقيق مطالب الشعب التي ستسهم
في الحد من استفحال ظواهر العنف والإرهاب أيضاً. 4 - تشكل معالجة أية
دولة،للحاجات المعيشية والاجتماعية للمواطنين في التعليم والعمل والصحة
والسكن،وحريات التعبير،الأساس الذي يحقق إحساسهم بالأمن والأمل والرضى،أو
يدفعهم لليأس والغضب والتعبير العنيف عن تلك الأحاسيس. وفي بلادنا التي حباها
الله بنعمة البترول الذي يدر على الدولة مئات المليارات سنوياً على مدى 30
عاماً،يغدو توفير ضرورات العيش الكريم لكل مواطن حقاً لا تنازل عنه. ولكن الذي
يحدث في بلادنا من تفاقم للأزمات المعيشية والاجتماعية،ومن العجز عن الوفاء
بالمتطلبات الأساسية للمواطن،قد ساعد على تكريس حالات اليأس والإحباط،ووضع
الدولة في موقع المساءلة أمام المواطنين. - فبالله،بماذا نبرّر فشل خطط
التنمية في بلادنا،في تلبية حاجات أبنائنا وبناتنا للمناهج التعليمية،القادرة
على ملاءمة مخرجاتها مع احتياجات المجتمع؟ - بماذا نجيب على غضب مئات
الآلاف الذين لم تستوعبهم الجامعات،رغم حصولهم على علامات عالية في الشهادة
الثانوية؟ - ماذا نقول لمئات الآلاف،من العاطلين والعاطلات عن العمل؟ -
وكيف نغطي على عجزنا عن توفير المستشفيات والعلاج المناسب للمرضى في كافة أنحاء
بلادنا؟ - وماذا نقول لمئات الآلاف من الأسر الفقيرة التي تعيش على
الفتات،بجوار القصور الفارهة،والتي كشف أوضاعها علناً،سمو ولي العهد الأمير عبد
الله بن عبد العزيز في قلب الرياض،ليضعنا جميعاً أمام الحقائق الصعبة؟ -
بماذا نطمئن الأجيال القادمة التي ستواجه مصيرها المظلم،حين نعجز ونحن نملتك
الثروات الطائلة عن وضع خطط التنمية الاقتصادية المستدامة؟ - كيف ننظر
للمستقبل القريب حين ينضب البترول بعد خمسين عاماً وحيث نكون مكبّلين
بالديون،التي تجاوزت اليوم في مجملها 700مليارريال؟ - ماذا نقول
للمواطنين،حين نعجز عن تكوين جيش قوي يصد عن بلادنا غيلة الأعداء،وحين نضطر
للاستنجاد بالأجانب،لكي يدافعوا عنا،ويقيموا قواعدهم العسكرية على أراضينا؟
- ماذا نقول لنصف المجتمع من النساء،وقد حرمناهن من التمتع بكامل حقوقهن،في
مجالات التعليم والعمل والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار؟ - ثم،كيف يتم
تصليب الجبهة الداخلية،وتعزيز مشاعر الانتماء للوطن،والالتفاف حول القيادة
لمجابهة التحديات الخارجية،في الوقت الذي نمارس فيه التمييز الطائفي،والتمييز
المناطقي في توزيع الثروة والمناصب القيادية،وتمارس فيه الأجهزة الأمنية مصادرة
حرية التعبير السلمي عن الرأي،ويتم فيه تغييب الشعب عن المشاركة في صنع
القرار،وتنتهك خلاله حقوق المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان،التي وقعتها المملكة؟
- كيف يمكننا المشاركة في معالجة المشكلات والأزمات والاختناقات ومظاهر
العنف والإرهاب والتهديدات الخارجية،إذا كانت الأجهزة الأمنية جاهزة لكيل التهم
لنا بإثارة الفتن وعصيان الدولة والتشكيك في مشروعيتها،ونحن لم نستخدم إلا
اليسير من حقوقنا المشروعة،في المطالبة السلمية والعلنية لقيادة بلادنا،بالمضي
في طريق الإصلاح؟ الأسباب الخارجية: هناك رأي يعيد أسباب العنف
والإرهاب في بلادنا إلى عوامل خارجية،نتجت عن احتضاننا لقيادات وكوادر الإخوان
المسلمين في مرحلة الستينات،ولعل هذا الرأي يؤكد مظاهر تلاقح الخطاب الديني
المتشدّد في بلادنا،مع الفكر الحركي للإخوان المسلمين. وإذا كان هذا
السبب،هو العامل الرئيسي في استشراء ظواهر العنف والإرهاب في بلادنا،فمن
المسئول عنه... أليست الأجهزة الحكومية؟ وهناك من يعزو ظواهر الإرهاب إلى
انخراط الآلاف من شبابنا في معسكرات التدريب والحرب في أفغانستان،حيث تعلموا
أساليب التنظيم السياسي والعسكري،وتشرّبوا مناهج العنف،وتكفير الحكومة والمجتمع
معاً. وإذا كان الأمر كذلك،فمن المسئول؟ ألم تدخل المملكة في الحرب شريكاً
مع أمريكا،وساهمت بالأموال والسلاح،بحسب ما أورده الأمير تركي الفيصل في برنامج
أذيع على محطة BBC يوم 28/8/2004م؟ وإذا كان هذان السببان وجيهين،فهل نغفل
الأسباب الداخلية التي تحدثنا عنها آنفاً؟ وهل يمكن لنا إغماض أعيننا عن
المظالم الأمريكية في العالم العربي والإسلامي،وفي فلسطين والعراق تحديداً؟
إن هذه المظالم المستمرة التي تمارسها الولايات المتحدة وربيبتها
إسرائيل،ضد العالمين العربي والإسلامي،إضافة إلى عدم نجاح حكومتنا - كحليف
استراتيجي للولايات المتحدة - في استخدام موقعها الهام وثروتها،في الضغط على
ذلك الحليف لتعديل كفة الميزان المختلّ،قد دفعتنا حكومة وشعباً،إلى تبني مشاعر
الرفض لتلك السياسة المنحازة. واستشهد في هذا السياق بما قاله الأمير تركي
الفيصل سفير المملكة في بريطانيا في مقال بعنوان ( آن وقت التحرك معا ....حتى
لاينجح المتعصبون في إفساد العلاقة بين الشرق والغرب ): ( وهكذا فإننا نواجه
بعد ما يقرب من مئة عام،المشاكل ذاتها في المناطق ذاتها والوعود ذاتها،ولكن هذه
الوعود اليوم هي وعود خاوية،فالكثير من العرب يخشون اليوم من أن العراق ينحدر
إلى مصير مدمِّر،وسيجد نفسه في المأزق نفسه الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني .إن
عدم الاستقرار والأزمة غذاؤهم اليومي،وهذا التعامل غير السليم،وارث الوعود
الخاوية،يثير النشاط الإرهابي والاستياء). الشرق الأوسط / العدد9444 بتاريخ
6/10/2004م.) وإذا كانت الجذورالفكرية للإرهاب تُعدّ العامل الأبرز،من بين
العوامل الأخرى التي تتحكم في استمرار المنخرطين اليوم في دوامة العنف والإرهاب
في بلادنا،نتيجة لتأثرهم بثقافة الكراهية والعنف والتدمير والموت ونبذ
الحياة،من خلال البرامج والتسهيلات المؤسساتية،عبر المنابر والمدارس والشاشات
والإذاعات،وكل مفاصل التربية والإعلام،فإن مجمل العناصر الأخرى التي تحدثنا
عنها،هي التي تفسر قناعات وممارسات المتعاطفين مع الإرهاب أو الصامتين عن
إدانته. ولكن الأمر الآخر الذي أود الإشارة إليه هو أن تلك الأسباب – وبغض
النظر عن ظاهرة الإرهاب الحالية - ما زالت تنذر بمخاطر دفع الآلاف من العاطلين
عن العمل،والطبقات المحرومة والفقيرة،والطلاب الذين لا يجدون مقاعد في
الجامعة،والفئات التي تتعرض للتمييز الطائفي،ومئات الألوف من إخواننا الذين
ولدوا في بلادنا وترعرعوا فيها،منذ عقود طويلة،ولم يتم منحهم الجنسية حتى
الآن،وسواهم،إلى التعبير عن مطالبهم وحاجاتهم،بأشكال أخرى من العنف الفردي أو
الجماعي،ومنها تدمير الذات بطرق
عديدة.
-
مرافعة !(1), كما يريد الساخر !
أما الآن،وتأسيساً على ما أوردناه من أسباب كامنة خلف مظاهر العنف
والإرهاب،فإننا نخلص إلى القول،بأننا حين نحدّد مظاهر الأزمة وجذورها،لا نهدف
إلى تسويغ أو تبرير العنف سواءً أتى من الأفراد أو من الدولة،وأنني كأحد دعاة
المجتمع المدني أدين الإرهاب مهما كانت الأسباب،وأدعوا إلى ممارسة التعبير عن
الرأي بالطرق السلمية المشروعة. كما أنني في نفس الوقت،أرى أن الحلول الأمنية
لوحدها عاجزة عن علاج ما نشهده من عنف معاش،أو ما ستحمله الأيام القادمة من
أشكال أخرى له،وأن المدخل العملي الصحيح القادر على الحد من ظواهر العنف
والإرهاب،يكمن في البدء في عملية الإصلاح السياسي والدستوري الشامل،وتشريع عمل
جمعيات المجتمع المدني ومنظماته،وإعلان الدولة التزامها به،وفق جدول زمني
متدرّج. وذلك ما سيعمل على ترسيخ قيم التسامح والحوار والحرية والقبول
بالاختلاف،وحقوق الإنسان،ويساعد بلادنا على تجاوز الأزمات والاختناقات التي
تعيشها،وهو ما سوف يعمل بفاعليه على الحد من ظواهر التشدد والإقصاء والعنف
والإرهاب،من حياتنا الاجتماعية والثقافية. الإحالات (1) المجتمع المدني
في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية –د. برهان غليون (2) المجتمع
المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديموقراطية - د. كمال عبد
اللطيف (7،5،4،3)مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي - الدكتور أحمد شكر
الصبيحي - مركز دراسات الوحدة العربية. (6) الشرق الاوسط –عدد 9370 - د.زين
العابدين الركابي (9،8) العقل السياسي العربي – الدكتور محمد عابد الجابري -
مركزدراسات الوحدة العربية (10) ( ثلاثية المجتمع المدني )–للدكتور عبد الله
الحامد –الدار العربية للعلوم - بيروت (11) الشرق الاوسط –عدد 9338 –غسان
سلامة (12،13) العنف والإصلاح الدستوري - بحث مخطوط للدكتور متروك
الفالح
-
مـرافعــة ثـانيــة (تفنيد التهم الواردة في (لائحة دعوى
عامة))
(المسودة الأولى) بسم الله الرحمن الرحيم (ربنا افتح بيننا
وبين قومنا بالحق) فضيلة رئيس الجلسة أصحاب الفضيلة الأعضاء الأخوة
المحامون الأخوات والأخوة الحاضرون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في البداية، أؤكد لأصحاب الفضيلة القضاة، على بطلان كل التهم الموجهة إليّ من
الإدعاء العام، لأنها لا تستند إلى دليل. وقد نصت المادة (36)من النظام
الأساسي للحكم، على أنه (لا جريمة، ولا عقوبة إلا بنص شرعي أو نظامي)، وهذا
التحديد يتأسس على قوله تعالى(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء، آية
15)، وقوله تعالى (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً)(القصص،
آية59). ومؤدى هذا المبدأ في الشريعة الإسلامية، أنه لا يجوز توقيع العقاب
على أي شخص إلا عن فعل قد تم النص على تجريمه، بشكل محدد ودقيق قبل ارتكاب
الفعل، وهو ما يُسمّى بمبدأ التنبيه والاستجابة، أي الإنذار والتحذير من جانب
المكلٍّف، ثم الاستجابة من جانب المكلَّف، فلا حكم ولا تكليف قبل ورود النص
المجرِّم للسلوك تجريماً محدداً، حتى يتمكن الأفراد من معرفة الأفعال التي تعدّ
محظورة، وبالتالي يسعون لتجنبها. ولذا فإنني أطالب الإدعاء العام، بإبراز
النص الذي يجرّم مطالبتنا بالإصلاح الشامل في بلادنا، كما أطالبه بإيراد النص
الذي يحدّد العقوبة المترتبة عليها. ثم أنني أتساءل ... كيف يمكن للإدعاء
العام، أن يكيل لنا كل هذه التهم الخطيرة والمحرّمة بحسب ما ورد في (لائحة دعوى
عامة)، إذا كانت أجهزة المباحث قد عرضت علينا أطلاق سراحنا في الساعات الأولى
من اعتقالنا، مقابل (تعهّد) يلزمنا بعدم ممارسة أي نشاط، مماثل لأنشطتنا
(المطلبية)السابقة؟ وهذا يدلّ على أن ماقمنابه لا يستحق التجريم أو العقاب،
وأن ما ادّعى به علينا الادعاء العام من تهم، يُعدّ أمراً باطلاً، وأن الأمر
الوحيد الذي نمثُل من أجله أمام فضيلتكم، هو رفضنا التوقيع على التعهّد المعروض
علينا من قبل الأجهزة الأمنية بتاريخ 25 - 1 - 1425 هـ. وحيث لا يوجد نص
يحدد الجرم ولا العقوبة المترتبة على ما ورد في لائحة الاتهام من ادعاءات، وحيث
أن ما شاركت فيه من نشاط سلمي يطالب بالإصلاح السياسي في بلادنا، هو أمر مشروع
يقع ضمن منظومة حقوق المواطنة، الذي كفلته القوانين والمواثيق الدولية التي
وقعت عليها المملكة، فإنني أناشد عدالتكم بالاحتكام في ذلك، إلى ما ورد في
(الميثاق العربي لحقوق الإنسان)(الميثاق)الذي وقعته المملكة، باعتباره جزءاً من
منظومة التشريع المعترف به في بلادنا، والذي نصت مادته (24)، على الحقوق
التالية: أ - لكل مواطن الحق في حرية الممارسة السياسية. ب - لكل مواطن
الحق في حرية تكوين الجمعيات مع الآخرين، والانضمام إليها. ت - لكل مواطن
الحق في حرية الاجتماع وحرية التجمع بصورة سلمية. وبأخذ هذه الحقوق المكفولة
للمواطن –بحسب النظام - بعين الاعتبار، فإن اعتقالي كل هذه المدة يعد امتهاناً
لكرامة الإنسان وحقوقه المشروعة، وقد رافق ذلك ارتكاب الجهات المعنية للعديد من
الانتهاكات أوجز بعضها فيما يلي: 1 - تم اعتقالي وزملائي بشكل تعسفي وبدون
سند قانوني، وهذا مخالف للفقرة (أ)من المادة(14)من الميثاق العربي لحقوق
الإنسان، حيث تنص على: (لكل شخص الحق في الحرية وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز
توقيفه أو تفتيشه أو اعتقاله تعسفاً بغير سند قانوني). 2 - عدم تمكيني من
الاتصال بأهلي يوم اعتقالي، وهذا مخالف لما جاء في المادة (14)من الميثاق، وفي
فقرتها (ج)التي تقرر: (.. كما يجب إخطاره فورا بالتهمة أو التهم الموجهة إليه،
وله حق الاتصال بذويه). 3 - تم وضع القيود في قدميّ في مطار الرياض، ولم تكن
قد ثبتت عليّ أية تهمة، وهذا أمر يحط بكرامة الإنسان أمام الناس، وهو مخالف لما
جاء في المادة(8)من (الميثاق، وفي فقرتها (أ)، والتي تقول: يحظر تعذيب أي شخص
بدنياً أو نفسياً، أو أن يعامل معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة، أو تحط
بالكرامة). 4 - بالرغم من إنهائي التحقيق مع المباحث في الدمام، ومع هيئة
الادعاء العام أيضاً، بدون حضور محامي، وفي الأسبوع الأول من فترة اعتقالي، إلا
انه لم يتم تقديمي إلى المحكمة إلا بعد خمسة اشهر من الاعتقال، والذي تضمن
الحبس الانفرادي لمدة شهرين، وهذا كله مخالف لما جاء في المادة (13)من
(الميثاق)، وفي فقرتها (هـ)، والتي تنص على : (يُقدّم الموقوف أو المعتقل بتهمة
جزائية دون تأخير أمام أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانوناً بمباشرة
وظائف قضائية، ويجب أن يُحاكم خلال مهلة معقولة أو يُفرج عنه). 5 - طالما أن
اعتقالي وزملائي واحتجازنا كل هذه المدة، قد تم بدون وجه حق، أو سند قانوني،
فإنني أطالب بإطلاق سراحنا وتعويضنا عما لحق بنا من أضرار مادية و معنوية، وفق
المادة، (14)، في فقرتها (ز)والتي تقول : (لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال
تعسفي أو غير قانوني، الحق في الحصول على تعويض). ومع احتفاظي بحقي في
مطالبة الادعاء العام بإبراز ما أشرت إليه بعاليه، وتدعيماً لما ورد آنفاً من
دفوع فإنني سأستعرض تفاصيل ردي على ما ورد في لائحة الادعاء العام من تهم باطلة
تليت - من قبل - على رؤوس الأشهاد، وسأمضي في تفنيد دعواه الباطلة الواردة في
(لائحة دعوى عامة)، في قسمين، يختص الأول منها بالبيانات والخطابات المطلبية
التي ساهمت في إعدادها أو التوقيع عليها، أما القسم الثاني فيختص بمداخلاتي
الحوارية في موقع الساحل على الانترنت. القسم الأول : الخطابات و البيانات
المطلبية أولاً : خطاب رؤية لحاضر الوطن ومستقبله لقد ساهمت مع عدد كبير
من المهتمين بالشأن العام في بلادنا، في التشاور والحوار لإعداد خطاب (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله)والذي قدم لسمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد
في يناير 2003م، حيث استقبل سموه عدداً من الموقعين على ذلك الخطاب، وعبر لهم
عن أن (رؤيتهم هي مشروعه). و إستناداً إلى قوله تعالى(إن أريد إلا الإصلاح ما
استطعت) فإن قضية الإصلاح السياسي والدستوري في بلادنا ليست جديدة ولا مستغربة،
وكانت المطالبة بالإصلاح مستمرة منذ الخمسينات الميلادية وحتى اليوم، ولكن هذه
القضية قد غدت هماً عاماً، وموضوعاً مطروحاً للنقاش على مستوى الكتّاب
والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، وعلى المستوى الشعبي أيضاً، وقد أصبح الحديث
عنها مفتوحاً في الكثير من وسائل الإعلام المقروءة، والمرئية، والمسموعة خاصة
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر،2001م. وإذا كانت بلادنا قد عانت من مشكلات
مزمنة في التعليم، والصحة، والإسكان، والعمل، والبطالة، والفقر، وارتفاع
مديونية الدولة، وتفشّي ظواهر الفساد المالي والإداري، فإن بلادنا أيضاً كانت
تعاني من غياب المؤسسات الدستورية، والمشاركة الشعبية، ومن غياب حرية التعبير
السلمي عن الأفكار والآراء. ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من
بروز توجه جديد للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وخاصة منطقة الخليج العربي،
بلغ حد التلويح باحتلال بلادنا أوتقسيمها، وقد وضعتنا في مواجهة حاسمة مع
خيارات أشد حسماً. ولذلك جرى الحديث بين الكثيرين من المهتمين بالشأن العام
في المنطقة الشرقية وجدة والرياض، حول ضرورة وضع رؤية تحليلية لواقع بلادنا
وتحديد أهم أزماتها واقتراح الحلول العملية لمعالجتها، وتم بلورة هذه الفكرة في
لقاء تم في البحرين على هامش مؤتمر (مقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي)بين
عدد من المثقفين حضروا المؤتمر، من مختلف مناطق المملكه . و بعد مداولات طويلة
تم اعتماد الصيغة النهائية للخطاب، و لذا يمكن القول بأن هذا الخطاب يعبر عن
توافق على المشتركات العامة فيما بين العديد من الشرائح والفعاليات الدينية و
الثقافية في بلادنا, حيال كافة التحديات التي نجابهها. ويستند هذا الخطاب
وما تبعه من خطابات أخرى, على الثوابت الواردة في المرافعة الأولى
السابقة. وقد انطلق خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)، الذي يعد أساسا لكل
الخطابات التي تلته من هذه الثوابت, وصاغها في عناوينه الرئيسية التي أوضحت
المشاكل و آليات الحل من خلال: محور الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وتضمن
التركيز على أهمية التنمية الأقتصاديه المستدامة،والتنمية البشرية,والعناية
بنشر ثقافة التسامح وحقوق الإنسان، وضمان التوزيع العادل للثروة بين مختلف
الشرائح و المناطق, والقضاء على كافة أشكال التمييز الطائفي والمناطقي،وتمكين
المرأه من نيل كافة حقوقها الشرعيه، والمبادرة إلى حل الأزمات المستفحلة في
مجالات التعليم والصحه والسكن ,والعمل والبطاله والفقر،ومعالجة المديونيه
المتضخمه،والقضاء على الفساد الإداري والمالي. محور الإصلاح السياسي:وقد حدد
هذا المحور الآليات الكفيلة بمعالجة تلك المشكلات, وقد تضمن و ضع دستور للبلاد
يقوم على الشريعة الإسلامية السمحاء، وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث،
وتعزيز استقلال القضاء، وإقرار المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار،والسماح بعمل
جمعيات المجتمع المدني، وكفالة الحقوق الأساسية للمواطنين في العدالة والمساواة
وحرية التعبير، وتكافؤ الفرص. أما بخصوص ماورد في (لائحة دعوى عامة)من تهم -
تجرّم المطالبة بالإصلاح السياسي الذي ذكرت مقوماته آنفاً - من حيث قول المدعي
العام (الطعن والتشكيك في نظام الحكم، ونزاهة القضاء، ومؤسسات الدولة) ص2 سطر
14،15فإنني أرد بما يلي : إن تبنّي الدول المتقدمة في العالم، والعديد من
الدول العربية والإسلامية من اليمن إلى البحرين إلى الأردن والمغرب وغيرها،
لآليات المؤسسات الدستورية وتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني، قد أثبت نجاحها
في تجسيد الوحدة الوطنية، وتطبيق مبادئ العدالة والمساواة وحرية التعبير، وأسهم
في القضاء على الفساد الإداري والمالي، وتثبيت أسس العدالة الاجتماعية لهذه
الشعوب، ويصدق في ذلك كلام إبن القيم في الطرق الحكمية حيث يقول (فإن الله
سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت
عليه السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثمّ
شرع الله ودينه). وإذا أردنا في هذا البلد الإسلامي المبارك، أن نسهم في
إثبات أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن نفتح باب الاجتهاد في تحقيق المصالح
الكلية التي جاء بها الإسلام، فإن الأخذ بآليات بناء الدولة الإسلامية الحديثة
المستندة إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، هو المدخل الصحيح
لمواجهة كافة الأزمات والتحديات التي نعيشها، وهو الكفيل بأن تبقى بلادنا، لا
كمهوى لأفئدة الناس وحسب، ولكن كأنموذج حي للدولة الإسلامية الحديثة، القادرة
على مواجهة أزماتها المعيشية، ومخاطر التطرف والإرهاب في داخل البلاد، ومواجهة
ما تحمله المخططات الأجنبية من تحديات للقيادة والشعب معاً. ومن جانب آخر،
فإنني أعتقد بأن ما ورد في خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) وما تبعه من
خطابات مطلبية أخرى، تعبر في مجملها عن مطالب أغلبية الشعب، ولا تقتصر على
المجموعات القليلة التي وقعتها. وحين يقول الادعاء العام في لائحة الدعوى
(حتى أصبح هذا التوجه أشبه ما يكون بمضمار يتنافس فيه هؤلاء وكأنهم أوصياء على
المواطنين، وهم فئة قليلة) ص1 سطر 12، فإنني أطالب بإجراء استفتاء شعبي عام
خلال مرحلة الإنتخابات البلدية القادمة، لكي نضع مصداقية تعبير هذه المطالب عن
المواطنين على محك الاختبار،لكي نحقق معنى الحديث الشريف(أنتم شهود الله في
أرضه). كما أؤكد على أن قلة عدد الموقعين على هذه الخطابات والبيانات المطلبية،
لا يعود إلى عدم تأييدها من أغلب الفعاليات الاجتماعية، وإنما يعود إلى تغييب
جمعيات المجتمع المدني في بلادنا حتى لا تعبر عن رأيها، بل إن كل ذلك يرجع إلى
غياب الحريات وسيادة القمع وتكميم الأفواه. وما اعتقالنا لمدة تزيد عن خمسة
أشهر بدون عرض قضيتنا على المحكمة الموقرة، وما اضطرار زملائنا من (دعاة
المجتمع المدني والإصلاح الدستوري)الذين اعتقلوا معنا على خلفية هذه الخطابات
المطلبية، وإطلاق سراحهم بعد أن فرض عليهم التعهد بعدم معاودة المطالبة
بالإصلاح السياسي، ثم منعهم من السفر، وما هذه التهم الجاهزة التي كالها لنا
الادعاء العام من خلال تجريمه لمطالبنا الشعبية العادلة، ومطالبته بإيقاع أقصى
العقوبات علينا، ومطالبته بالحجر علينا بالتعهد بعدم الاستمرار في المطالبة
بالإصلاح السياسي والدستوري، إلا انتهاك صارخ لحقوق المواطنة وحقوق الإنسان،
التي كفلتها الشريعة الإسلامية، ومواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها
بلادنا. ثانياً : بيان (معاً في خندق الشرفاء) وفق الاهتمام بالشأن
العام، وللرد على المؤامرات الخارجية ضد بلادنا، قمت مع عدد من المهتمين بالشأن
العام من مختلف أرجاء المملكة، بالتشاور في إعداد خطاب (معاً في خندق
الشرفاء)لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى)، وقد عبر الخطاب عن التمسك
بالوحدة الوطنية والالتفاف حول القيادة، كما عبر بالنص التالي: (نقف ضد كل
أشكال التدخل في الشئون الداخلية لأي دولة، أوتعريض أمنها ووحدتها للخطر، وندعو
كل الشرفاء في العالم لفضح وإدانة ما يتردد في كواليس الإدارة الأمريكية من
أفكار حول التدخل لتقسيم بلادنا المملكة العربية السعودية، تحت عناوين ومبررات
تجفيف منابع الإرهاب وقضايا حقوق الإنسان). كما تضمن الإشارة إلى مطالبة
القيادة بإجراء عملية إصلاح سياسي شامل. ثالثاً : خطاب دفاعاً عن
الوطن: شاركت مع عدد من المهتمين بالشأن العام، بالتشاور وإعداد خطاب
(دفاعاً عن الوطن)وقد كان أول بيان يعبر بشجاعة ووضوح عن إدانة الإرهاب في داخل
المملكة، بدون مواربة، استنادا إلى قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا
تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). وقد عرض البيان لأسباب الإرهاب الداخلية، ليس
من أجل تبريره، وإنما ليسهم مع غيره في البحث عن أسباب ظاهرة الإرهاب وممكنات
علاجها، وقد أدان البيان كافة أشكال العنف والإرهاب في العبارات التالية : (و
إننا في الوقت الذي نعلن فيه، عن إدانتنا واستنكارنا لكافة أشكال التطرف والعنف
المادي والرمزي، التي تسعى لاختطاف المجتمع، وتدمير مقومات وأسس الدولة، فإننا
نطالب كافة المشاركين في هذه الأعمال والمحرضين عليها، بالقيام بنبذ كافة أشكال
التطرف والعنف والإرهاب، قولاً أو عملاً). كما تضمن التذكير بما ورد في خطاب
(رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)، ودعا إلى البدء في الإصلاح السياسي الشامل كمدخل
لمعالجة كافة الأزمات والتحديات التي تجابهها بلادنا داخلياً وخارجياً. وقد
وقّع عليه أكثر من ثلاثمائة مواطن ومواطنة من الأكاديميين والأطباء والكتاب
والمثقفين من مختلف أرجاء الوطن وتكويناته الاجتماعية والدينية
المختلفة. لقد بادرنا إلى إعلان هذا الموقف الوطني الصادق في الوقت الذي لم
يجروء على التعبير عن هذا الموقف كثير من العلماء وطلاب العلم، وغيرهم مجاملةً
للتيار المتشدد. رابعاً : خطاب (معاً على طريق الإصلاح): وقد وقعت على
هذا البيان الذي تجاوز عدد الموقعين عليه ألف مواطن ومواطنه،والذي يتضمن
تأييداً للتوجهات الإصلاحية للدولة، ويطالبها بتنفيذ ما ورد في خطاب (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله)، وما تضمنه من توصيات مؤتمر الحوار الوطني الثاني
المنعقد في مكة المكرمة، والذي رعته الدولة. فهل يمكن أن يتم تفسير كل هذه
المطالب العادلة، والمواقف الوطنية المسئولة التي عبرت عنها مع المئات من
المواطنين والمواطنات، (على أنه تشكيك في نهج الدولة وإثارة للفتن وتجاهل لولي
الأمر)، وسواها من التهم المدونة في لائحة دعوى عامة ؟ القسم الثاني :
دفاعي عن الآراء الواردة في حوار على موقع الساحل على الانترنت، وإذاعة مونت
كارلو: أما فيما يخص الأقوال المنسوبة إليّ فمنها ما ورد في (نهاية الصفحة
الخامسة وبداية الصفحة السادسة)والتي تقول(إن من أهم أسباب انتشار العنف في
المملكة هو احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة ونفي ما عداه من مذاهب
وطوائف، مما أدى إلى تغلغل هذا التيار في كافة مفاصل النظم التعليمية والتربوية
والاجتماعية والسياسية). وقبل أن أورد في دفاعي عن ما ورد في هذه الجملة
الطويلة من آراء واجتهادات، أود أن أوضح حقيقة تتصل بهذا الأمر، وقد وردت في
ثنايا حواري على الإنترنت، ومفادها أن الاختلاف بين الناس، من حيث التشدد
والغلو أو التسامح والموضوعية، فطرة وطبع فطر الله عليها عباده. كما أن
التشدد والغلو لا يختص بفكر دون آخر، ولا بتيار أو مذهب دون سواه، وأن هذه
الظاهرة البشرية توجد في كل زمان ومكان، وقد نبهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه
وسلم إلى اجتناب المغالاة فيما ورد عنه في الحديث حيث قال (يسروا ولا
تعسروا،وبشروا ولا تنفروا). لذا فإن طريق الغلو والتشدد والتطرف والإرهاب
التي اختطها تيار ديني يستند إلى مذهب معيّن، لا يعني أن كل أتباع هذا المذهب
هم من المتطرفين. ووجود تفاوت بين المذاهب الإسلامية، أمر معروف لم أخترعه
من عندي، وإنما هو شأن متداول بين الجميع، وأشير هنا لما أكدّه الشيخ محمود
عاشور، وكيل الأزهر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، حيث نبّه إلى أن من
ابرز ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم، يكمن في الضعف والفرقة والتمزّق، و أن
سببه الرئيس هو الخلاف المذهبي بين المسلمين، وأن هذا المأزق، يفرض على ولاة
الأمور والعلماء والمفكرين، أن يبحثوا عن مخرج من هذا المأزق الذي يهدّد بمزيد
من تدهور الأمور . وانطلاقاً من إيماني بحق كافة مكونات المجتمع المذهبية
والطائفية والثقافية بانتهاج الأسلوب السلمي للتعبير عن آرائها واجتهاداتها
الدينية والحياتية، فإنني أعتقد أن من حق تيار الغلو والتشدد المستند إلى هذا
المذهب أو سواه، أن يعبر عن فكره واجتهاده بطريق سلمي. وهذا ما أتاحته الدولة
لهذا التيار عبر كافة المنابر والمؤسسات على مدى زمني طويل. إلا أن تفرده
واحتكاره للفهم الصحيح للعقيدة ونفيه لما عداه، قد دفعا به إلى مرحلة التشدد
والتطرف التي نعيشها, حيث خرج على تيار الاعتدال والوسطية داخل نفس المذهب الذي
يمثله كبار العلماء، وخرج بالعنف المسلح على المجتمع والحكومة على
السواء. ولذا وقفت كما وقف غيري أمام ظاهرة التشدد والغلو والتكفير
والإرهاب، لأرى أنها ظاهرة معقدة وتنطوي على أسباب عديدة فكرية ومعيشية وسياسية
واجتماعية وتتداخل في تكوينها عوامل داخلية وخارجية أيضاً، مثل حرب أفغانستان،
والمظالم الأمريكية والإسرائيلية في العالمين العربي والإسلامي. وبالرغم من
قناعتي بأن الإرهاب لا ينمو ولا يترعرع إلا في ظروف غياب الحرية، وتفاقم
الأزمات الحياتية للناس، إلا أن تيار التشدد والغلو الذي يبلغ مرحلة التكفير
والإرهاب في بلادنا قد حظي بمساحة كافية من الحرية .ولكنها الحرية القاتلة،
التي قمعت ما عداه من مكونات المجتمع، وقضت على إمكانية الحوار مع تيار الوسطية
والاعتدال ومع المذاهب الفقهية الأخرى، وكرست إيهامه بصواب ما يذهب إليه، وجعلت
منه كياناً مستبداً يحتكر الحقيقة. ولذا تمكّن من الاستحواذ على قلوب الشباب
وتجنيدهم في تنظيمات في مختلف مرافق الدولة ومناطق المملكة، ولو أن الباب كان
مفتوحاً أمام حرية التعبير، وتكوين جمعيات المجتمع المدني، وأمام فقهاء المذاهب
الأخرى، وأمام العقلاء من نفس المذهب، لما توهم ذلك التيار أنه على صواب دائم،
ولما تمكّن من الاستحواذ على هذه القاعدة الكبيرة من الشباب، لأنها ستتوزع على
المذاهب والتيارات الأخرى،مما يساعد على نشؤ حوار ثقافي وفكري، يؤدي إلى ترسيخ
مبدأ القبول بالاختلاف، ومبدأ (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل
الصواب)الذي قال به الشافعي. (ولضيق الوقت، فلن أجد مجالاً لقراءة مذكرة
كتبتها، تحدد مفهوم العنف والإرهاب من جهة، وتوضح مفهوم المجتمع المدني
وجمعياته المختلفة، ودورها في الحد من ظاهرة التشدد والإرهاب، وأرفقها
لفضيلتكم، وأرجو اعتبارها جزءاً من مرافعتي). ويتفق مع مجمل ما ذهبت إليه،
كثير من الكتاب والمثقفين الذين ينشرون آراءهم في صحفنا السعودية، وأستشهد
برأيين في هذا الصدد للدكتور خليل الخليل والشيخ أحمد بن عبد العزيز ابن
باز. يقول د. خليل الخليل، الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في
مقال بعنوان (مؤتمرات و مواقف للبراءة.. والإرهابيون ما زالوا يقتلون
ويفجرون) (أن الإرهاب قضية معقدة وتحتاج إلى مصداقية في الطرح، ووضوح في
الرأي، والدولة في حاجة إلى تحرك الجهات الثقافية، وفي حاجة إلى تفعيل المؤسسات
الدينية، إلا أن الحقيقة المرة، التي تتمثل في فقدان التعليم الديني حيويته،
وغياب أسماء دينية وكبيرة ومؤثرة، إضافة لتشدّد الخطاب الديني، كل هذه الأشياء
هي مسئولة أولاً وثانياً وثالثاً، عما حدث ويحدث)(الشرق الأوسط - في
29/4/2004). ويقول الشيخ أحمد بن عبد العزيز ابن باز في مقالة بعنوان (سياسة
الإقصاء): (إن سياسة إقصاء الآخر وعدم الاعتراف به ونزع الصبغة الشرعية عنه،
وامتلاك الحق الأوحد في تفسير النص، وهي أهم صفات التطرف الفكري والذي يمارس
لدينا في هذا البلد المبارك وبشدة، للأسف من بعض العلماء وطلاب العلم).. ويمضي
في حديثه إلى أن يقول : إننا وبصراحة لا نعاني من أفعال متطرفة وحسب بل نعاني
من بيئة متطرفة نعيشها جميعا، استطاع ذلك المنهج الاقصائي أن يساهم في إنشائها
ويغرس جذوره فيها ويغذيها، عبر جميع وسائله التي يملك حقاً حصرياً باستخدامها
منذ عقود من الزمن، من برامج تعليمية، وإعلامية منهجية كانت أو غير منهجية في
هذا البلد المبارك (الشرق الأوسط 9320 في 4/6/2004). هذا ما يخص الجانب
الفكري الذي يبدو لي كسبب رئيس في تفشي ظاهرة الغلو والتطرف والعنف، أما
(العوامل المعيشية المتمثلة في الأزمات الصحية والتعليمية والإسكانية والفقر
والبطالة)التي وردت في حواري على الانترنت، فإنني أرى بأنها عوامل مساعدة، ولكن
هذه العوامل تفسّر حالة الصمت أو التعاطف - التي لا ينكرها أحد - مع تيار
العنف. بيد أن الأهم من ذلك يكمن في أن هذه الأزمات المعيشية المتزامنة مع
كبت حرية التعبير، سوف تعمل على تأزيم الأوضاع لكي تلد عنفاً جديداً، وبأشكال
مختلفة، ما لم تسارع القيادة إلى البدء الجدي في عملية الإصلاح السياسي
الشامل. إننا نمتلك جيوشاً من العاطلين عن العمل، ومن الطبقات الفقيرة
والمحرومة، ومن الشباب والشابات الذين لا يجدون لهم مقعداً في الجامعات، ومن
المهمشين بدون جنسية، بما يكفي لخلق حالات أخرى، وصعبة من العنف. ولو أن هذه
الأزمات حدثت في الصومال، أو أي بلد فقير آخر، لما اعتبرناها سبباً مساعداً في
توليد العنف والإرهاب، لأننا قد عشنا حالات الجوع والفقر مع الآباء، واعتدنا
عليها كأمر طبيعي يشمل كافة الشرائح والطبقات، أما أن تحدث في بلد ينتج منذ
أكثر من ربع قرن، ما يزيد على ثمانية ملايين برميل من النفط يومياً، ويتجاوز
دخل حكومته مئات المليارات سنوياً، وتنيف مديونيته عن سبعمائة مليار ريال ؛ فإن
ذلك يصبح كارثة بكل المقاييس، وتؤدي بالمواطنين إلى الإحباط ودفعهم للصمت أو
التعاطف مع الإرهاب أو التعبير عن احتياجاتهم بعنفٍ جديد. أفي بلد
(البترول)جوعٌ وعسرة ُ و(دين)تغشّانا، جبالاً رواسيا أفي بلد
(البترول)عجزٌ، ولم نجد لطلابنا في الجامعات كراسيا أفي بلد
(البترول)مليون عاطل ومليون مسكينٍ، ينادي المواسيا ؟ ترمّدت الآمال يا
(جيل)حاضري ويا (جيلنا)الآتي، ستحسو المآسيا لعبنا ب (مال الشعب)حتى
ترمّلت بلادي، فلا تلقى من العري كاسيا واستطراداً في الإجابة على ماورد
من كلامي في الانترنت حول (تغلغل هذا التيار المتشدد في كافة مفاصل النظم
التعليمية والتربوية والاجتماعية والسياسية، وأنه تم استقطاب الشباب وتجنيدهم
ضمن رؤية أيديولوجية تكفّر المجتمع)ا.هـ. (آخر صفحة 5 وبداية صفحة6)، فإنني
سأستشهد هذه المرة بما يؤكد ما ذهبت إليه، وذلك بالإشارة إلى بعض ما عبر به
المسئولون في الحكومة حول مشكلة الإرهاب. وهنا أورد جزءاً صغيراً من مقالة
كتبها الأمير خالد الفيصل، ونُشرت في جريدة الوطن بتاريخ 12/6/2004م حيث يقول
فيها : (من علّم طفل دار الأيتام أن وطنه الإسلام - وليس السعودية - وأن مهنته
المستقبلية هي الجهاد، وأن مشاهدة التلفزيون السعودي حرام لأن فيه موسيقى؟ من
حول ساحات المدارس والجامعات إلى معسكرات حركية وجهادية؟! من حوّل المخيمات
الصيفية إلى معسكرات تدريب على الأسلحة؟ من أقنع الشباب السعودي بأن أقرب طريق
للجنة هو الانتحار, وقتل المواطنين والمقيمين ورجال الأمن وتفجير المجمعات
السكنية؟ من فعل هذا بنا؟ أعتقد أن كل من في هذه البلاد يعرف الفاعل
المسئول عن كل هذا, وما هي إلا عودة للكتب والمطويات والأشرطة, التي وزعت بمئات
الآلاف, في المدارس والجامعات, والمساجد والجمعيات الخيرية, في السنوات العشرين
الماضية, لنجد الأسماء مطبوعة عليها بكل وضوح!!! ومواقع الإنترنت تكشف عن
البقية.)انتهى كلام سمو الأمير. أما من جانبي فإنني أتساءل أيضاً .. ألم يتم
ذ لك تحت سمع وبصر المؤسسات الحكومية، وتتحمّل بذلك وزر ما حدث ؟ أما معالي
وزير الشؤون الإسلامية فقد ذكرت جريدة الحياة في عددها 15074وتاريخ 572004م، أن
معالي وزير الشؤون الإسلامية، الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، قد اتهم بعض
الإسلاميين في المملكة بمجاملة الإرهابيين والمنحرفين فكريا،والافتقار إلى
الشجاعة في بيان الأحكام الشرعية وأداء الأمانة. وذكرت الصحيفة أنه عبر عن(خيبة
أمله من تدني كفاءة الدعاة وطلاب العلم)، وإخفاقهم في دحض دعاوى التكفير
ومبررات التفجير، وختم كلامه بالقول(لعل هذا يكون بداية لمزيد من الاهتمام
بترسيخ الوسطية والاعتدال في مدارسنا وجامعاتنا، وكل أمور حياتنا، تطبيقاً
لتعاليم القرآن الكريم الذي جعلنا أمة وسطا)ا.هـ. و أصل الآن إلى حديث سمو
ولي العهد الأمير عبدا لله بن عبدا لعزيز، الذي وجهه إلى أئمة المساجد وبثّه
التلفزيون أكثر من مرة، بحيث أصبح معروفا للقاصي والداني. وقد ذكّر سموه أئمة
المساجد، بواجبهم في تبصير الشباب بدينهم وبأخطار الإرهاب، وأشار إلى تقصير
الكثيرين منهم، وأن الله سيسلط عليهم عبداً من عباده، وأكمل سموه (ونحن من
عباده)، وإننا نراقبهم فرداً فرداً. وحين نقف أمام الدعاة وأئمة المساجد،
فإننا نتساءل: أليسوا من أبناء الوطن، ومن نتاج مناهجه؟ ألا يسيطرون على أهم
المفاصل الدعوية والتربوية في البلاد؟ ثم أليسوا موظفين لدى الحكومة؟
وسأستمر في التساؤل حول شرائح أخرى، من الأفراد والجماعات المتشددة لأسأل:ألم
يكن أسامه بن لادن أحد أبناء هذا الوطن؟ ألم يشترك خمسة عشر شابا انتحاريا
من المملكة في أحداث 11 سبتمبر؟ ألا يوجد المئات من الشباب السعوديين
يقاتلون في أفغانستان و الشيشان و العراق؟ وبالنسبة لأعضاء التنظيمات
الإرهابية الذين أزهقوا أرواح المئات من رجال الأمن المخلصين، ومن المواطنين
المقيمين في بلادنا، ألا ينتمون إلى الوطن وإلى مناهجه وأنشطته الدعوية؟ ألم
تعتقل الأجهزة الأمنية المئات منهم؟ فمن أين أتوا، ومن أين رضعوا فكر التشدد
والغلو والتطرف والإرهاب؟ وأرجو بعد إيراد هذه المقتطفات والتساؤلات أن أكون
قد دفعت عني التهمه التي تقول(كما تضمنت التشكيك في نهج الدولة والطعن في
كيانها القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتبرير العنف
والإرهاب، واستغلال العمليات الإرهابية، للنيل من نهج البلاد والطعن في
مرتكزاتها الدينية، وزعمه أن نهج الدولة و سياستها ساهم في نشأة الفكر الإرهابي
والتكفيري)ص6 سطر 4 - 7 وأؤكد هنا، أن ما عبّرت عنه لم يتضمن التشكيك في نهج
الدولة و لا الطعن في كيانها، القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، لأن من ينطلق من ثوابت العقيدة الإسلامية، و تعزيز الوحدة الوطنية، ويؤكد
الالتفاف حول القيادة، لا يمكن أن يشكك في مشروعية الدولة ومرتكزاتها الدينية،
وأن ما عبّرت عنه هو قراءة نقدية للأخطاء التي ارتكبتها الأجهزة الحكومية، لكي
يشرع الجميع في العمل على مواجهة التحديات ومنها مشكلة الإرهاب. أما ما
يتعلق بتهمة تبرير العنف والإرهاب (6 ص سطر 6)فقد قلت في نفس الحوارعلى
الانترنت، الذي استشهد به الإدعاء العام، ما يلي (وبالرغم من أنني أنطلق هنا من
إيماني بحق كافة القوى في التعبير عن حقوقها، ولا أهمّش دور الأوضاع المتأزمة،
التي يمكن أن تقود إي تيار لاتخاذ الشكل الملائم للمطالبة بحقوقه، إلا أنني
أدين وبشكل مبدئي قاطع، كافة أشكال العنف المسلح، كوسيلة للمطالبة بهذه الحقوق
مهما كانت هذه الأسباب).
أما بخصوص التهمة التي تقول (والسعي إلى إثارة
الفتن وبث بذور الخلاف بين أبناء الشعب، وإثارة التحزب المذهبي والطائفي)ص 1
سطر 6 فإن ردي على ذلك كالتالي : إن الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية
التي تواجهها بلادنا تستدعي منا، أكثر من أي وقت مضى العمل على تدعيم الجبهة
الداخلية، والتمسك بالوحدة الوطنية، لكن الوحدة الوطنية لا تقوم على التمييز
الطائفي والمذهبي والمناطقي، ولا على حرمان بعض الشرائح الإجتماعية والمناطق من
نصيبها في الثروة والمراكز القيادية، ولكنها تترسخ بالاعتراف بالاختلاف، وبحق
تلك الفئات، والمذاهب، والطوائف في الوجود والتفاعل مع المكونات الأخرى بدون
قسر أوتهميش أو إقصاء. وإن ما طالبنا به من إزالة لكافة أشكال التمييز المذهبي
والطائفي والمناطقي، ومن مطالبة بالتوزيع العادل للثروة، هو السبيل الأمثل لرفع
الغبن، وتعميق الإحساس بالمواطنة، وهو ما يقوي ويرسّخ دعائم الوحدة الوطنية
والالتفاف حول القيادة. وبخصوص التهمة الواردة في (ص6 السطر 13 - 20)والتي
تقول (وأن هذه المؤسسة لا تستجيب – على حد زعمه – لضرورة التغيير، وحثه على
استغلال المرحلة الدولية والمعارضة المطلبية في الخارج في الضغط على الحكومة
للتغيير – بما يخدم مصالحهم – وكذلك الحث على استغلال السياسة الأمريكية
الجديدة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في المنطقة، والتي ترفع شعارات
مكافحة الإرهاب والخطر الإسلامي والدفاع عن حقوق الإنسان والجماعات الإثنية
والدينية وحقوق المرأة، حيث يمكن – على حد قوله – أن تتقاطع مصالح تطوير
بلادنا، مرحلياً مع تلك الشعارات، وأنه يجب الاهتمام بها والسعي بكل السبل في
تعزيز فعاليات تطبيقها في البلاد على حد زعمه)ا.هـ. فإنني أقول بأن هذه
الدعوى قد أوردت كلامي بشكل محرّف، وأثبت لكم أدناه ما قلته حرفياً، وهو ما آمل
أن يبطل التهمة. لقد قلت (أما فيما يخص العامل الخارجي، والذي يمكن تحديده
بشكلين هما : تأثير المعارضة المطلبية من الخارج من جهة، وتأثير ضغوط الدول
الأجنبية على الوضع الداخلي من جهة أخرى. وفيما يخص الجانب الثاني، فأرى أن
السياسات الأمريكية الجديدة وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تسعى لفرض
سيطرتها الشاملة على العالم، وعلى مقدرات وثروات المنطقة العربية تحديداً، وذلك
تحت عناوين مكافحة الإرهاب والخطر الإسلامي، أو الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة
والجماعات الإثنية والدينية، وذلك بصورة ذرائعية تصب في طريق تحقيق مصالحها
وسيطرتها المطلقة على المنطقة، واستخدامها كورقة ضغط وابتزاز إزاء المنافسين
الآخرين أو إزاء حكومة بلادنا. وبالرغم من كل ذلك، لا يمكننا إغفال الأهمية
الكونية لهذه القيم والمفاهيم باعتبارها تمثل ضرورة وحاجة مشتركة لكل البشر.
ولذا يمكن أن تتقاطع مصالح تطوير بلادنا مرحلياً مع تلك الشعارات، وعلينا
الاهتمام بها والسعي بكل السبل لتعزيز فعاليات تطبيقها في وطننا وفي كل مكان في
العالم). وأود إيضاح المقصود من عبارة (لذا يمكن أن تتقاطع مصالح تطوير
بلادنا مرحلياً مع تلك الشعارات)بالتشبيه التالي : لو أن ألدّ أعدائك مر من عند
بيتك وأنت تطفئ النيران المشتعلة فيه، وقال إن هذا البيت يحترق ولا بد من إطفاء
النار، فهل تتوانى عن إطفاء الحريق لأن كلامه توافق مع ما تقوم به ؟ وأما
حديثي عن المعارضة الخارجية فقد قلت فيه حرفياً : (أما فيما يخص تأثير
المعارضة الخارجية فإنني أتركه للزملاء المساهمين من خارج المملكة للحديث عن
فعاليته، فهم أدرى به مني). (وهنا أرجوا من عدالة المحكمة أن تتطلع على كامل
الحوار لتقف بنفسها على إدانتي للإرهاب، ووقوفي ضده، وعلى تركيزي على تعميق
وتجسير العلاقة مع القيادة). وأما بشأن تهمة المشاركة في حضور اجتماع خارج
البلاد مناقشة بعض قضايا الشأن العام للبلاد، فإن كان المقصود هو الاجتماع الذي
عقد قي البحرين على هامش (مؤتمر مكافحة التطبيع مع العدو الإسرائيلي)فقد أجبت
بالموافقة عليه سابقاً، وهو حق من حقوقي كمواطن، أما أن يكون لقاءاً أخر فأرجو
إيضاح ذلك. وفي الختام، أود الإشارة إلى ما ورد في آخر (لائحة دعوى عامة)من
أنه قد سبق توقيفي في 14/3/1403هـ لانتمائي لما يسمى (الحزب الشيوعي في
السعودية). وأؤكد هنا على صحة هذا الكلام، إلا أنني اعتقلت قبل ذلك التاريخ
بحوالي أربعة أشهر. وقد كنت منتمياً إلى إحدى منظمات الحزب وهي (لجنة أنصار
السلم)وتعمل كلجنة لحقوق الإنسان، والإسهام في الجهود الثقافية العالمية لتثبيت
دعائم السلم العالمي، والحوار والتعايش بين كافة شعوب ودول العالم. كما أود
أن أوضح بأن هذا الحزب، كان تنظيماً سياسياً يعبر في برنامجه – الذي توجد نسخة
منه لدى الجهات الأمنية – عن تبنيه للاشتراكية كآلية لتحقيق العدالة الاجتماعية
الكفيلة بضمان العيش الكريم للمواطنين، ولا سيما الطبقات الفقيرة منه.
وإنني أستغرب الحديث عن هذا الموضوع بعد مضي أكثر من 23 عاماً عليه، لا
سيما وأن الدولة خلال فترة اعتقالنا كانت تنفي وجود معتقلين سياسيين في سجونها
سواء من الحزب الشيوعي أو من حزب العمل الاشتراكي، كما أن قضيتنا لم تُحل
للمحكمة الشرعية، رغم إضراب بعضنا عن الطعام في السجن ومطالبتنا بمحاكمة علنية
عادلة. وقد تم الإفراج عنا بعفو ملكي عام 1403هـ،بعد أن نالني جراء ذلك قضاء
مدة تقارب عشرة أشهر في السجن، كما تم فصلي من عملي بعد إطلاق سراحي، وتم
حرماني من السفر إلى الخارج، لمدة تتجاوز أثني عشر عاماً. كما أن الأجهزة
الأمنية طلبت منا يوم الإفراج عنا، عدم التحدث عن موضوعنا للناس، كما أن خطاب
وزارة الداخلية الموجه لمقر عملي في (أرامكو)لفصلي من عملي، لم يشر إلى اعتقالي
في قضية سياسية، وإنما ذكر (أن المذكور قد سجن في قضية معلومة لدى سمو وزير
الداخلية). واليوم.. إذا أردنا أن نعمل بشكل إيجابي ملموس، على جعل الإسلام
مصدر جذب وأنموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، فإن علينا أن نقطع الطريق على
القوى التي اختطفت الإسلام، وعملت على تسويقه كدين تطرف وعنف وإرهاب وعداء
للآخر وللعصر. وإذا أردنا أيضاً أن نرد على هجمات القوى المعادية، التي تصِم
الإسلام بالتخلف والرجعية، والتمييز ضد المرأة، فإن علينا أن نبرز الوجه
الحضاري للإسلام، الذي يحقق قيم العدل والتسامح والإقرار بحق الاختلاف، وقبول
الآخر. كما أن علينا الأخذ بآليات وهياكل بناء الدولة الحديثة، القادرة على
تطبيق العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة من نيل حقوقها الشرعية،
وكل ما من شأنه تحقيق التطبيق الأمثل للعدالة الاجتماعية. وأعتقد أن كل ما
قمت بالتوقيع عليه _ من خطابات وبيانات _ مع المئات من المواطنين، من العلماء،
والأكاديميين، وأساتذة الشريعة، والمثقفين، والمهتمين بالشأن العام رجالاً
ونساء، ما هو إلا إسهام منا للمطالبة بإرساء دعائم الدولة الإسلامية الحديثة،
التي تتبنى الدستور القائم على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
والذي ينص على الفصل بين السلطات الثلاث، وتعزيز استقلال القضاء، وكفالة حرية
التعبير عن الرأي بكافة الطرق السلمية، وتشريع قيام جمعيات المجتمع المدني
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، للتعبير عن مطالب منتسبيها. إن
كل ذلك سيعمل على إبراز الوجه الحضاري للإسلام، وتأكيد صلاحيته لكل زمان ومكان
على صعيدي العقيدة وتطبيقات العدالة الاجتماعية. وإن في تبني هذه الآليات، ما
يدعم الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي، ويعزز تماسك الجبهة الداخلية، وتجذير
الانتماء الوطني، ويدعم الالتفاف حول القيادة، لكي نجابه جميعاً كافة التحديات
الداخلية والخارجية، وكافة الأزمات التي تواجهها بلادنا اليوم وغداً.
-
مرافعة (2), طول النص مرة أخرى !
وتلخيصا لدفاعي ضد التهم الموجهة إليّ أوضح ما يلي : 1- انطلق
المدعي العام في دعواه من مقدمة خاطئة، ترتب عليها خطأ كل ماتبعها من نتائج ,
فقد بدأ العريضة، بحقيقة أننا قمنا بتبني بيانات، وإصدار عرائض موقّع عليها من
جموع من المواطنين السعوديين، وقد افترض بأن في هذا العمل جريمة يعاقب عليها
النظام, دون أن يبين ماهو مصدره في التجريم، وبالتالي في المطالبة بالعقوبة,
فالقاعدة الشرعية والنظامية تقول بأن :لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص . وقد نص
نظام الإجراءات الجزائية السعودي في المادتين (2)و (3)بما فيه تأكيد على هذا
المبدأ, وذلك بشكل يتوافق مع ما جاء في النظام الأساسي للحكم في
المادة،(36). فأين هو النص الذي يجرّم هذا الفعل ؟ وأين النص الذي يحدد
العقوبة المترتبة عليه؟ 2 - زعم الادعاء بأن في مطالبنا ما يعد تهميشاً لدور
ولي الأمر في البلاد, بينما نرى أن في مطالباتنا تنظيم للصلاحيات، وبشكل يحقق
مصالح البلاد العليا, وقد قمنا بتقديم مطالبنا بطريقة سلميةوعلنية، تتوافق مع
مبادئ الشرع المطهر, الذي جاء بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومتوافق
مع قوله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة
قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم),
وقد حدثتنا كتب السير عن أن الصحابة كانوا ينا صحون الرسول صلى الله عليه وسلم
ولم يكن ينكر عليهم ذلك، عرفنا ذلك في قصة الخندق مع سلمان الفارسي, وفي قصة
أسرى بدر, وموقع الجند في بدر وغير ذلك. كما أن هذا المبدأ جاءت به الأعراف
والمعاهدات الدولية التي حمت حق الإنسان بتشكيل الجمعيات السلمية, وأكدت على
حقه بحرية التعبيرالمنضبط , كما يفهم من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية
والسياسية في المادتين (19)و (21), وفي المادة (19)من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان. وفي كل الأحوال فإن ما قمنا به لا يخرج عن نطاق الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر, ومفهوم النصيحة, حسب ما جاء في الفقه الإسلامي, وعن مفهوم
حرية التعبير في المفهوم القانوني والنظامي. 3 – ما زعمه الادعاء بأن في
مطالبتنا بالفصل بين السلطات خروج عن الطاعة هو غير صحيح, وفيه تحميل لما لا
يحتمل, فالخروج عن الطاعة لا يكون إلا في الخروج المسلح فأين يكون نزع الطاعة
من أشخاص يبدؤون خطابهم بمخاطبة ولي الأمر بالأمرة, ويختمونه بالدعاء له ,
وبالاعتراف له بالقيادة والزعامة؟ والحقيقة أن مبدأ الفصل بين السلطات هو من
المبادئ السياسية الحديثة, التي أجمعت على تطبيقها أمم العالم جميعها, حتى صار
من المبادئ السياسية والإدارية المسلّم بها عند الجميع لتحقق المصلحة فيها
وبها، كما أن هذا يعرف في علم الإدارة بمبدأ تقسيم العمل، وهو علم يُدرّس في
عدد من جامعاتنا . ومطالبتنا إيضاً بتطبيق هذا المبدأ لا يخرج عن كونه
داخلاً في دائرة الاجتهاد, لتحقيق مصالح المواطنين بالشكل السليم والأمثل. 4
- زعم الادعاء بأن في مطالباتنا إثارة للفتنة و تجاهلاً لولي الأمر, والحقيقة
أن القيادة الرشيدة ممثلة بولي العهد رعاه الله, قد رحبت بمطالباتنا في خطابنا
الأول، وقد استقبلنا سمو ولي العهد وشد من أزرنا وقال لنا بأن رؤيتكم هي
مشروعي. 5 - إن بلادنا حفظها الله مستهدفة, وأن العالم ينظر لهذه المحاكمة
بعين الترقب والتربص, وأن محاكمتنا على أراء أبديناها بطريقة سلمية وحضارية،
فيه مدخل لأعداء هذه البلاد, فمثل هذه المحاكمة وكما تعلم المحكمة الموقرة، لا
تقرها أنظمة حقوق الإنسان والتي وقعت المملكة على الكثير من عهودها, كما أن
الحكم ببراءتنا فيه دليل على استقلال القضاء وعلى عدالة الشرع. مما سيلجم كل
متربص ببلادنا، رعاها الله وحفظها من كيد الكائدين. وبهذا أنهي دفاعي، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأنبياء
والمرسلين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علي بن غرم الله
الدميني الغامدي
-
أغنية الحرية !
القسم الثالث قصائد من السجن
للأيام
الخضراء..!
أهبط من هلع التحقيقِ، إلى قاع الزنزانةْ أتلمّس قلبي هل
لا زال مكانه! أفتح صدري لهواء الشارع، يأتيني من ثقبٍ في البابْ يفجؤني
وجهٌ في الحائط، مملوءٌ بالأحبابْ يسترخي قلبي .. تعرق أطرافي
..
في الزنزانة أتمترس خلف الشعر، وخلف الشعراءْ أصرخ بالأموات
وبالأحياءْ إني سأقاوم موت البرد وما اقترفت أقلام الظلمة من أخطاء. و
الآن أرى الآن أرى أبصر عادل مبتسماً تحضنه نجلاء ْ وأرى الأطفال
يغنون صباح مساءْ يا للأيام القادمة الخضراء ! يا للأيام القادمة
الخضراء يذهب عني الروع فأُسلم قلبي للنومِ ، صباح العاشر من
عاشوراء.
1982م - سجن وزارة الداخلية -الرياض
محاولة..!
حاولني الضابط أن أجادل البرهانْ وأن أغيّر الشارة
والمكانْ لكنني قاومتْ، ورغم ما خسرتْ، أعرف أنني سأكسب
الرهانْ.
1982م- سجن وزارة الداخلية -الرياض سوف تصعد ..........
!
سوف تصعد يا سيدي السّلّما كلّما.. حاصرتني يداكْ وستحمل في
صدرك الأوسمة كلّما.. أوجعتني خطاكْ غير أنّك يا سيدي، سوف لن تنسى
لي أنني قد رفعتك من مسغبةْ، ووضعتك في مرتبةْ، وأنا ،بعدُ، لم أنس
لكْ وجهك الجهم ، حين يحين الحسابْ
1982م - سجن وزارة الداخلية
-الرياض جاري السلفي
( كان جاري السلفي في الزنزانة الملاصقة
لزنزانتي، فقيهاً شامياً من جماعة جهيمان، وقد قضى في الزنزانة الانفرادية ثلاث
سنوات، ولم أر وجهه إلا لحظة خروجه من السجن، وهو يزحف على ركبتيه عبر بلاط
الممر الطويل)
جاري السلفيّ أتذّكر صوتك ذاك الشجيّ وشجاعتك
الآسرةْ وأغانيك منتصف الليل عقب القراءة والهمهمات عن الآخرةْ
جاري السلفيّ كل يومين تطرق حائط زنزانتي تتساءل عن حالتي وتحدثني عن
مظالم مسطورةٍ وأمانٍ في الصدر ريّانة حائرة جاري السلفيّ أنت قلب
أبيّ رغم أنك لم تر وجهي ولم أر وجهك غير أن الطريق يوحدّنا ضد
طغيان...... ولم يكتمل هذا الشطر حتى اليوم))
1982م - سجن وزارة الداخلية -الرياض
( كنت أتعاطف معه في تلك
الأيام القاسية لأنه يناهض الحكومة، أما اليوم فإن موقفي المبدئي قد تبدل
تماماً، وأصبح يعبر عن إدانته لكل من يتوسّل بأي شكل من أشكال العنف كوسيلة
للتغيير والإصلاح أو لاستغلال القانون، مهما كان هذا العنف رمزياً أو
مادياً). يا سادن السجن !
أقسمت بالله لا خوفاً ولا كذباً يا
سادن السجن أن السجن قد عَذُبا صمتٌ ونومٌ وأحلامٌ
منزهةٌ من رعشة الروح أو ما زادنا طربا فاهنأ بنا خير محكومين في
قفصٍ لا نسأل الجند إلا الماء والكُُتُبا لكنّ لي في أقاصي الأرض
عائلةً قد فارقت - باجتهاد الظالمين - أبا فلتعطني سبباً كيما
أبلّغهم بأنني قد فقدت البحر والسُحبا نُقلت من جنّة الدمام في
غسقٍ دامٍ إلى ظلمة الصحراء مُنتهبا
يا سادن السجن هل هذا الظلام
لمن أسرت به (رؤية) الأحرار وانتسبا لدعوة الخير والإصلاح في وطنٍ
ظمآن، قد أُسملت عيناه وانتحبا واستصرخت حشرجات الناس صورته فهل ّ من
قيضه الأحجار والحُجُبا
يا سادن السجن إنا قائمون هنا حتى نرى بارقا
ًمنا قد اقتربا (حرية الشعب) و(العدل) الرشيد وما نراه في دفتر( الدستور)
قد كُتِبَا
الرياض- سجن عليشة
،20-5-2004م
نهر الغياب
( طُلّي) على نصف وقتي إنني
ثملٌ ؟ بالفقد، مستوحشٌ من ذا ينادمني ومن يلمّ على الذكرى ملابسنا
ومن سيشرب، في الظلماء، من شجني؟ أمسيت ظلاً على الأشياء، أذكرها حيناً،
وحيناً، أُنسّى من يجاذبني مجاز شعري، وما كنا نخايلهُ في ضفة الحلم أو
ما كان يفتـنني يا أم عادل، يا صبحاً أهشّ به كآبة السجن، والآلام
في بدني أشرعت بابي على الأحباب فانهدمت معابد الشوق في عمري بلا
ثمنِ واستوحش القلب من صمت الأحبة، من منامهم، مثلما الأحجار في
المدنِ ورحت أسأل هل صوتي به صممٌ أم أن (ربعي) مضوا للشام أو عدنِ
نهر الغياب ، غياب النهر، وا أسفي لبارقٍ غاب في سيمائه الوثني
*
* * أغلقت بابي على بابي فحطّ بهِ وجه الحبيبة، ملهوفاً
يعانقني يا( فوز).. يارفّة الأفلاك، يا شجراً يخطّ في الأرض ما أهواه
من ُسنني يا طائراً لا يخاف الريح إن عصفت ولا يهاب المنايا في خطى
الزمنِ
أسرى بك الشوق من شرق البلاد إلى غروبها، موجة حمراء
تسندني لله هذا العناء الرحب، يا فرحي ويا جنوني، ويا سري ويا علني
تجمّلي بأريج الحلم وانتشري سحابةً تحمل الأمطار للوطنِ
الرياض- سجن عليشة- 2004م
كلمات للقيد .... وأغنية
للحرية
( خُلقت ألوفاً لو رجعت ) لبيتنا لألفيت قلبي في (عليشة)
باكيا * فقد علمتني أن للعدل موعدا وللشعب – إن ضاقت – بروجاً
عواتيا وأني خطبت (الحق) في كل ( مطلبٍ ) وما كنت فيما قد كتبت معاديا
وسطّرت في كل الخطابات (رؤيتي) (منىً كنّ لي )حتى وجدت المناديا فو
الله لا جاهاً أردت ولا غنىً وحسبي إلى ( الإصلاح )أن كنت ساعيا أفي
دعوة الإصلاح يا قوم ( فتنةٌ ) إذا كان مهر الصمت موتاً مواتيا ** * *
* أيا قلب هل غيرت يوماً سريرتي محباً لشعبي، والقيادات داعيا
لإصلاح هذا البيت من داخل الحمى فقد أبصرت عيناي أسْداً عواديا تحوم
على الأبواب في كل أزمةٍ تلوّح تاراتٍ ، وأخرى تهاديا وشقّـت على قلبي
دماء أحبتي تسيل، ووجه الموت في الأفق دانيا وأشقى ضميري أن أنادي (
قيادتي ) فلا ألتقي من ذا يلبي التناديا
* * * (عليشة) يا
سجناً أليفاً سكنته ويا وجعاً قد فاء للقلب تاليا
لقد كان لي من
قبل لقياك موعد شربت به في السجن مرّاً وحاليا وعشت به عاماً ضريراً،
ويابسا وكم صارت الأيام عندي لياليا وفارقت من بعد اعتقالي وظيفتي
وأصبحت مفصولاً وقد كنت واليا مُنعت من الأسفار( تسعا)، وفوقها ( ثلاثاً،
وللأسفار كنت المواليا ولكنني والله ،ما كنت قانطاً ولا (مبطناً) سوءاً
، ولا (الحكم ) قاليا وما كان قلبي عن بلادي مغيّباً وهل كان مجنون
العناوين ساليا؟! فلما ادلهمّت كرةً بعد كرةٍ دياجي بلادي ، قلت يا نفس
ماليا ؟ ألست الذي قد قاسم ( الأرض ) عمرهُ وأفنى عشيات انتظارٍ خواليا
* * *
( عليشة )ما فرطت يوماً بأمتي ولا وطني ، أنّى ركبت
المراسيا تحدثت عما يثقل الشعب حمله وما كنت إلا الصوت، محزون قاسيا
أفي بلد ( البترول )جوعٌ وعسرة ُ و( ديْنٌ ) تغشّانا ، جبالاً رواسيا
أفي بلد البترول ،عجزٌ، ولم نجد لطلابنا في الجامعات كراسيا أفي بلد
البترول، مليون عاطلٍ ومليون مسكينٍ ، ينادي المواسيا ؟ ترمّدت الآمال،
يا( جيل ) حاضري ويا( جيلنا) الآتي، ستحسو المآسيا لعبنا بـ(مال الشّعب)
حتى ترمّلتِ بلادي،فلا تلقى عن العري كاسيا
* * *
( خُلقت
ألوفاً ) يا ( عليشة ) إنني سأروي على سمعيك ما كان خافيا دعوت (
وأصحابي ) إلى العدل جهرة وما كنت نحو ( العنف ) يا قوم ساعيا جراح
بلادي يا (عليشُ ) خطيرةٌ وفي( مدخل الإصلاح ) نلقى التداويا نشيد على
(الدستور) حكماً وبيرقاً من العدل، خفاق العلامات، زاهيا يصون ( حقوق
الشعب ) قولاً وفكرةً وعهداً ينال الشعب فيه الأمانيا وأن ينصف ( الأنثى
)،فلا ظلم ضدها نساءً.. رجالاً....في الحقوق سواسيا ويفصل سلطاتٍ ثلاثاً
، تشابكت علينا ، فلا نلقى على ( العدل )راعيا ويضمن أن يغدو ( القضاء)
منزهاً رهيفاً كسيفٍ لا يهاب الضواريا ويجعل تشريع القوانين ( دولةً
) لنواب كل الشعب، دانٍ وقاصيا وإشراك ( كل الشعب ) في الحكم، إنه
لقانون هذا العصر، في الأرض ساريا
* * * (عليشة) ، قد روّضت في
السجن وحشتي ومن عتمة الجدران صغت القوافيا وصيًرت ليل السجن عندي
حديقةً تصبّ رضاب الحلم في الكأس صافيا وما اغرورقت عيناي إلا
صبابةً ولا التمعت عيناي إلا أمانيا إذا لم نذد ( بالقول ) عن بيضة
الحمى ونرخص للأوطان ( يُسراً ) وغاليا فإنا سنغدو ( للمضلّين ) مقتلا
ً يصيب الذي في (الحكم) أو كان نائيا الرياض – سجن عليشة -
2004
* عليشه حي في الرياض، يضم سجن المباحث العامة ، حيث يعتقل
الشاعر مع زميليه الدكتور الحامد والدكتور الفالح ، أما مطلع البيت ، فكما هو
معلوم للمتنبي. **تتضمن إحدى التهم الموجهة للشاعر، اشتراكه في إثارة
الفتنة، والتحريض ضد القيادة عبر مشاركته في البيانات والخطابات المطلبية
!!
بروق (الأ سير الفلسطيني )
(تضامنا مع إضراب المعتقلين
الفلسطينيين والعرب، في السجون الإسرائيلية، صمنا ثلاثة أيام ابتداء من
29-8-2004م )
من نبضك الوطنيّ شعّت هذه الأنوارُ وتناقلت إضرابك
( الأمضى ) لنا الأخبارُ وتشرّبت روحي على بعدٍ هوى أشباهها إن
السجين على السجين( اليعربيّ ) يغارُ بخطاك يا شبل ( الضفاف ) الباسلات
و(غزةٍ ) يتوهج التحرير في الأوطان،
والأحرارُ يا من وضعت الروح في كف الردى مزهوةً بشبابك المقدود من
زهرٍ، تُضاءُ النارُ يا أنت ، يالهب الشهيد ،
و ومضهِ بصمودك الجبار، كل سجوننا تنهارُ
اصمدْ – دعوتك - يا أسيرُ، فليس لي من قدرةٍ
في السجن ، إلا الصومُ، أو ما قالت الأشعارُ اصمدْ ،
فإن القيد في الأعناق قارب نَعْشَهُ واستبشرت بالنصرِ فوق
غيومها، الأمطارُ سجن عليشة- الرياض – 2004م
انتهى
معلومات الموضوع
أعضاء يتصفحون هذا الموضوع
يتواجد حاليا 1 يتصفحون هذا الموضوع 0 أعضاء وَ 1
زوار
قوانين الكتابة
- may لا يمكنك إضافةموضوع جديد
- لا يمكنك إضافة ردود
- may لايمكنك إضافة مرفقات
- لايمكنك تعديل مشاركتك
-
Forum Rules
جميع الأوقات GMT +3. الوقت الآن 02:35
PM.
Powered by vBulletin® Version 4.1.12 Copyright ©
2013 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
alsakher.com© All rights are reserved vBulletin
Skin By: PurevB.com
| |
|
الروابط المفضلة